شكل الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970 ، علامة فارقة في بناء الدولة العمانية المعاصرة بقيادة مؤسسها المغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، نهضة تنموية وفق منظومة حضارية فكرية عصرية غيرّت مجرى الحياة في عمان، بما حملته من مبادئ راقية وأذواق نبيلة، وتوظيف أصيل للفكر الإنساني المعتدل في تكوين ذاكرة عمان المتفردة ، وأكدت منذ اللحظة الأولى في ثوابتها على حضور البعد الفكري وتعظيم المحتوى المعرفي وإعادة إنتاج الثقافة الوطنية في ظل مرحلة متجددة من البناء، وضعت الإنسان العماني واحترام حقوقه في أولويات الاهتمام ومحور العمل ، فجسدته إلى مبادئ ومنهجيات في العمل الجاد المخلص الدؤوب، حوار مع النفس يحاكي خلجاتها ويلامس شغافها ويسمو بفكرها ويبعث فيها الأمل بغد مشرق سعيد ينبض بالحياة ويستجيب للأمنيات العراض والأحلام الكبيرة والغايات البعيدة، فتحقق ما سعت إليه القيادة الحكيمة في مقومات العيش الكريم وترسيخ مكونات بناء الدولة، فكان الأمن والأمان والسلام والاستقرار والتنمية والرخاء والإنتاج والاستثمار وفق مبادئ الحق والعدل والمساواة، ووجهت الإنسان العماني إلى خُلُق التعايش والمحبة والسلام، ومكّنتهُ من الاستفادة مما أتيج له من فرص التعليم والصحة والتثقيف والتطوير والخدمات والأمن، وما عززته فيه من قدرات مهنية في اختيار الثقافة الواعية والأهداف الرصينة والأساليب الراقية.
وجسدت نهضة الثالث والعشرين من يوليو حوار المبادئ الثابتة المتأصلة في الخطاب الرسمي والشعبي العماني، المتجذرة في علاقة الشراكة بين القيادة والشعب والتصالح الداخلي مع النفس والآخر في المجتمع العماني الواحد بكل أطيافه في انسجام فريد وسلوك تفاعلي يقوم على مبادئ الاعتراف والخصوصية والاحترام والتقدير، ومبدأ التواصل الدولي مع محبي السلام في العالم في إطار قيم الحق والعدل والإنصاف، نُهُج متناغمة مع طبيعة التحولات، متطورة مع المستجدات والاحتياجات والطموحات ، محافظة على أصالتها وثوابتها، منطلقة من توظيف الفرص الإنسانية لمزيد من الحوار والتعايش والوئام الإنساني، مدركة بأن التعاطي مع التحديات وفق منهجيات واضحة وأرصدة علمية وعملية، سوف يضمن المحافظة على مسار التوازنات الفكرية في تحقيق أولويات الوطن والمواطن، ويقلل من حالة صراع الأفكار وتغاير القناعات في ظل ما تشهده البلاد من تطور وتقدم ونهضة تنموية في مختلف المجالات، لذلك كانت رؤية العمل الوطني التي انطلقت من تعظيم الرصيد الديني والقيمي والفكري والثقافي والنهضوي، وأطرته من مسارات الرقابة والمتابعة لضمان كفاءة إجراءات تحقيق الثوابت الوطنية القائمة على التسامح الديني والتعددية والتعايش الفكري والوئام الإنساني، ليتكامل مع الفرص التنموية والرغبات الشخصية بما لا يتقاطع مع الحدود والضوابط والقوانين ولا يستعلي على الثوابت الوطنية، الطريق لحفظ الإنسان من الشطط وإبعاده عن مزالق السقوط الفكري، مدد له لإعادة إنتاج دوره وتصحيح ممارساته والوقوف على مسؤولياته والمحافظة على مكتسبات وطنه وضمان التزامه بما فرضته سيادة الدولة من واجبات ، فيعظمها في ذاته ويجسدها في ممارساته.
من هنا ارتبطت مبادئ الثالث والعشرين من يوليو، بحضور فكري رشيد متوازن منح النهضة العمانية فرصتها للاستدامة وطريقها للتفوق في وقت كان فيه العالم أجمع يعاني من خيبات الأيديولوجيات الفكرية والمذهبيات الدينية ظلت سلطنة عمان في تماسك مكوناتها وتناغم منظوماتها لم تتزعزع أمام صيحات التغريب الديني أو التشوهات الفكرية، وكان لهذا النهج المتوازن أثره في قدرتها على إدارة التحولات وضبطها وتوجيه الاهتمام إلى تربية التوازن في بناء الإنسان وصقله وإعداده لمهام المستقبل، من خلال تعميق الاستفادة من الإرث الحضاري العماني وترسيخ الهوية الوطنية كمنطلقات لبناء دولة عصرية ، في ظل ما ترصده من تحولات في فكر الإنسان وقدرته على التعاطي مع الواقع المعاصر والتعامل مع المتغيرات بروح عالية وأنموذج متفرد في العطاء والمبادرة ، وترسيخ قيم الولاء الوطني والمواطنة الإيجابية والفكر المعتدل والتسامح الفكري، عبر قراءة النهضة في مداخل قائمة على الشمولية والاستدامة والتنوع والأصالة والمعاصرة وتعميق منهجيات الحوار، للقناعة بأن قدرة الدولة على تطبيق موازين العدالة والمساواة والأمن والأمان والنظام، والمحافظة على التراث والهوية وترسيخ الأخلاق ومنظومة القيم في الحياة السياسية والمهنية والعامة، وتمكين حضور الإنسان العماني في كل مجالات النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية ، يرتبط بقدرتها على تأصيل منهجيات البناء الفكري والثقافة المهنية المتجددة، وتأصيل الفكر التنموي المعزز بالعلم والبحث والتجريب والابتكار والتأمل، وترسيخ إيجابيته في التعاطي مع مستجدات التطوير وتقبله له واعترافه بدور الدولة ومسؤوليته نحوها.
