في عالَمنا اليوم المليء بالتعثُّرات والنَّكبات، والحائز على وسام السَّقطات والانكسارات، لم تَعُدِ القِيَم في مأمن، ولم يكُنِ الاستقرار ملاذًا للإنسانيَّة، إذ لا إنسانيَّةَ ولا أمانَ في حياة يُديرها مُجرِمو الحرب والطُّغاة والجبابرة ويتصدَّرها الوحوش، ولا أخلاق في خضمِّ العدوان، ولا مشتركاتِ ولا تسامحَ ولا تعايشَ في زمن الجبروت وسيطرة الأقزام والغوغائيِّين والسَّاديِّين والمُجرِمين أو في ظلِّ وجود المتواطئِين والمنبطحِين، ضاعت القِيَم وبِيعَتِ الأخلاق كما بِيعَتِ الأرض والسَّكن للخائنين للأوطان والظَّالمين للحياة. في عالَمنا اليوم وأحداثه المفجعة وعدوانه الغاشم على غزَّة انكشفت حقيقة هذا العالَم وما تدعو إِلَيْه منظَّماته ومؤسَّساته، وما يتفوَّه به حكَّامه وحكوماته، وما تضعُه اجتماعاته من بروتوكولات حَوْلَ مفاهيم الأمن والتَّعايش والسَّلام وحقوق الإنسان، فما هي سوى أدوات يراد بها السَّيطرة على هذا العالَم وشعوبه ونهبُ ثرواته وخيراته والتركيع القسري للاعتراف بالصهيونيَّة العالَميَّة كبديل يحافظ على هذه الأخلاق الإنسانيَّة. فلقد سُحقَتِ القِيَم وأُبيدَتِ الأخلاق وانطفأت شمعة الإنسانيَّة، فإنَّ ما يحصل من إجرام صهيوني عالَمي في غزَّة أساسه غياب القِيَم وموت الضَّمير الإنساني وذبول الأخلاق الَّتي هي أساس حياة الوجود الإنساني، إرهاصات إلى أنَّ العالَم متَّجِه إلى السقوط والفوضى واتِّساع الاختلالات الفكريَّة والتباينات بَيْنَ عوالمه المختلفة.
وانطلاقًا من الحقيقة التَّاريخيَّة من مسألة إعمار الدوَل وبناء الحضارات قصيرة ووقتيَّة، وأنَّ أعمار القِيَم والأخلاق واستدامة وجودها الأطول عمرًا وزمنًا في حِقب التَّاريخ المتعاقبة وتأثيرها في حياة الإنسان تتناقلها الأجيال وتتناوب على رعايتها لتستمرَّ مدى الحياة، فإنَّ ما يحصل اليوم من سحقٍ للقِيَم والأخلاق نقطة تحوُّل سيشهد التَّاريخ توقيتها، وانتفاضة تغيير قادمة لن تهدأَ في إعادة ثورة القِيَم والأخلاق إلى حظيرة هذا العالَم ومنظَّماته، سيقوم عَلَيْها شرفاء العالَم المناهضون للظُّلم والإبادة والقتل والتشريد والذُّل والسَّاديَّة والانبطاح، مَن أدركوا قِيمة التَّضحية من أجْلِ الإنسان، وعرفوا فخرًا شرف المحافظة على الدِّين ومبادئه، ومَن يسعون لتجسيدِها في واقع حياتهم؛ ذلك أنَّ أحداث الأُمم الغابرة وقصص الحضارات العتيدة، وما حملته من دلالات يضع العالَم في ظلِّ هذا التعنُّت والجبروت من الكيان الصهيوني المُحتلِّ أمام حقيقة تأريخيَّة، أنَّ أيَّ كيان يبدأ سقوطه من عبثِه وإجرامِه؛ وإخراجه القِيَم والمشتركات الإنسانيَّة والأخلاق من قاموس التَّعاملات والخدمة. وما يحصل اليوم هو بداية النهاية لنظام صهيوني عنصري إمبريالي فاشل؛ فإنَّ العالَم بحاجة إلى سفينة الأخلاق وأشرعة القِيَم الَّتي تقودُه إلى بَرِّ الأمان .
