في عالم يتسم بالتطورات السريعة والتحولات الاجتماعية والثقافية، تبرز أهمية التفسير القرآني بشكل بارز كأداة لفهم النص الديني وتطبيقه في الحياة اليومية، وإن التفسير القرآني يتجلى بوجهيه الوعظي والبلاغي كمصدر أساسي لفهم أبعاد الرسالة الإسلامية وتطبيقاتها في العصر الحديث، كما يعد التفسير القرآني أداة رئيسية تساعد على استيعاب مضامين القرآن الكريم والتعامل معها بما يتلاءم مع الظروف والتحديات المعاصرة.
بالإضافة إلى ذلك، يتضمن التفسير القرآني جوانب متعددة منها البعد الوعظي، حيث يتعلق بتوجيه النصائح والإرشادات للأفراد والمجتمعات، وتوضيح القيم الأخلاقية والسلوكيات الصالحة، على سبيل المثال، في قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ” (النحل: 90)، يتضح التركيز على أهمية العدل والإحسان كقيمتين أساسيتين في الحياة الإسلامية، والتي يمكن أن تكون دليلاً لتوجيه السلوك الإنساني في كل زمان ومكان.
بالإضافة إلى البعد الوعظي، يتناول التفسير القرآني البعد البلاغي، حيث يتعلق بجمالية اللغة والأسلوب المستخدم في القرآن الكريم، حيث يتميز القرآن بلغة عربية فصيحة وجميلة، تحمل في طياتها معاني عميقة ورموزاً دلالية تتفاعل مع العقول والقلوب.، على سبيل المثال، في قوله تعالى: “وَالسَّمَاءَ وَالطَّارِقِ” (الطارق: 1)، يتجلى الأسلوب البلاغي في استخدام القرآن للتشويق والتأثير على المتلقي ليتأمل في خلق الله تبارك وتعالى وقدرته العظيمة.
كما تعتبر الدراسات الشرعية في الزمن الحاضر ضرورة حيوية لفهم الدين بما يتماشى مع التحديات الحديثة والمتغيرات المجتمعية، إذ تلعب هذه الدراسات دوراً حيوياً في تحديد المفاهيم الدينية وتوضيحها، وإزالة التعارضات والتفسيرات المغلوطة التي قد تنشأ نتيجة للتفسيرات الخاطئة أو التأويلات السطحية، بالتالي، فإن الدراسات الشرعية تساهم في بناء فهم دقيق ومتوازن للإسلام كدين شامل ينطوي على تعاليم وقيم تعزز السلم والعدالة في العالم.
باختصار، يتجلى التفسير القرآني بوجهيه الوعظي والبلاغي كأداة أساسية لفهم وتطبيق الدين الإسلامي في الحياة اليومية، بينما تمثل الدراسات الشرعية في الزمن الحاضر أساساً لإزالة اللبس والتوضيح الشامل للمفاهيم الدينية.
من هنا، واستكمالاً لتفسير سورة النمل:
بسم الله الرحمن الرحيم
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ.
ففي الآية 37: يُظهر هذا النص العظيم قوة وسلطان النبي سليمان عليه السلام، حيث يأمر بإعادة قوم سبأ إلى مكانهم بجيوش لا يمكنهم مقاومتها، ليتم إخراجهم من مملكتهم مذلولين ومنهزمين، بما يبرهن على عدالته وقوته الإلهية، والآية 38: في هذه الآية، يطلب سليمان عليه السلام من أمرائه أن يحضروا عرش ملكة سبأ قبل أن يأتوا لها مسلمين، مما يظهر حكمته واستراتيجيته في التعامل مع الأمور وتحقيق الأهداف بالطريقة الأكثر فائدة.
أما الآية 39: يقدم عفريت من الجن لسليمان عليه السلام عرضًا لجلب عرش ملكة سبأ قبل أن يقوم من مقامه، مؤكدًا قوته وأمانته في أداء المهمات الموكلة إليه، مما يبرز الثقة التامة التي كانت تتمتع بها قواته، الآية 40: يأتي الذي عنده علم من الكتاب بعرض عرش ملكة سبأ قبل أن يرتد طرف سليمان عليه السلام، معبرًا عن شكره لنعمة الله وابتلائه بهذا الأمر، وكونه كريمًا غنيًا، مما يبرز الاعتراف بفضل الله والاستعداد للابتلاء، والآية 41: يأمر سليمان عليه السلام أمراءه بنقل عرش ملكة سبأ وتغيير شكله ليُعرض عليها، ليعرفوا إن كانت تهتدي للحق أم لا، مما يظهر حنكته وحكمته في التعامل مع الأمور.