عليه تضعنا معطيات التطرف الفكري والفكر التكفيري والضال المرتبطة بحادثة الوادي الكبير، أمام قراءة عميقة بما سطرته نهضة الثالث والعشرين من يوليو من مرتكزات وثوابت وطنية في مواجهة التحديات الفكرية والتعامل مع المنغصات التنموية المرتبطة بالفكر التكفيري ، والتي ظلت خلالها عمان وعلى مدى خمسة عقود ونيف، في منأى عن هذه المهاترات الفكرية ، والتقزّمات المذهبية والدعوات الجاهلية والحزبية التي أنتجها الفكر المتطرف ، ليؤكد اليوم أن هذا التأريخ العظيم الذي رسم معالم الدولة العمانية المعاصرة، خيوط ممتدة لنهضة عمان المتجددة، ومحطة اتصاليه روحية متناغمة مع أبجديات البناء الإنساني ، لما تؤطره من نهج التسامح الفكري والتعايش المعرفي وتؤكده من سلامة الفكر وتوازن التفكير في سلطنة عمان ، فإن في توجيهات المغفور له بإذن الله من الحكمة والفراسة والحدس بما يحمله الفكر المتطرف من خطر على التنمية والوطن، حيث جاء في إحدى اللقاءات الصحفية في عام 1995 قوله: ” إنني على ثقة بأن شعوب العالم العربي لو وضعت ذلك في ذهنها ولو اعترضت وقاومت بشدة حجج وخداع الذين يريدون تحريف وتشويه ديننا لتحقيق غايات سياسية عندها لن يفلح ذلك الخطر أبدا” ( 30/ 4 / 1995- جريدة عمان). ما يضعنا اليوم – ونحن نستذكر حادثة الوادي الكبير، أمام مسؤولية تعظيم المرتكزات والإجراءات والضوابط الرقابية التي وضعتها النهضة وإعادة إنتاجها بما يتناسب مع طبيعة الظروف والمتغيرات المعاصرة، بما منحته من ممكنات وموجهات في التعليم والخطاب الديني والإعلامي، أوجدته من مرتكزات أصيلة في مناهج التعليم وتربية النشء على التوازن الفكري وسلوك الاستقامة الفكرية والدينية، وعظّمته من قوانين وتشريعات حفظت سلطنة عمان من هذه الأفكار الدخيلة والمعلبات الفكرية السامة، والتشوهات الفكرية السقيمة التي لا تؤدي إلى خير، ولا يرجى منها نفع، وتسهم في نشر الثقافة السلبية القائمة على التنكر للتنمية وجهود المخلصين من أبناء الوطن، وزرع الشقاق والفرقة بين المجتمع الواحد، فمنبتها مذموم وتوجهها عقيم وغايتها دنيئة وهو الشر والإثم المحتوم.
أخيرا .. لقد عصمت نهضة البناء الفكري في عمان أبناء عمان وبناتها من مزالق التطرف والتهور، والسلبية والعشوائية والإحباط والسلبية التي يعيشها إنسان العصر، وعززت من قيم الإيجابية والتفاؤل واحترام وجهات النظر، وأكدت في خطابها الإعلامي والديني ومسارها السياسي والتعليمي والاجتماعي منطق التشارك الفكري وحوار العقل والروح. إنها عمان الحضارة والوعي والتأريخ والإنسانية والقيم والعدالة، التي اكسبتها الحكمة العمانية ثوبا جديدا ونهجا مجيدا فتبدل وجهها الشاحب ونفضت عنها غبار العزلة والجمود، وانطلقت تفتح أبواب الإنجاز ونوافذ الأمل للنور الجديد تعلن للعالم عن اتصال مباشر تتفاعل مع تطوره وتتأثر بمجرياته وتمتلك أدوات القوة في اختيار ما تريد منه، وتوجه بوصلة عملها في التعامل معه، وهو السر الذي رافق النهضة العمانية والنهج الذي عزز من نسيج التكامل والتعايش والحب على أرض عمان: السلام والوئام. ستزول تأثيرات حادثة الوادي الكبير النفسية والفكرية بلا رجعة، وتبقى عمان بمنهجها الثابت ونهجها المتقدم قلعة التأريخ الشامخة، وواحة الأمن والأمان الحصينة.
رحم الله باني عمان، الخالد في قلوبنا قابوس بن سعيد، وحفظ الله سلطاننا المجدد هيثم بن طارق المعظم.
د. رجب بن علي العويسي