عَلَيْه، يأتي مقالنا في ظلِّ هذه الصورة الإباحيَّة القاتمة والَّتي اتَّجهت اليوم إلى تشريع السقوط القِيَمي عَبْرَ الضَّغط على حكومات العالَم في تشويه صورة القِيَم والأخلاق، وتحجيم قِيمة انتصارها للمبادئ والأرض والوطن، واستعادتها للحُريَّات ومقارعة الظُّلم، والَّتي لم تُرضِ أعداء الفضيلة والإنسانيَّة والأخلاق، محاوِلةً رسْمَ صورةِ العالَم بعد نفوق القِيَم، والإطار الَّذي يُمكِن خلاله مراجعة حساباته، في فهْمِ منظومة القِيَم المشتركة، وتوظيفها لصناعة عالَم جديد، وما إذا كان لممارساته المتجانبة مع مقتضيات الفضيلة وتطبيقاتها، تأثير على سلوك الأجيال القادمة وتمرُّدها على كُلِّ المبادئ الَّتي يعمل الجزء المعتدل مِنْه على تحقيقها في مستقبل التَّنمية، وطبيعة الدَّوْر الَّذي يُمكِن أن تؤدِّيَه المنظَّمات الدوليَّة بعد إخراجها من سيطرة الصهيونيَّة والإمبرياليَّة والنَّازيَّة الحاقدة على الإنسانيَّة وحقوق الشعوب في تصحيح أوضاعها وإعادة إنتاج مسارها المتوافق مع الحياة السويَّة والعيش الكريم والتَّعايش الإنساني الرَّاقي، لتؤسِّسَ هذه السَّقطات المهلِكة لمرحلة جديدة في نهضة القِيَم وانتصار المبادئ وتأطيرها في التَّعامل مع التنوُّع الثقافي والأشكال التعبيريَّة الثقافيَّة واللُّغويَّة والتراثيَّة والاجتماعيَّة للشعوب والحضارات؛ في ظلِّ ما ترصده المعطيات وتبرزه المؤشِّرات من نفوق موقع القِيَم في منظومة العمل والتَّعامل في السياسة الدوليَّة وفي منظوماتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة، وهي معطيات تضع العالَم المعتدل أمام مسؤوليَّة التَّعامل معها بعُمقٍ، والاحتكام إِلَيْها بوعيٍ، في ظلِّ نهضة ضمير القِيَم، وتجسيد معانيها في مبادئه وسياساته وممارساته ومنظومة قراراته، وأزماته وأحداثه ومستجدَّاته وتحدِّياته، لِيفهمَ خلالها موقعه، ويعيَ دَوْره، ويغتنم فرصة التطوُّر الَّذي يشهده في ظلِّ نواميس القِيَم وموجِّهاتها الرَّشيدة الضَّابطة للممارسات والمُقنِّنة للأدوات، والدَّاعمة لفرصِ التَّمكين للإنسان في الأرض.
من هُنَا لم تكُنِ القِيَم موَجِّهات تعبيريَّة مجرَّدة، بقدرِ ما هي نماذج حياتيَّة تنشط ملكات الإنسان وقدراته، وطاقة داعمة تدفعه للقمَّة، وترقى به نَحْوَ علياء الشموخ، عَبْرَ البحث عن سُلَّم الأمن والسَّعادة، ومنطق النَّجاح والرِّيادة، وفقًا قواعد العيش ومفاهيم التَّصالح وإصلاح الذَّات، وتحتكم إِلَيْها كُلُّ الممارسات الرَّاقية الَّتي تنشدُ الاستمراريَّة، والتحوُّل وخلق التفرُّد في السُّلوك، ليواصلَ بها الإنسان مشوار وجوده على بصيرة من الأمْرِ، يبني خلالها ذاته وينطلق ليتفاعلَ إيجابًا مع عالَمه، فتُكسبه قوَّة في الضَّمير، وإخلاصًا في العمل، وتصنع مِنْه إنسانًا آخر، يتَّسم بقوَّة المبدأ، وحكمة الرأي، وسلامة الفِكر، وسلاسة التَّعامل، وسُموِّ الخصال ورُقيِّ الأفكار، حتَّى تنطبعَ على سلوكيَّاته وأفكاره وقناعاته وقلْبِه وعقْلِه وقلَمِه وبنانِه ولسانِه، لتبنيَ فيه حياة الشَّغف والمبادرة والقدوة والمغامرة والبحث، فيقوى حضورها في نَفْسِه، ويتأصَّل منظورها المتسامح، وغايتها المتسامية، وأولويَّتها المتناغمة مع رغباته العُليا، تصقل مهاراته، وتبني شخصيَّته، وترقى بفِكره، وتنهض بسواعد العطاء لدَيْه.
