في القرآن الكريم، تأسر سورة النمل القلوب وتلهم الأرواح بآياتها المتلألئة كنجوم السماء في ليلة صافية، إن هذه السورة المباركة، التي تتجلى فيها الحكمة الإلهية وجمال البيان، تجسد قوة القرآن الكريم وعظمته التي لا تُضاهى، إذ تبدأ السورة بحروف متقطعة، تثير في النفوس تساؤلاً عميقاً وتدعو للتدبر والتأمل، كأنها مفتاح لدخول عالم من الأسرار الإلهية والحكمة الباهرة.
وعندما نتأمل في قصة سليمان عليه السلام والنملة، نرى مشهداً يصور لنا دقة التصوير القرآني وروعة البيان، فالنملة الصغيرة التي تحدثت بلسان فصيح لتبلغ قومها خطر جيش سليمان، تكشف لنا عن عالم من العجائب والآيات التي لا يمكن للعقل البشري أن يدركها إلا من خلال الوحي، وإن الله سبحانه وتعالى، في كلماته المباركة، يمزج بين عناصر الكون كلها: الإنسان، الحيوان، والطبيعة، ليبرز لنا وحدة الخلق وعظمة الخالق.
وفي استعراض مشاهد أخرى، نجد قصة هدهد سليمان وهو يكتشف مملكة سبأ، فتتجلى هنا قدرة الله عز وجل وعلمه الشامل الذي يحيط بكل شيء، وإن الحوار بين الهدهد وسليمان عليه السلام، بمفرداته الرشيقة وتعبيراته البليغة، يعكس عمق الحكمة الإلهية ويبرز قدرة البيان القرآني على نقل المعاني العظيمة بأبسط الكلمات وأبلغها.
بالتالي، إن سورة النمل، بروعتها اللغوية وبلاغتها العالية، هي انعكاس لجمال القرآن الكريم الذي يتجلى في كل حرف وكلمة، هي شهادة حية على أن هذا الكتاب العزيز ليس مجرد نص أدبي، بل هو وحي إلهي يحوي في طياته علماً لا ينضب وحكمةً لا تفنى، فالقرآن الكريم، بسوره وآياته، يفتح لنا أبواب الفهم والتدبر، ويدعونا لاكتشاف روائع الكون وأسراره، لنزداد إيماناً بعظمة الخالق وبديع صنعه.
وبهذا النسيج الفريد، تجمع سورة النمل بين العبرة والحكمة والجمال، لتبقى منارة لكل باحث عن الحقيقة، ودليلاً على أن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي تفيض بالحكمة والإرشاد والجمال، وتظل تتحدى العقول عبر العصور، وفيما يلي نستكمل تفسير ما تيسر من سورة النمل.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ.
وصَدَّهَا عَنِ التوحيد ما كانت تعبد من دون الله من الشمس وغيرها، إنها كانت من قوم كافرين بالله، فحالت عبادة الأوثان بينها وبين قبول الحق. قيل لها: ادخلي القصر الممرد الذي بناه سليمان عليه السلام، فلما رأته ظنت أنه ماء غمر، فكشفت عن ساقيها لئلا تبتل ملابسها، فقال لها سليمان: إنه قصر مبلط من زجاج، وليس ماءً. فأدركت أنها أمام مشهد غير عادي وفوق تصوراتها، فقالت: رب إني ظلمت نفسي بعبادة غيرك، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
ثم تنتقل الآيات للحديث عن قوم ثمود، ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فإذا بهم ينقسمون إلى فريقين: فريق يؤمن بما جاء به صالح، وفريق يعانده ويكذبه. قال صالح لقومه: يا قوم لماذا تستعجلون العقوبة وتطلبونها بدلاً من طلب الرحمة والبركة من الله؟ لو لا تطلبون المغفرة من الله لعلكم تُرحمون. قالوا لصالح: إنا نتشاءم بك وبمن معك، ونرى أن وجودكم بيننا يجلب لنا سوء الحظ، رد عليهم صالح قائلاً: طائركم عند الله، أي أن شؤمكم من سوء أعمالكم وليس منا، بل أنتم قوم تُفتنون بالاختبار وتُبتلون بالعقوبات، وكان في مدينة ثمود تسعة رجال معروفين بالفساد والإفساد في الأرض، لا يسعون للإصلاح، بل يمتهنون الظلم والجور، ويؤذون الناس بغير حق.
وفي التفسير أكثر دقة، (وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ)
في تفسير ابن كثير: ما منعها من عبادة الله وحده واتباع الحق إلا عبادة قومها للشمس من دون الله، فهي كانت متأثرة بعقائد قومها الكافرين.
وفي تفسير الطبري: ما صرف بلقيس عن عبادة الله إلا ما كانت تعبده من دون الله من الأصنام والشمس، وإنها كانت من قوم كافرين بالله.
أما في معاني القرآن للآلوسي: الأصنام وعبادة الشمس صرَفتها عن التوحيد، فهي كانت من قوم قد تعودوا على الكفر.
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
وفي تفسير الجلالين: قيل لبلقيس ادخلي القصر الممرد من زجاج، فلما رأته حسبته ماءً فكشفت عن ساقيها، فقال لها سليمان إنه قصر من زجاج، فأدركت الحقيقة واعترفت بظلمها لنفسها بعبادة غير الله وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
ابن كثير: لما دخلت بلقيس القصر ظنته ماء لكمال صفاء الزجاج فكشفت عن ساقيها، فأخبرها سليمان بحقيقة القصر، فأسلمت قائلة إنها ظلمت نفسها بعبادة غير الله وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
الآلوسي: بلقيس كشفت عن ساقيها عندما ظنت القصر ماءً، فلما علمت بحقيقته أعلنت توبتها وإسلامها لله رب العالمين مع سليمان.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)
ابن كثير: أرسل الله إلى ثمود نبيهم صالحاً يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فانقسموا إلى فريقين: مؤمن وكافر.
الطبري: أرسلنا إلى ثمود صالحاً يدعوهم لعبادة الله، فصاروا فريقين: فريق يؤمن بما جاء به وفريق يكفر به.
الآلوسي: ثمود اختلفوا بعد إرسال صالح، فكان منهم من آمن ومنهم من كفر.
(قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
تفسير الجلالين: صالح يعاتب قومه على استعجالهم العذاب بدلاً من طلب الرحمة والمغفرة من الله.
ابن كثير: صالح يقول لقومه: لماذا تطلبون العذاب بدلاً من النعمة؟ اطلبوا المغفرة من الله لعلكم ترحمون.
الآلوسي: صالح يوبخ قومه على استعجالهم الشر بدلاً من الخير ويحثهم على الاستغفار لعل الله يرحمهم.
(قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ)
ابن كثير: قوم صالح تشاءموا به وبمن آمن معه، فرد عليهم بأن شؤمهم من أعمالهم عند الله، وأنهم قوم يُختبرون بالفتن.
الطبري: قال قوم صالح إنهم تشاءموا به وبمن معه، فرد عليهم بأن شؤمهم عند الله وبسبب أعمالهم، وأنهم قوم يُفتنون.
الآلوسي: قوم صالح يظنون أن صالحًا ومن معه يجلبون لهم الشؤم، فيرد صالح بأن كل شيء بيد الله وأنهم في اختبار وابتلاء.
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)
الجلالين: في مدينة ثمود كان هناك تسعة رجال مفسدين في الأرض ولا يسعون للإصلاح.
ابن كثير: في مدينة ثمود كان هناك تسعة رجال معروفين بالفساد والإفساد ولا يأتون بالإصلاح.
الآلوسي: تسعة رجال في مدينة ثمود يمتهنون الفساد ولا يقومون بأي عمل صالح.
ومن الناحية اللغوية والبلاغية، تتميز هذه الآيات بجماليات لغوية وبلاغية مدهشة تعكس قوة التعبير القرآني وبلاغته. في قوله تعالى “وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ”، يظهر التصوير البليغ لحالة بلقيس التي منعتها عبادتها السابقة من الإيمان بالله، مما يعكس تأثير البيئة المحيطة على الفرد، واستخدام الفعل “صدَّها” يعطي دلالة على قوة المانع وتأثيره العميق، في قوله “قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا”، يتميز بالتصوير الحركي الذي يجسد مشهد دخول بلقيس للقصر ورؤيتها للصرح كأنه ماء غامر، مما يجعل القارئ يعيش الحدث كأنه أمامه. واستخدام كلمة “لُجَّة” يوحي بعمق الماء وكثرة أمواجه، مما يضيف إلى المشهد إحساساً بالغموض والدقة.
ثم الانتقال إلى وصف الصرح بأنه “مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ” يكشف عن دقة البناء وجمال التصميم، حيث إن كلمة “ممرَّد” توحي بالتمهيد والتنعيم و “من قوارير” تضيف بعداً آخر من الشفافية والنقاء، هذه التراكيب اللغوية تعكس مهارة عالية في استخدام الألفاظ لتصوير المشاهد بدقة وجمال.
وفي اعتراف بلقيس بقولها “رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”، تظهر البلاغة في تحولها من الشرك إلى الإيمان في لحظة إدراك الحقيقة، واستخدام كلمة “ظلمت” يعبر عن إدراكها لخطأها الجسيم، واعترافها بهذا الظلم يعكس صدق التوبة والتحول، والعبارة “لله رب العالمين” تضع النهاية المناسبة لرحلة التحول والإيمان، مشيرة إلى التوحيد والشمولية في عبادة الله.
ثم تأتي الآيات التي تتحدث عن قوم ثمود، في قوله “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ”، يظهر التكرار الصوتي في حرف القاف الذي يعكس النزاع والشقاق بين الفريقين، الفعل “يختصمون” يصور الجدال الحاد والانقسام الواضح، مما يضيف حيوية وديناميكية للمشهد، في قول صالح “يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ۖ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ”، تأتي البلاغة في صيغة الاستفهام الإنكاري “لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ” الذي يعبر عن استنكار صالح لسلوك قومه الغريب، واستخدام التقديم والتأخير بين “السيئة” و”الحسنة” يعكس انحراف الأولويات لدى القوم.
وعندما قالوا “اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ”، استخدام كلمة “اطيرنا” يعكس اعتقادهم بالخرافات والتشاؤم، ورد صالح عليهم “طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ” يظهر التفنن البلاغي في الرد على التشاؤم بالخرافة بتوكيد حقيقة أن مصائرهم بيد الله، واستخدام كلمة “تفتنون” يعبر عن ابتلاء الله لهم واختبار إيمانهم.
وأخيراً في قوله “وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ”، استخدام العدد “تسعة رهط” يضفي دقة على عدد المفسدين، وكلمة “رهط” تشير إلى عصابة صغيرة من الرجال المتواطئين، والتعبير “يفسدون في الأرض ولا يصلحون” يجمع بين الجناس الناقص في “يفسدون” و”يصلحون” مما يعكس التناقض بين الفساد والإصلاح بشكل بلاغي محكم.
من هنا، إن العودة إلى القرآن الكريم هي عودة إلى ينبوع الحكمة ومصدر الهداية الذي لا ينضب، فالقرآن هو كتاب الله المحكم، المنزَّل على خاتم الأنبياء، ليكون نوراً يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم، فيه من العبر والمواعظ ما يجلو القلوب ويهدي العقول، ومن القصص ما يعظنا ويمدنا بالبصيرة، إن تلاوة القرآن وتدبر معانيه والعمل بأحكامه هو السبيل إلى السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، قال تعالى: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا”، في القرآن شفاء لما في الصدور، ونور يضيء لنا الطريق، وذكرى للمؤمنين، فعلينا أن نتمسك به ونجعله رفيق دربنا في كل لحظة من حياتنا، نستمد منه العون والقوة، ونستقي منه العلم والحكمة، ونتعلم منه الصبر والثبات، فهو الحبل المتين الذي لا ينقطع، والنور المبين الذي لا يخبو، فلنجعله مرجعنا وملاذنا، ولنقتدي بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التمسك به، ففيه سعادتنا وفلاحنا في الدارين.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.