تطرح حادثة مسجد الإمام علي بمنطقة الوادي الكبير بمحافظة مسقط مساء الخامس عشر من يوليو 2024 ليلة عاشوراء المحرم ، تساؤلات عديدة ونقاشات مستفيضة ، لكونها أول حادثة من نوعها بهذا الشكل تتم في المساجد والمقدسات الدينية في سلطنة عمان، وهي بذلك تعطي مؤشرا أمنيا خطيرا يتقاطع مع السمت العماني والثوابت المعززة للتسامح الديني والتعددية المذهبية والتوازنات الفكرية التي تأصلت في الثقافة والحياة العمانية ، وأيا كان ملابسات هذه الحادثة وأسبابها ومسبباتها ، فإن وجودها في إطار المكون الديني ( المسجد ومرافقه) وفي أيام مباركة، يحمل في ذاته علامات استفهام كبرى، مع ثقتنا ويقيننا التام بأن أجهزتنا الأمنية ممثلة في شرطة عمان السلطانية ، العين الساهرة على هذا الوطن تتعامل مع الحادثة بكل مهنية واحترافية وشفافية ، في استيفاء لملابسات الحادثة والوقوف على تفاصيلها وخيولها، وستقدم مرتكب الجريمة أمام القانون وعدالة الوطن .
ومع تراكمات الأحداث الدولية ومشهد الحرب على غزة وموقف سلطنة عمان الثابت من هذه القضية العقدية والإنسانية والأخلاقية في رفض العدوان والمطالبة بمحاكمة إسرائيل في عدوانها، وفي ظل عالم باتت تحكمه المصالح الشخصية والأنانيات، ومع استبعادنا أن تكون هذه الحادثة حدث مدبر أو سلوك ممنهج ، وهو أمر كما اشرنا، متروك القرار فيه والتصريح بشأنه لأجهزة الدولة المعنية، تأتي أهمية اقتناع المواطن بأن تعزيز الحس الأمني ورفع درجة الوقاية الأمنية سواء في التعامل مع تلك الحوادث التي تفوح منها رائحة المذهبية ومحاولة الإساءة إلى المنظومة الدينية وتجلياتها في الحياة العمانية، أو ما يتعلق منها بالأفكار الأحادية وفرض سلطة الأمر الواقع أو التصيد في الماء العكر عبر حالة الشحن الفكري والتناقضات التي بات تشوه الحقائق أمام الشباب المستخدم للمنصات الاجتماعية، فإن الوعي الجمعي للمواطن الطريق لبناء مجتمع الأمن والاستقرار، وخلق الاستدامة الأمنية وتأصيلها لضمان المحافظة على استحقاقات الصفر العماني في الإرهاب، إذ ولأكثر من عقدين ومنذ إصدار أول تقرير للمؤشر العالمي في الإرهاب، يستمر تصنيف سلطنة عمان كأقل دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعرضًا للهجمات الإرهابية وفقًا لتقرير معهد الاقتصاد والسلام بأستراليا، ، رغم ما شهده العالم في هذه الفترة من أحداث إرهابية جسمية أودت بحياة الأبرياء.
عليه فإن قراءتنا لهذه الحادثة تتجه بنا اليوم إلى أهمية أيجاد مراجعة جذرية للعديد من الملفات التي باتت تشكل هواجس أمام الرأي العام الوطني، وفئة الشباب بشكل خاص، ومن ذلك:
أولا: أهمية الوقوف الجاد على كل الثغرات السلبية التي باتت تفتح المجال لمثل هذه الممارسات المشينة سواء على مستوى المواطن أو الوافدين، وما يتعلق بالمواطن يتطلب الأمر رفع درجة الحس الأمني الوقائي لدى ووضعه في صورة ما يجري في هذا العالم من أحداث مع رفع درجة الحوار معه ورفده بالمعلومات الأصيلة والأفكار الصحيحة والتفاسير الدقيقة لأي أمر يهم الوطن أو يحدث في محيطه أو يمس السيادة الوطنية، إذ من شأن هذه العلاقة الأمنية الحميمية أن ترفع سقف الثقة وتعزز روابط الإخلاص والولاء والانتماء والمسؤولية، في كل ما يتعلق بأمور حياته العامة وسلوكه الاجتماعي أو في تعامله مع المنصات الاجتماعية، أو ما يتعلق منها بالقضايا الفكرية والمعيشية بحيث يأخذ قراءة هذا الموضوع جملة من المعطيات التي لها تداعياتها السلبية على الأمن الوطني، منها على سبيل المثال لا الحصر، ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل وزيادة أعداد المسرحين من أعمالهم والحلقة المفقودة في منظومة العمل والتشغيل والتوظيف والإحلال ، ما يتركه ذلك من هواجس شخصية نفسية وإنتاج أفراد غير عاملين، لديهم من وقت الفراغ ما قد يؤثر سلبا على حياتهم الشخصية والأسرية والاجتماعية، وما بات يطرح من قضايا ترتبط بالبعد الفكري والنفسي والواقع الاقتصادي والاجتماعي في ظل ارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة ، والاتجاه إلى الشكليات على حساب الجوهر ، وانتشار الظواهر السلبية في المجتمع ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ، وتداعيات ذلك على المواطنة والهوية والولاء الوطني والانتماء، وما يسهم به هذا الفراغ الاقتصادي والاجتماعي من تحديات ترتبط بانتشار الجرائم والظواهر السلبية وتأثيراتها على قناعات الشباب حول نفسه ومجتمعه ووطنه ، في ظل التأثير الحاصل للتقنيات والمنصات الاجتماعية التي غيرت مسار المعادلة وأضافت أعباء كبيرة على المؤسسات أن تتنبه لها في قدرة هذه المنصات على تغيير الواقع والتغذية الفكرية السلبية .
