نشأت مصطلحات الشرق الأدنى، والأوسط، والأقصى، في مطابخ الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر في سياق الصراع الدولي آنذاك بين الإمبراطورية البريطانية وروسيا القيصرية. وكانت الاستراتيجية البريطانية تقوم على دعم تركيا والصين في مواجهة روسيا. فما كان مجاوراً لتركيا، من مصر إلى بلاد الشام إلى إيران، عدته بريطانيا، ومعها سائر الدول الاستعمارية الأوروبية، “شرقاً أدنى”، وما كان مجاوراً للصين، مثل اليابان وكوريا وبعض جنوب شرق آسيا، صار اسمه “الشرق الأقصى”، وما كان مجاوراً للهند، درة التاج البريطاني، وصولاً إلى آسيا الوسطى، كبؤرة صراع جغرافي-سياسي مع روسيا، كان “الشرق الأوسط”.
تبلورت تلك التسميات، التي تقسم مناطق العالم استناداً إلى موقعها من الغرب، ومن لندن تحديداً، في “مكتب الهند” في لندن، المسؤول عن إدارة المستعمرات البريطانية في الهند، وصولاً إلى جنوبي اليمن.
لا بد من التنبه إذاً إلى أن هذه التسمية “مركزية أوروبية”، وأنها تكرس الغرب مركزاً للعالم، وأنها من إنتاج مطابخ القرار الاستعماري، ومن أهمها نادي النخبة الخاص في لندن المسمى “النادي المشرقي” Oriental Club، الذي كتب أحد أعضائه، توماس تايلور ميدوز، رسالةً إلى صحيفة الـ “تايمز” البريطانية، أعيد نشرها في مجلة Little’s Living Age الأمريكية، العدد 47، خريف عام 1855، أكد فيها على أهمية دعم تركيا في “الشرق الأدنى”، والصين في “الشرق الأقصى”، من طرف بريطانيا خصوصاً والغرب عموماً.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اتخذ مصطلح “الشرق الأدنى” بعداً استشراقياً، يدلل على هوية ثقافية، كأساس لعلم الآثار التوراتي الذي يتناول المنطقة التي يفترض أن أحداث العهدين القديم والجديد وقعت فيها. هنا جرى استثناء الهند من التعريف، وضم ليبيا والحبشة والقوقاز وأرمينيا إليه، إضافةً إلى فارس والأناضول وبلاد الشام وما بين النهرين والجزيرة العربية، والمشمولة أصلاً في التعريف.
كان مفهوما الشرقين الأدنى والأوسط يندمجان بفعل تغيرات المشهد الدولي وخرائط النفوذ الاستعماري، فإذا كان مصطلح “الشرق الأدنى” يعني سابقاً ممتلكات الدولة العثمانية، ومنها البلقان، وإذا كانت “المسألة الشرقية” تعني الاستراتيجيات الأوروبية في التعامل مع تلك الممتلكات في نهاية القرن التاسع عشر، فإن استقلال دول البلقان عن تركيا، أخرجها من تعريف “الشرق الأدنى”، كما أن انحلال السلطنة العثمانية، وتمدد الاحتلال الأوروبي شرقاً، ومن ثم استقلال الهند عن بريطانيا عام 1947، كرس كله مصطلح “الشرق الأوسط” بديلاً للأدنى، وأخرج الهند من إطاره، وإن كانت بعض التعاريف المعاصرة ما برحت تضع أفغانستان وباكستان في “الشرق الأوسط”.
وكان ما جلب مصطلحي “الشرق الأدنى” و”الشرق الأوسط” إلى التقاطع، ليبدأ الثاني بالحلول محل الأول مع بدايات القرن العشرين، هو إيران، وبصورةٍ أدق، الصراع الغربي مع روسيا على إيران. وفي عام 1900، نشر السير توماس إدوارد غوردون، أحد كبار ضباط الاستعمار البريطاني وخبرائه في الهند وفارس وآسيا الوسطى، مقالةً بعنوان “مشكلة الشرق الأوسط” تتناول إيران أساساً.
