تُعد جريمة الإبادة الجماعية من أخطر الجرائم التي عرفها المجتمع الدولي، حيث تهدف إلى تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بشكل كلي أو جزئي، وقد اعتمدت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في عام 1948، لتكون الإطار القانوني الذي ينظم مسؤولية الدول والأفراد تجاه هذه الجريمة، ومن بين أهم المبادئ التي أكدت عليها الاتفاقية، حظر التواطؤ في الإبادة الجماعية، والذي يشمل أي شكل من أشكال المساعدة أو التحريض على ارتكاب هذه الجريمة البشعة.
وإن تطبيق هذا المبدأ القانوني يتطلب فهماً دقيقاً لمدى المسؤولية التي يمكن أن تقع على عاتق الدول والأفراد عند تقديمهم العون أو المساعدة في سياق قد يسهم في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ففي قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، أوضحت محكمة العدل الدولية أن مفهوم “التواطؤ” يتشابه مع مفهوم “العون أو المساعدة” في ارتكاب فعل غير مشروع دولياً، حيث يكون للدولة دور في تسهيل ارتكاب الجريمة عبر تقديم المساعدة المادية أو المعنوية، كما أن التواطؤ يمكن أن يشمل تقديم الأسلحة أو الدعم اللوجستي، كما رأينا في قضية زيكلون بي، حيث أدانت المحكمة العسكرية البريطانية المتهمين الذين زودوا ألمانيا النازية بالغاز السام، مع علمهم بأنه سيُستخدم في معسكرات الإبادة، وفي قضية أكايسو، اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن توفير الوسائل مثل الأسلحة يُعد شكلاً من أشكال التواطؤ.
بالتالي، إن إسقاط هذا المبدأ على الوضع في قطاع غزة يفتح باباً للتساؤلات القانونية حول مسؤولية الدول التي تقدم دعماً عسكرياً أو مالياً أو لوجستياً إلى أطراف النزاع، حيث يُتهم الجيش الصهيوني بشكل متكرر بارتكاب أعمال يمكن أن ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة، ومن هنا يأتي السؤال عن مدى مسؤولية الدول التي تقدم دعماً للكيان الصهيوني.
ومن الناحية القانونية، تتحمل الدول التي توفر الدعم للكيان الصهيوني مسؤولية كبيرة إذا ثبت أن هذا الدعم يسهم في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة جماعية، ووفقاً لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، يتعين على الدول الأعضاء اتخاذ كافة التدابير لمنع ارتكاب هذه الجرائم، بما في ذلك الامتناع عن تقديم أي نوع من الدعم الذي يمكن أن يسهم في ارتكابها.
مع العلم بأن القانون الدولي لا يتطلب إثبات نية محددة لارتكاب الإبادة الجماعية لدى الدولة المساعدة، بل يكفي إثبات أن هذه الدولة كانت على علم بنية الطرف الآخر لارتكاب الجريمة، حيث يمكن أن تستند هذه المعرفة إلى أدلة ظرفية مثل التغطية الإعلامية الواسعة أو التقارير الدولية التي تُظهر بوضوح نية ارتكاب جرائم إبادة جماعية.
بالتالي، على الدول التي تقدم الدعم للكيان الصهيوني أن تعيد النظر في مدى توافق هذا الدعم مع التزاماتها الدولية، كما يجب عليها التأكد من أن أي مساعدات لا تسهم في ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين في غزة، وفي حال ثبوت ذلك، يمكن تحميلها مسؤولية التواطؤ في الإبادة الجماعية، إذ يتطلب ذلك نهجاً حذراً ومسؤولاً لضمان أن تكون جميع الأعمال الدولية متوافقة مع مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، مما يعزز من مسؤولية الدول في منع ارتكاب مثل هذه الجرائم البشعة وضمان عدم تكرارها في أي مكان في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، إن واجب عدم المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية يُعتبر من المبادئ الأساسية في القانون الدولي، حيث تنص المادة الثالثة (هـ) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها على حظر التواطؤ في جريمة الإبادة الجماعية. إن مفهوم التواطؤ يرتبط بوجود فعل يساعد أو يدعم بشكل مباشر ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، حتى دون وجود علاقة سببية مباشرة أو كونه عاملاً لا غنى عنه في تنفيذ الجريمة.
ففي قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، أوضحت محكمة العدل الدولية أن “التواطؤ” بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية يشبه مفهوم “العون أو المساعدة” في ارتكاب فعل غير مشروع دولياً بموجب القانون الدولي العرفي، هذا يعني أن الدولة قد تكون انتهكت المادة الثالثة من الاتفاقية عندما يتم استيفاء شروط المادة 16 من مشروع مواد المسؤولية الدولية عن الأفعال غير المشروعة للدول (أرسيوا)، والتي تنص على أن الدولة تقدم العون أو المساعدة بطريقة تساهم بشكل مباشر وجوهري في ارتكاب الجريمة، بشرط أن تكون على علم بظروف الجريمة.
كما لا يتطلب انتهاك حظر التواطؤ في الإبادة الجماعية أن تكون للمساعدة علاقة سببية مباشرة مع ارتكاب الجريمة أو أن تكون عاملاً لا غنى عنه في ارتكابها، بل يكفي أن تكون المساعدة قد كان لها أثر كبير في ارتكاب الجريمة، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يشكل الدعم المعنوي، مثل التشجيع، تواطؤاً إذا كان له أثر شرعي أو مشجع كبير على الأشخاص أو الدول التي ترتكب جريمة الإبادة الجماعية.