من هُنَا كان نفوق القِيَم كارثةً إنسانيَّة، وجريمةً تختزل كُلَّ ألوان الحياة الجميلة، وأذواقها المتنوِّعة، وترسم علامات الحزن والكآبة والألَمِ في المُجتمعات الَّتي وصلت فيها القِيَم إلى حدِّ الغربة، وانتزعت من ضمير الإنسان مسارات بقائها، ومُقوِّمات ثباتها، ومدخلات التَّغيير فيها، فضاقَتْ بسبب نفوقها الأرض بما رحُبت وتغرَّبت بسبب غربتها حياة النَّاس حتَّى أصبحت بلا طَعم، وأثَّرت على طموحاتهم وقناعاتهم وإنجازاتهم ومفاهيم الحياة القائمة على التَّكامل والتَّعاون والحوار، فتحوَّل الطموح إلى تجاوزٍ واستهتار على حساب الوطن والأخلاق والفضيلة، وقد يحصل عَلَيْه المتصهينون عَبْرَ سُلطة القسوة والقتل والتَّدمير وإغراق الأوطان بالفِتن والمذهبيَّات والحروب، ضاربةً بالصَّفح والتَّسامح والحوار والتَّصالح عرض الحائط، لِتعيشَ الإنسانيَّة على الرّغم ممَّا تنعمُ فيه من موارد وثروات وتقدُّم علمي وتكنولوجي، حياة الرُّعب والخوف، والقتل والتَّشريد، والدَّمار والقصف، والحزن والألَمِ، والانتكاسة والبُؤس، والفَقر والجوع، والمَرَض والأوبئة، وفقدان الثِّقة وإقصاء السَّلام والحوار، في ظلِّ انعدام كُلِّي لتحقيقِ معادلة التَّعايش، والتخلِّي عن مسألة قسوة السُّلطة وعظمة الأنا، والاعتراف بالآخر، لِتصبحَ همجيَّة الاحتلال فوق كُلِّ قانون دولي، وتشريعه لقتلِ أبناء الأرض السَّليبة «فلسطين» سلوكًا يتلذَّذ به المُجرِم المُحتلُّ، فلا وجود للإنسان في قلبِ المُجرِم الظَّالم المُحتلِّ وأعوانه، وقد أغلق الباب أمام كُلِّ تسوية، ولم يبرحِ الأرض إلَّا قتلًا وتدميرًا للإنسان والمستشفيات والمساجد والمدارس والجامعات ومراكز الإيواء، ولم يَعُدْ في قاموسه الظَّالم أيُّ مجال لجلْدِ الذَّات أو الوصول إلى حلولٍ متكافئة لقضايا الإنسان في أمْنِه وبيئته وطعامه ومائه وفضائه؛ لِتدورَ كُلُّ المحاولات الترقيعيَّة إن وُجدت، في دائرة ضيِّقة عنوانها المصالح، وأسلوبها في تعميق الخلاف، وإشعال الفتنة وتصفيه قيادات المقاومة.
في ظلِّ هذه الغوغائيَّة من الاندفاع والطَّيش والتسرُّع والحماقات الَّتي تُرتكَب في حقِّ الإنسان، وأثبتت خلالها غزَّة العزَّة والصمود والانتصار القِيَمي والأخلاقي؛ كان على العالَم المعتدل البحث في منظور القِيَم وإعادتها إلى حظيرة الاعتراف والتَّأسيس لها لِنَيْلِ الاستحقاق، في ظلِّ حياة تحتضنها القِيَم وتُديرها الأخلاق وتبنيها المبادئ الراقيَّة، في مواجهة حالات الإبادة والتَّدمير والقتل والبطش والتَّنكيل، عَبْرَ الاهتمام بالقِيَم، منطلقًا لمبادئه وسياساته ومنظومة عمله وطريقة تعامله مع أحداث العالَم، وقراءته لمفهوم السِّيادة والتَّعاون والشَّراكة والمواطنة والحقوق والتَّعايش والحوار والسَّلام والوئام، وفي صياغة منظومة القرارات الدوليَّة، ومبادئ السِّلم والتَّعاون الدّولي، ومعالجة حالة الاحتقان النَّاتجة عن انحراف وفساد السياسة الدوليَّة وتشريعها للإبادة، وخذلانها لأهلِ غزَّة، الصَّامدين في وَجْهِ النَّازيَّة، والمُرابطِين أمام فوَّهة المدفع والدبَّابة «نصرٌ من الله وفتحٌ قريب».
د.رجب بن علي العويسي