بدأت إسرائيل غارات عنيفة ضد لبنان فيما أطلقوا عليه ” عملية سهام الشمال ” ، والواقع أن ذلك لا يمثل أي مفاجأة ، لأن قادة الكيان الصهيوني لم يتوقفوا علي مدي عام تقريبا من التهديد بهجوم واسع ضد لبنان ، بل هدد أحدهم بأنهم سيعيدون لبنان إلي العصر الحجري ، وهو نفس الرجل الذي طالب بإعادة إحتلال سيناء !.
ولكي أنعش ذاكرة القارئ ، أشير إلي أن العالم كله كان يعلم توجهات هتلر التوسعية والوحشية منذ بداية ظهوره في الساحة السياسية الألمانية ، بل أنه لم يخف شيئاً ولم يترك شيئاً للمصادفة فقد وضع في كتابه الشهير ” كفاحي ” كل خطته بتفصيل واضح ، ومع ذلك هرول إليه قادة أوروبا متهالكين ليعقدوا معه صلح ميونيخ ، بل أنهم أغمضوا عيونهم ، عن معلوم إلتهامه للنمسا وتشيكوسلوفاكيا ، عمداً وتقية ، ودفعت البشرية كلها ثمناً باهظاً نتيجة لذلك التجهيل لمعلوم واضح وضوح الشمس منذ اللحظة الأولي ، ولو تمت مواجهته مبكراً لربما تغير وجه التاريخ ..
ولعلكم تذكرون ما سبق أن كتبته عن الرحلة الخطيرة التي قطعها تشرشل إلي موسكو في ظل حصار النازي لبريطانيا ، ورغم كراهية تشرشل للشيوعية ولستالين ، ولكنه أدرك أهمية التحالف مع الروس لإستنزاف النازي في الجبهة الشرقية ، بما يرفع الضغط علي الجبهة الغربية ..
القاعدة الذهبية في هذا الصدد هي أن التحالف في معادلات التوازن لا يشترط التطابق السياسي ، وإنما يحدده وجود خطر لا تستطيع كل دولة بمفردها مواجهته.
ان أدبيات الصهاينة تركز علي خلق “عدو” يهدد المنطقة في شكل إيران ، مثلما كان النازي يركز علي أن الخطر علي أوروبا يكمن في الإتحاد السوفييتي ، ولكن رغما عن ذلك قام وزير خارجية ألمانيا ربنتروب بمناورة بارعة بزيارة خاطفة لموسكو ليوقع معاهدة بين الدولتين.
من الصحيح أن الأيديولوجية تلعب دورها في أوقات السلام ، ولكن حين يلوح الخطر فالمبدأ المتسيد هو إحتياجات الأمن القومي حتي إذا تطلبت التحالف مع الشيطان .
وأؤكد أنني في ذلك انطلق نظريا من قاعدة متواترة تاريخيا ، حتي هذه اللحظة تتعلق بتوازن القوي ، وهي قاعدة تأخذ أشكالا متعددة في التطبيق ، بعضها بسيط ( مجرد تنسيق سياسي ، ومناورات مشتركة ) ، وبعضها أكثر تعقيدا ، ويتم بناءه علي مراحل تتأثر بتقييم الأطراف للخطر وكيفية مواجهته.
وغني عن الذكر أن المسألة بالتأكيد من وجهة نظري ليست مجرد استدعاء لأحداث تاريخية .. تغيرت ظروفها .. وإنما محاولة لقراءة سياسية تفتش عن أصلح الأدوات لإحتواء خطر ..
وعلي كل حال ، فمن التطبيقات المعاصرة ، يمكن للمشكك النظر فيما يطلق عليه ” محور المقاومة ” ( عراق ، سوريا ، لبنان ، اليمن ، غزة ) .. فهو تطبيق معاصر ( وربما ضعيف ) لنظرية توازن القوي .
وأعتقد أن منطقة الشرق الأوسط في حاجة إلي هذا النوع من الفكر الإستراتيجي ، الذي قد يحقق السلام الحقيقي في النهاية ، أو يحول دون حرب كبري .
ولقد سبق أن كتبت أن ” نصف تحالف ، أو حتي تحالف افتراضي ، افضل من السكون في مواجهة كيان متوحش يسعي للسيطرة علي مقدرات الشرق الأوسط ” .
لقد كتبت كذلك ، وتحدثت كثيرا في هذا الموضوع موضحاً أن بروز نتنياهو واليمين المتوحش في الكيان الصهيوني ، هو تهديد أمني خطير لكل كيانات الشرق الأوسط ، وأنه من الأهمية بمكان الشروع فورا في بناء نظام امني للدول الفاعلة في المنطقة لأحتواء هذا السرطان ، لأن ذلك قد يكون السبيل الوحيد للحفاظ علي الأمن والسلام في المنطقة ، كما يمكن أن يشكل تحالف عسكري فعال لصد أي تمدد مستقبلي آخر لعدوانية النظام الصهيوني .
أن الأعمدة الأساسية لهذا النظام الأمني ، كما كررت دائما ، هي ومصر وإيران وتركيا ..ولكن يظل التحالف مفتوحا لإنضمام أعضاء آخرين open ended allaince .
وأكرر أنه لا ينبغي إضاعة أي وقت آخر من أجل حماية أمن وسلامة شعوب المنطقة ( وربما العالم كله أيضا) ، من جنون قادة صهاينة ، الذين هدد بعضهم بإستخدام قنابل نووية ، وهدد البعض الآخر بإعادة دول مهمة في المنطقة إلي العصر الحجري …
بل وتؤكد تصرفاتهم الهمجية في غزة ، بأنهم لا يعبأون بقانون أو حتي تقاليد الحرب المعروفة ، ويقومون بحرب إبادة حقيقية تستهدف البشر والحجر .
ولا شك أنه من المبكر الوصول إلي مرحلة متقدمة من التحالف ( مثل إنشاء قوات مشتركة ) ، ولكن يمكن التوصل إلي إتفاقات بشأن تشكيل هيئة أركان مشتركة للتشاور حول مهددات الأمن والسلام في المنطقة ، وإجراء مناورات مشتركة بجدول زمني محدد .. إلخ .
وفي تقديري أن مجرد إعلان تلك العواصم أنها بصدد التفكير في بناء نظام أمني إقليمي ، وعقد قمة عاجلة تنتهي بإعلان واضح عن تحرك لبناء هذا التحالف ، سوف يضيئ مصابيح حمراء في عواصم معينة ، وقد يسهم في خفض التوتر وفرملة التهور الصهيوني ، وهكذا يمكن الحفاظ علي السلام في الشرق الأوسط .
معصوم مرزوق