الآية 42: عندما جاء عرش ملكة سبأ، أُعرض عليها بشكل مختلف، فقالت كأنه هو، مؤكدة على قوة وحكمة سليمان عليه السلام وقدرته على التحكم في الأمور، معبرة عن استعدادها للانضمام إلى دينه.
هذه التفاسير تعبر عن التفسير الديني والبلاغي الجميل، استناداً إلى فهم علماء التفسير القدماء والمعاصرين مثل ابن كثير، القرطبي، والطبري، مع الإدراك العميق للمعاني الروحية والقيم التعليمية المستمدة من هذه القصص في القرآن الكريم.
وفي تفسير الآيات وفق أهم علماء التفسير:
تفسير الطبري: يعتبر الطبري في تفسيره أن سليمان عليه السلام أمر أنصاره بإعادة قوم سبأ إلى بلادهم بقوة عظيمة، لتنفيذ عقوبة على تمردهم ولعلهم يتوبون ويرجعون إلى الطاعة.
تفسير الجلالين: يشرح تفسير الجلالين أن سليمان عليه السلام وجه جميع أمراءه بجمع جيوش لتحريكها نحو سبأ لإعادة قومهم إلى مكانهم مذلولين، وهذا لتأديبهم وتوبيخهم على تكبرهم وعدم الاستجابة لأمر الله.
تفسير سيد قطب: سيد قطب يركز على الجانب الروحي والتعليمي للآيات، حيث يعتبر أن هذه الأحداث تبرز عظمة النبي سليمان عليه السلام وحكمته في التعامل مع الأمور وتوجيه أتباعه.
تفسير المعاني للألوسي: يشير الألوسي إلى أن سليمان عليه السلام استخدم قوته وسلطانه لتحقيق العدل والنهوض بالحق، وكان يطلب من أمرائه إحضار عرش ملكة سبأ قبل أن يأتوها مسلمين ليبين لهم الحقيقة ويستوعبوا عظمة الله.
تفسير ابن كثير: يبين ابن كثير أن سليمان عليه السلام بيّن لأمرائه قوة الله وسلطانه، وأمرهم بجمع القوات لتحقيق مطلبه بإعادة قوم سبأ إلى مكانهم بعد مخالفتهم وعدم الاستجابة لأمر الله.
بالتالي، إن هذه التفاسير تعبر عن التفسيرات الدينية والبلاغية الجميلة التي أوردها هؤلاء العلماء المعروفون، وتسليط الضوء على المفاهيم الروحية والتعليمية المتعلقة بالقصة المذكورة في القرآن الكريم.
وبالنسبة للإعجاز البلاغي واللغوي في الآيات المذكورة من سورة النمل (الآيات 37-42) يتجلى بشكل واضح من خلال عدة جوانب:
الإعجاز في البناء الجملي والتركيب: تتميز هذه الآيات ببنائها الجملي المتقن، حيث تجمع بين السرد والأمر والسؤال والرد، مما يضفي تنوعاً وجمالاً على السياق القرآني.
استخدام الأساليب البلاغية: يظهر استخدام اللغة البلاغية في تأكيد الفعل والوعيد، مثل “فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا”، وهو تعبير عن قوة وعزم سليمان عليه السلام، كذلك، الاستخدام المتقن للإيقاع والتوازن في الجمل يعزز من قوة البيان وجاذبيته.
التعبير عن المعاني بشكل متقن: تظهر الآيات استخداماً دقيقاً للغة لنقل المعاني العميقة والأفكار الروحية، مثل تعبير سليمان عليه السلام عن توقعه للحكمة والإرادة الإلهية في “هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي”.
التناوب بين السرد والحوار: يتناوب السياق بين سرد أحداث التاريخ وبين حوارات بين الأشخاص المعنويين مما يُضفي حيوية وتفاعلاً داخل السرد القرآني.
التأكيد على القدرة الإلهية والتوكيد على الدين: تظهر الآيات القوة الإلهية والسلطة الكاملة لله في كلمات سليمان عليه السلام وفي تعبيرات الأخرين حيال ذلك، مما يبرز التوحيد والإيمان بالله الواحد.