ولا يشترط لإثبات التواطؤ وجود نية محددة لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من قبل الشخص المتواطئ، بل يكفي أن يتصرف الشخص أو الدولة وهو يعلم أن مرتكب الجريمة الرئيسي لديه نية لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فقد أكدت محكمة العدل الدولية ذلك في قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، وأشارت المحكمة المحلية في لاهاي في قضية تطبيق قانون هولندي لتنفيذ اتفاقية الإبادة الجماعية إلى أن اكتشاف التواطؤ يتطلب معرفة نية مرتكب الجريمة، وليس نية الشريك المحددة للإبادة الجماعية.
وفي ضوء هذه المبادئ، يتضح أنه يمكن تحميل الدول المسؤولية إذا كانت على علم، أو ينبغي أن تكون على علم، بالانتهاكات المحتملة لاتفاقية الإبادة الجماعية وتستمر في تقديم أي شكل من أشكال الدعم الذي يمكن أن يسهم في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. بالتالي، يُتوقع من الدول اتخاذ جميع التدابير اللازمة لوقف أي أعمال – سواء كانت عسكرية أو لوجستية أو مالية أو سياسية أو دبلوماسية – من شأنها أن تساعد أو تحرض على ارتكاب الإبادة الجماعية.
وبالنظر إلى الوضع في غزة، من الواضح أن الدول لديها التزامات واضحة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. عليها أن تمتنع عن تقديم أي دعم يمكن أن يسهم في ارتكاب الكيان الصهيوني لأعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة. هذا يشمل جميع أشكال الدعم العسكري، اللوجستي، المالي، السياسي، والدبلوماسي، إن الالتزام بعدم التواطؤ في جرائم الإبادة الجماعية يعد جزءاً أساسياً من المسؤولية الدولية ويتطلب اتخاذ خطوات فعالة لمنع أي دعم يمكن أن يسهم في ارتكاب هذه الجرائم.
في ضوء ما تقدم، يتضح أن التواطؤ في جريمة الإبادة الجماعية يشكل انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي، وهو ما يستدعي إجراءات صارمة لضمان عدم مشاركة أي دولة أو كيان في دعم أو تسهيل ارتكاب هذه الجريمة، يتطلب التزام الدول بمبادئ اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية اتخاذ خطوات عملية وحازمة لوقف أي شكل من أشكال الدعم الذي يمكن أن يسهم في تنفيذ الإبادة الجماعية.
ومن منظور قانوني بحت، تتطلب المعايير الدولية أن تتبنى الدول الأعضاء في اتفاقية الإبادة الجماعية تدابير فعالة لمنع ومعاقبة التواطؤ في هذه الجريمة. هذا يشمل:
التقييم الدقيق للمساعدات الدولية: يجب على الدول تقييم طبيعة ووجهة المساعدات التي تقدمها للتأكد من أنها لا تُستخدم في ارتكاب جرائم إبادة جماعية. يجب وضع آليات رقابة صارمة لضمان أن أي دعم عسكري أو مالي أو لوجستي يتم تقديمه يتوافق مع القانون الدولي الإنساني.
المساءلة القانونية: على الدول الالتزام بمحاسبة الأفراد والجهات المسؤولة عن تقديم الدعم الذي يسهم في ارتكاب الإبادة الجماعية. يجب إنشاء لجان تحقيق مستقلة أو التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لمتابعة ومقاضاة المتورطين في التواطؤ.
التعاون الدولي: يتطلب منع الإبادة الجماعية تعاونًا دوليًا فعّالًا. يجب على الدول الأعضاء تعزيز التعاون وتبادل المعلومات لضمان اتخاذ إجراءات منسقة لمنع أي شكل من أشكال التواطؤ.
العقوبات الدولية: فرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية على الدول أو الكيانات التي تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية من خلال تقديم دعم مباشر أو غير مباشر لمن يرتكب هذه الجرائم. يجب أن تكون هذه العقوبات قوية بما يكفي لردع أي محاولات للتواطؤ.
التثقيف والتوعية: تعزيز التوعية حول مخاطر التواطؤ في الإبادة الجماعية وأهمية الالتزام بالقانون الدولي. يمكن تحقيق ذلك من خلال برامج تعليمية وتدريبات تستهدف الجهات الحكومية والمنظمات غير الحكومية.
من هنا، في حال عدم التزام الدول بهذه المعايير، يمكن للمجتمع الدولي اللجوء إلى إجراءات إلزامية لضمان التطبيق. هذا يشمل تقديم شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية أو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لاتخاذ إجراءات ملزمة ضد الدول المخالفة. كما يمكن تعزيز دور المنظمات الدولية والإقليمية في مراقبة تنفيذ الالتزامات ومنع حدوث تواطؤ في جرائم الإبادة الجماعية.
ختاماً، إن الالتزام الصارم بالقانون الدولي والتعاون الدولي الفعّال هما السبيل لضمان عدم وقوع جرائم الإبادة الجماعية مجدداً، وتحقيق العدالة لضحايا هذه الجرائم وضمان عدم إفلات الجناة والمتواطئين من العقاب.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.