في كثير من الأحيان يشعر المرء بالملل عندما يتبين له أن ما يقوله اليوم سبق أن قاله بشكل أو بآخر عدة مرات في سنوات سابقة .
ما بعد 7 أكتوبر لا ينبغي أن يكون مواصلة لما كان قبلها .
علي كل الأطراف مراجعة مواقفها ، معسكر الممانعة لجرد ما لديها من أدوات ( بما في ذلك التفاوض الخشن ) لتحسين مواقفها التفاوضية ..
ومعسكر الموادعة لإعادة النظر في كل مقترباتها التي سمحت للكيان الصهيوني العنصري أن يتمدد ويزداد توحشا وشراهة في التوسع واستهانة بالأطراف الأخري سواء الممانعة أو الموادعة .
أتصور أن هناك طريقا ثالثا لا يسلكه الممانعون خشية إتهامهم في صلابتهم ، ولا يمتلك الموادعون شجاعة الإقتراب منه خشية فقدانهم لإمتيازاتهم الشخصية ، وفي الرأس منها قلادة الواقعية والمرونة .
طريق يحترم معطيات الواقع دون أن يخضع لها في كل حساباته ، ويؤمن بأن أي حركة تحرر لابد أن تتفاوض وفي يدها بندقية ، وإلا فلن يكون لدي المستعمر أي دافع جدي للتنازل عن موقفه التفاوضي المتميز بقوة القهر .
هذا الطريق الثالث أصعب من ممانعة بلا خطة سياسية عملية ، وأشرف من موادعة تري أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، وتكتفي بالغناء من نوتة المستعمر .
الممانعة المطلقة ، هي ذخيرة مستنفذة بلا جدوي ، وأستنزاف لدماء بريئة دون توفير أي قدر من الحماية ..
الموادعة المطلقة ، هي مجرد إستلقاء علي فراش المستعمر ، مع أمل أن يترك هامش لحفظ ماء الوجه ، مع التسليم بشرعية الإغتصاب .
الطريق الثالث ، ينقذ الغاصب والمغتصَب من صراع دموي طويل ، مهما كانت الهدنات المتتالية ، وأوهام سلام هو في حقيقته إستسلام مموه ، ومجرد تأجيل لحسم الصراع إلي تاريخ مستقبلي قد يكون أكثر دموية ورعبا علي كل الأطراف .
الكيان الصهيوني ، بغرور القوة ، قد يفقد كل ما حققه من مكتسبات أتاحت له حتي الآن إختراقا سهلا وأرباح مؤكدة في صفوف المحيط الإقليمي ، بل ربما يخسر مواقعا متقدمة أحرزها في أهم دول الجوار .. ومن المؤكد أنه لا يرغب في العودة للمربع الأول في معادلات الصراع مرة أخري .
فريق الموادعة الذي صدمته وقائع السابع من أكتوبر ، وأحرجته أمام قواعده ، لن يستطيع مواصلة الإنبطاح في ظل تصاعد الخط الممانع ، وعجزه عن تقديم أي بديل حقيقي قابل للتحقيق .
فريق الممانعة الذي يغمض عينيه عن الحقائق علي الأرض ، ويواصل الرفض المطلق للمزج الماهر ما بين ادوات التفاوض الخشن ( المقاومة المسلحة ) ، وأدوات التفاوض الناعم ( الدبلوماسية ) ، فإنما يفقد بدوره علي المدي الطويل ثقة ودعم قواعده ، لأنه لم يتفهم ضرورات التعامل مع الممكن في إطار الدفع في اتجاه الأصعب .
بعد الدمار الشامل في غزة ، فقد الفريق الممانع علي الجانبين الكثير من أوراقه التفاوضية ، فمهما كانت مشاعر الغضب والرغبة في الإنتقام الأعمي لدي مجتمع الكيان الصهيوني ، فلابد أن قطاعا كبيرا منه يدرك الآن حدود القوة ومحدداتها ..
كما أن فصائل المقاومة المسلحة ، التي نجحت في هز كمون المعادلات السابقة ، لن تستطيع أن تواصل نفس المنهج بلا أثمان سياسية بعد المعاناة الرهيبة للشعب الفلسطيني ، فلابد من تعديل في المنهج السائد كي يتاح لها المشاركة في صياغة المعادلات التالية .
أن الكيان الصهيوني لم يُهزم ، ولكنه ارتج بوقع صدمة مروعة تشبه مع فوارق تكتيكية ما حدث عند عبور القوات المصرية لقناة السويس.
كذلك لم تنتصر المقاومة ، وإنما أحرزت موقعا متقدما قد يتيح لها مقعدا علي مائدة التفاوض القادم ، وعليها أن تتحلي ببعض الواقعية دون تفريط ولا إفراط .
وقد يكون من المبكر البدء في الصياغات المحتملة ، أو محاولة ترتيب البضائع للصفقة القادمة ، فلابد اولا أن ينقشع دخان المذبحة في غزة ، ثم ينجح دعاة الطريق الثالث سواء في تل أبيب او قيادات المقاومة في بناء الثقة ، بمساعدة دولية وإقليمية ، وصولا إلي النتيجة الحتمية التي يعرفها كل الأطراف ويتفادون دفع ثمنها ، وهي بشكل أو بآخر تطبيق متأخر للقرار رقم 181 الذي صدر قبل 75 عاما ، لتقسيم الجغرافيا المحدودة بين شعبين في دولتين ، مع بعض التعديلات الواقعية التي تسلم بضرورات إستمرار الحياة علي طرف ، وكذلك خلق حياة فعالة علي الطرف الآخر .
معصوم مرزوق