باختصار، إن الآيات المذكورة تعبر عن مجموعة من الأساليب البلاغية واللغوية التي تجمع بين الدقة والجمال والعمق، مما يبرز جمال البيان القرآني والرسائل الروحية والتعاليم الدينية التي يحملها.
وجدير بالذكر أننا تحدثنا في مواضع مختلفة عن أهم علماء التفسير وأفردنا لهم صفحات متواضعة توضح دورهم في هذا البنيان المعرفي والذي يمكن وصفه بالخالد رغم رحيلهم، ونخص بعضاً منهم بالذكر:
الإمام الطبري: يُعتبر من أبرز علماء التفسير في التاريخ الإسلامي، ويتميز تفسيره بالتركيز على الأساليب اللغوية والبلاغية والتاريخية، مع التأكيد على العقائد والمعتقدات الإسلامية الأساسية.
الإمام جلال الدين السيوطي: يعتبر تفسيره “الدر المنثور” من أهم التفاسير التي تعتمد على الروايات والأحاديث النبوية، ويركز على شرح الآيات وتوضيح المعاني العميقة للقرآن الكريم.
سيد قطب: عالم مصري شهير بأفكاره الإصلاحية والسياسية والتفسيرية، يعتبر من العلماء المعاصرين الذين أسهموا في فهم القرآن الكريم من خلال تفسيره ومؤلفاته الفكرية الواسعة.
الشيخ محمد متولي الشعراوي: من أبرز العلماء المصريين المعاصرين، اشتهر بتفسيره البسيط والواضح للقرآن الكريم، مع التركيز على تطبيقات القرآن في الحياة اليومية والقضايا الاجتماعية والسياسية.
الشيخ محمد الغزالي: يُعتبر من العلماء المعاصرين الذين تركوا بصمة في مجال التفسير، حيث اشتهر بتفسيره المنطقي والفلسفي للقرآن، وربطه بالعلوم الإنسانية الحديثة والفلسفة.
ابن كثير: عالم تفسير مشهور في العالم الإسلامي، يتميز ببساطة أسلوبه وتفصيله الدقيق للقصص القرآنية، مع توضيح النواحي التاريخية والدينية.
وهذه بعض من آراء كبار العلماء في موضوع التفسير، حيث كل منهم يمثل تقريراً فريداً من وجهة نظره الفقهية والتفسيرية في فهم القرآن الكريم وشرحه.
وبما أننا توصلنا إلى هذه النقطة، يجب أن أهمية الإعجاز والعلوم الدينية بناءً على ما تركه لنا العلماء:
الإعجاز القرآني والأهمية العلمية: الإعجاز البلاغي واللغوي والعلمي في القرآن الكريم يشكل دليلاً قاطعاً على صدق النبوة وعلى أن القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالقدرة الباحثة للإنسان الفطرية على فهم اللغة واستيعابها تجعل من الإعجاز اللغوي والبلاغي في القرآن دليلاً لا يمكن إنكاره على تصديق الرسالة الإسلامية.
أهمية العلوم الدينية: العلوم الدينية هي البوابة التي تفتح أمام الإنسان فهم الدين وتطبيقه في حياته، تشمل هذه العلوم فقه العبادات والمعاملات وعلم التفسير وعلم الحديث وعلم العقيدة وغيرها، وهي تساهم في بناء الشخصية الإسلامية القائمة على القيم والأخلاق الحسنة التي يعلمها القرآن والسنة.
أهمية التعمق المعرفي: التعمق المعرفي في العلوم الدينية يساهم في فهم أعمق وأشمل للقرآن والسنة، ويمكن أن يوفر رؤى جديدة وفهماً أعمق للتعاليم الدينية، إن تحليل العلماء وتفسيراتهم وأبحاثهم تساهم في تطوير المعرفة الدينية وتقديمها بطرق متقدمة ومفهومة للأجيال الحديثة.
لذا، يظل التعمق المعرفي في الإعجاز القرآني والعلوم الدينية أمراً بالغ الأهمية لمن يرغبون في فهم الإسلام بشكل أعمق وتطبيقه في حياتهم اليومية، وهذا يستلزم دراسة وتعلم العلوم الشرعية والفهم الصحيح للتراث الإسلامي العظيم الذي تركه لنا علماؤنا ودعاة ديننا عبر العصور.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.