ثانيا: مراجعة السياسات الوطنية في التوظيف والتشغيل والإحلال بالشكل الذي يقلل من سيطرة القوى العاملة الوافدة على سوق العمل ، مع ضبط وجود هذه العمالة في ظل ما أتاحته لها القوانين والأنظمة من فرص عززت فيها الثقة، وضيقت في المقابل على حياة المواطن ، وبحسب إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات فقد شهد عام 2022 ارتفاعا في العدد الإجمالي للقوى العاملة الوافدة بالقطاع الخاص، بمقدار( 323.293) عاملا وعاملة، حيث ارتفعت أعدادهم من (1.489.339) عام 2021 إلى ( 1.812.632) عاملا وعاملة بنهاية عام 2022م، حيث توزعت على (81.2%) في فئة الأعمال التجارية، و(18.8%) في فئة الخدمات الخاصة، حيث تتوزع القوى العاملة الوافدة بفئة الأعمال التجارية على النحو التالي: الجنسية البنجلادشية (36.3%) والجنسية الهندية (35.5%) ، والجنسية الباكستانية (17.7%) وقد استحوذت هذه الجنسيات الثلاث مجتمعة على نسبة مقدراها (89.6%) من العدد الإجمالي للقوى العاملة الوافدة بفئة الأعمال التجارية. حيث بلغ عدد العاملين من الجنسية البنجلادشية ( 587917 )عاملا ، تليها الجنسية الهندية وبلغ عددها 506184 عاملا، فيما تأتي الجنسية الباكستانية في المرتبة الثالثة بواقع 228681 عاملا في حين يتوزع العدد الباقي منهم على باقي الجنسيات، بما يؤكد أهمية إعادة هيكلة وتصحيح التركيبة السكانية للوافدين في سلطنة عمان ورفدها بجنسيات أخرى لائقة، فإن السيطرة الديمغرافية التي أوجدها الكم الهائل من الجنسيات الثلاث: البنجلادشية والهندية والباكستانية، والسلبيات المترتبة على هذا الأمر، وتصدر الجنسية البنجلادشية التركيبة السكانية للوافدين في سلطنة عمان، أمر يدعو للقلق وينذر بمخاطر أمنية واقتصادية واجتماعية وتغييرات في منظومة الهوية والقيم والتقاليد الأصيلة ورفع درجة الجهد الوطني في مواجهة خطر العمالة السائية والمتسللين بطرق غير مشروعة لأرض السلطنة، في ظل ما بات يصدر عنها من جرائم وسلوكيات وممارسات أثرت سلبا على كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية للإنسان العماني، وحالة الاستنزاف وسوء الاستخدام للموارد، وغياب معايير الالتزام بقيم المجتمع واحترام خصوصياته، ناهيك عما بات يرتبط بوجود هذه الجنسيات من نقاشات على مستوى المنظومات الدولية الخاصة أو العامة حول التزامات بشأن التوطين ومشاركة الموارد والضغط على القرار الوطني.
ثالثا: إن استمرار صورة التوازنات الفكرية وتعمقها في الشخصية العمانية وتكيفها مع الظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية، دون أن تؤثر عليها محاولات التشويه وموجات التحريض؛ إنما يرجع إلى الثبات في الإجراءات وكفاءة واستقرار أدوات وآليات الرقابة والمتابعة التي احترمت الخصوصية الدينية وعززت السلامة الفكرية والعقدية ما منع إثارة أي مدخل يفرق بين أبناء الوطن الواحد بسبب الدين أو المذهب، أو اللون أو الجنس أو غيرها من المنغصات التي باتت تهدد تماسك الدولة وقدرتها على النمو، ما يؤكد على أهمية المحافظة على ثبات الإجراءات التي اعتمدتها الدولة العمانية في ترسيخ الأمن والاستقرار والسلام والتعايش والحوار مع إضافة التجديد عليها بما يتناغم مع أدوات العصر ومتطلباته، ويستفيد من توظيف التقنية والفضاءات المفتوحة في إعادة آليات الخطاب الديني والإعلامي والتربوي وطريقة التعامل مع الأدوات والية استخدامها، والمحافظة على السياسات التي انتهجتها في ما يتعلق بالاهتمام بالثوابت والخصوصيات والتسامح الديني سواء ما يتعلق، بالخطاب الديني وفلسفة الأوامر والنواهي وبناء المساجد، أو يتعلق بالاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والسياحية والاستثمارية على المستوى الإقليمي والدولي وضرورة استحضار الأبعاد الأخلاقية والخصوصية العمانية في قبول توجهات المنظمات الدولية المرتبطة بالمرأة والطفل وحقوق الإنسان والعمل والعمال.
عليه تبقى هذا الحادثة النكراء جريمة في حق الوطن، يجب الوقوف على ملابساتها وأحداثها القادمة بكل جدية، لاستجلاء الأمر، وضبط المسار، وتصحيح الصورة، ووضع حد لكل المشوهات الفكرية وقطع كل يد عبثية تمتد إلى قلعة الوطن الحصينة وصموده الشامخ. حفظ الله عمان وسلطانها وأبنائها من كل مكروه.
د. رجب بن علي العويسي