ويزعم عالم الجغرافيا السياسية الأمريكي ألفرد ثاير ماهان، في كتابه “دراسات في العلاقات الدولية السياسية والبحرية سابقاً ومستقبلاً”، والمنشور عام 1902، أنه مخترع مصطلح “الشرق الأوسط”، والذي يقول إنه لم يره سابقاً من قبلُ.
لكنّ الخلط بين المفهومين استمر عقوداً، ومن ذلك كتاب نشره الصحافي البريطاني بيرترام لينوكس سيمسون عام 1910 تحدث فيه عن وحدة “الشرقين الأوسط والأدنى”، “من الهند وأفغانستان وفارس إلى عربستان (يقصد الجناح الآسيوي من الوطن العربي) إلى آسيا الصغرى (يقصد الأناضول)، وأخيراً، وليس آخراً، مصر”.
والحقيقة أن البريطانيين كانوا أميل إلى التمسك بمفهوم “الشرق الأوسط”، باعتباره يكرس نفوذهم الاستعماري وامتداده، كما نرى مثلاً في كتاب وضعه النقيب البريطاني في الهند ترنشارد كريفِن فاول عام 1916 عن ترحاله بين كراتشي وفارس وسورية، لم يذكر فيه “الشرق الأدنى” مرة واحدة، مصراً على تعبير “الشرق الأوسط” عبر صفحات كتابه.
نرى، بالمقابل، أن الفرنسيين استمروا مدةً أطول في استخدام تعبير “الشرق الأدنى”، وخصوصاً بعد استعمارهم لسورية ولبنان، وأنهم ما برحوا يستخدمون هذا المصطلح اليوم Le Proche Orient، للدلالة على “الشرق الأوسط”، مع أن الترجمة الحرفية للمصطلح هي “الشرق القريب” (لا “الأوسط”).
كذلك، نلاحظ أن وزارة الخارجية الأمريكية وضعت كل شؤون المنطقة المسماة استعمارياً “الشرق الأوسط”، منذ عام 1992، ضمن مسؤولية “مكتب شؤون الشرق الأدنى” Bureau of Near Eastern Affairs، وهو يضم فرعاً مختصاً بسورية ولبنان والأردن، وآخر مختصاً بالدول الخليجية واليمن، وآخر مختصاً بشمال إفريقيا (من دون السودان)، وآخر مختصاً بالشؤون الفلسطينية و”إسرائيل”، وآخر للشؤون العراقية، وآخر للشؤون الإيرانية، وفروعاً أخرى للإشراف على المبادرات والمشاريع الأمريكية في المنطقة المحددة أعلاه.
العبرة أن تعريف “الشرق الأوسط” هلامي أولاً، ويجري تحديده بحسب المناظير الاستعمارية وموازين القوى الدولية والإقليمية المتغيرة ثانياً، وأنه ينطلق من مركزية الغرب في العالم ثالثاً، والأهم، رابعاً، أنه مفهوم يستهدف القاسم الحضاري المشترك في بلادنا، أي العروبة هويةً وجغرافيا، ويفسح مجالاً لوجود “إسرائيل” ككيان طبيعي بيننا.
أما التعريف الدارج لما يسمى “الشرق الأوسط” اليوم، فيضم تركيا وإيران وكل الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام ومصر. ويبنى عليه ما يسمى “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” MENA، الذي يضيف السودان والمغرب العربي (ما عدا موريتانيا). وهناك أيضاً “الشرق الأوسط الأكبر” Greater Middle East الذي يضيف موريتانيا وباكستان وأفغانستان وأجزاء من شرق إفريقيا، وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى أحياناً.
ويقابل ذلك ثقافياً مصطلح “المشرقية” الذي يستند إلى الضبابية الاستعمارية ذاتها. والأصح الحديث عن وطن عربي، أو عالم إسلامي، أو حتى عن معالم جغرافية محددة بأسمائها، لا بحسب مواقعها من الغرب، كما يراها منظروه واستراتيجيوه.
إبراهيم علوش
الأسبوع الأدبي، مجلة تصدر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق