فصل الشك واليقين :
أصل مادة (ي ق ن) في المعجم اللُّغوي هو : استقرار العلم وثباته، وزوال الشك وإزاحته.. ويقنَ الأمرَ أي: عَلِمَهُ وتَحَقَّقَهُ (القاموس المحيط).
بينما مفهوم اليقين في الاصطلاح يأتي على عدّة معاني، من أهمها تعرّيفات الجرجاني، والتي يقول فيها : “اعتقاد الشيء بأنّه كذا مع اعتقاد أنّه لا يمكن إلا كذا مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال” .
في وهجة الشباب واندفاعه ، كان ” كانت ” و ” ديكارت ” و” جون لوك ” و ” سارتر ” ، موضة منتديات القاهرة ، نتقاذف فيها بصفحات من كتبهم ، ونتباهي بجدلية الشك التي كنا نفردها كشبكة واسعة تصطاد المعاني مهما دق حجمها ، وتضآلت قيمتها ..
كان نوعا من الحمي ، سكبت عليها النكسة ما رواها وغذاها ، حتي صار ” الشك ” عقيدة لأجيال ، مات أغلبهم في ميادين القتال دون أن يصلوا إلي اليقين !! .
كنا نلتهم كل ما تستطيع عقولنا هضمه في شره لا يشبع جوعنا ولا يروي ظمأنا ، ونمتلئ رغبة في سكب كل ذلك كمحلول نذيب به كل ما سلف من فكر وتقاليد ” شرقية “..
ألم يكن جون لوك هو الذي كتب : “ينبغي تربية الطفل على مواجهة الحقائق، والتفكير السليم، وعدم الاقتناع بالمعلومة حتى يحصل على تفسيرات صحيحة للأشياء التي يكون بإمكانه فهمها” ؟ .
ألم يكن ديكارت هو الذي قال : “الإنسان مقياس كل شيء، فهو مقياس أنّ الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة” ، في نفي كامل للميتافيزيقا والغيبيات ؟.
لم ننتبه في ذلك الزمن البريئ ، أنها بضاعة ردت إلينا ببعض التشوه ، سقاها لنا آباء الجيل في كؤوس التحضر حتي تشبعنا . كنا مبهورين شأن انبهار أجدادنا قبالة مدافع بونابرته ومطبعته ، عاجزين مثلهم عن تفسير ما الذي جري لنا ، فطفقنا نفتش في فلسفات الغرب وعلومه بحثا عن أدوية تشفينا ، دون أن ندرك أنها تضيف سما إلي سموم ..
حتي جاء زمن الإفاقة حين انبري أمثال إدوارد سعيد مفندا لفكر ” الاستشراق ” ، وحين توالت قذائف الثورة الفلسفية لقامات مصرية مثل د. زكي نجيب محمود ، و عمي د. حلمي مرزوق ، وغيرهما في العالم العربي ، اكتشفنا أن ابا حامد الغزالي هو مؤسس الشك المنهجي قبل إعادة طرحه حديثا علي يد ديكارت ، واضاءت كلمات الغزالي :” من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال” ، فانزوت كل القراءات الأخري في ساحة الظلال والأشباح .
لقد كان ديكارت بشكل أو بآخر معلم الفلسفة الغربية الحديثة، التي حرصت علي إزالة كل موروث وتقليد ، وقذفه في آلة الشك كي تصل فيها إلى تأسيس منهجي لليقين، وبالتالي فرز الصحيح من الأفكار والعقائد والنظريات عن الزائف منها.
أدركنا ، وأن كان ذلك متأخرا ، أن الشك، قبل أن يكون فلسفيا، فهو عقائدي في الأساس، لأن الإيمان لا يتحقق إلا عن طريق يقين بصحة ما يؤمن به الإنسان.. أي أن الشك هو جزء من عملية الإيمان نفسها.
وإذا نظرنا مثلا إلي نبي الله ابراهيم عليه السلام حين سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، قال له ربه: أو لم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، فأراه الله تعالى كيف يحيي الموتى..
وعرفنا بعد مكابدة أن الشك سلمة ضرورية علي مدرج الصعود إلي اليقين .
ويقول زكي نجيب محمود: “بملاحظة تاريخ الفلسفة يتبيّن لنا أنّ نوع الفلسفة الذي يعتمد التفكير الذاتي، أعني: تفكير الإنسان في نفسه وعقله فقط يعقبه دائماً الشك؛ ذلك لأنّ المعرفة هي علاقة بين العقل والشيء الخارجي، فإذا اقتصر الباحث على النظر إلى عقله ونفسه مهملاً ما في الخارج؛ أدّاه ذلك إلى إنكار ما في الخارج من حقائق”.
وعرفنا أن من ينطلق في المعرفة من اليقين أولى بالاتباع ممَّن يجعل الشك طريقاً لليقين ثم يبرهن على المعرفة بعد ذلك ، ومن هؤلاء كان ابن حزم الظاهري الذي رأي أنّ اليقين عنده مصطلح معياري تخضع له سائر المعارف أصولاً وفروعاً، فهو فيصل التفرقة بين المعرفة المقبولة والمرفوضة، فما لم يؤسس من المعارف على اليقين؛ فلا وزن له ولا اعتداد به ولا وجه له، وما بُني من المعارف على اليقين؛ فهو البرهان والحجة والدليل والحقيقة، وعليه يدور الحكم القطعيّ وجوداً وعدماً. هكذا يكون اليقين حاكماً على قواعد ابن حزم ورُؤاه، من حيث التأسيس لسلَّم الوصول إلى المعرفة ( وذلك علي كل حال بحث آخر في نظرية المعرفة ).
لسنا في حاجة لتغيير الخطاب الديني ، وانما الحاجة ماسة لتغيير فهمنا لأسس الخطاب الديني ، لأن الأصل الثابت إذا عبثنا فيه فسد ، ولكن يمكن ، بل ويجب تقليم وتشذيب الفروع والشروح التي سدت باب الإجتهاد..
“وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ” ..
معصوم مرزوق