يُتدَاولُ اليومَ خبرُ إقامةِ بعضِ السهراتِ والحفلاتِ الغنائية لعربٍ مشهورين، نساءً ورجالا، ضِمنَ مهرجانِ مسقطَ وخارجَه، وعن نفادِ بعضِ التذاكر، رغمَ غلائها، وما قد يُرادُ من خلالِ ذلك التداولِ من رسائلَ مبطنةٍ لإضعافِ الموقفِ الشعبي العماني من قضيته في غزةَ وفلسطين، وموضعِه الشريفِ من مقدساته، والتهوينِ من فاعليةِ مقاطعتِه للكيانات الصهيونية المجرمة، عربا وعجما، وهنا بعض الرسائل، لا بد من أدائها في هذا السياق، فأرجو أن تجدَ سبيلها وغايتها لمن وُجِّهَتْ له.
أولا رسالةٌ للجمهور والمستوى الشعبي والعام، وهو لا شكَ مُقَدَّمٌ على الرسمي، لأنَّ الأخيرَ إنما هو بعضٌ منه، ويستمدُ شرعيتَه وقوتَه من خلاله، فأقول له: لا تَذْهَلنَّكُم ما تُحاوِلُ بعضُ الإعلاناتِ الإيحاءَ لكم به، مَرَضا أو عَرَضا، فلا عددَ التذاكر معلوم، ولا نوعَ الحضور مفهوم، ولا شك أن ساكني عمان من الوافدين يقترب من عدد العمانيين (مليونين ونصفٍ ويزيد)، فضلا عن العمانيين، لا نعلم ظروفَهم العامةَ والخاصةَ، ولا صحيحَهم ولا سقيمَهم، ولا مَن هو متصلٌ بمحيطه، ومَن هو منفصل عنه، غارقٌ في غياهب جبه، لذلك لا يعني نفادُ شُبَّاكِ التذاكر نفادَ صبركم، وعدمَ جدوى مقاطعتكم، فلو أقيمَ هذا وما هو أسوءُ منه في فلسطينَ اليومَ لحَضَرَه المترديةُ والنطيحةُ وما أكلَ السَّبُع، وحضره غيرُهم، وما حَفلُ زواجِ ابنِ أحد مسؤولي السًّلطةِ بالضفة عنكم ببعيد.
ثانيا رسالةٌ للمسؤولين عن المهرجان وفعالياته، بِدءا بسعادة رئيس بلدية مسقط، ومَن فوقَه ومَن دونَه إلى آخر حدّ، ومسؤولي أيِّ موسسةٍ معنية بإقامة مثلِ هذه الفعاليات في هذا الظرف المؤلم كدار الأوبرا وغيرها، فأقول: أيها الإخوة الغَيَارَى على دينِكم، ودنياكم، وتاريخكم، وحاضركم، ومستقبلكم، يكفينا ألمًا وحسرةً على جيوشنا وحكوماتنا وقياداتنا العربية والإسلامية عموما عجزُهم عن أي ردة فعل، وهم تُنتَهكُ حرماتُهم، وتُدَنَّسُ مقدساتُهم، وتُسفكُ دماؤهم، وتُهانَُ كرامتهم عَلنًا، على أيِّ جنبٍ ناموا عليه؛ على عروبتهم، أو على إسلامهم ودينهم، وأبلغُ ما وَصَلَهُ أشرفُهم موقفا الظاهرةُ الصوتيةُ من بياناتٍ وتنديداتٍ وشَجْبٍ، لم يجاوز حناجرَهم، حتى سئمتْ هذه التنديداتُ ذاتُها لَوْجَانَها على ألسنتهم، والقاعاتُ الصماءُ تردادَها على آذانهم، كما كان في آخر قمةٍ إسلامية عربية قبل يومين، ضرُّها في انعقادها على الأمة أكبرُ من نفعها، فإن يَعفُ اللهُ عن طائفةٍ منهم لاجتهادهم بما أمكنهم مخلصين، يُعَذِّبْ طائفةً بأنهم كانوا ظالمين…. نعم يكفي هذا القَدرُ من الألم والأسى، فلا تزيدوا الطِين بِلة، والجرحَ غُرزا، فإني لا أرى لكم في إقامةِ هذا الموسم -بالصورة المتداولة- إلا أمرينِ اثنينِ لا ثالثَ لهما، وكلاهما مُرٌّ، فالأولُ أن يكونَ طالَ عليكم الأمدُ، ونفدَ صبرُكم، وتمكنَّ اليأسُ منكم، أو أصابكم الملالُ لطول المدة -بينما أصاب أهلَكم في غزة القتلُ والهُزَال- فكانت تجارتُكم التي تخشون كسادَها، أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله، فاخترتم -كما شاءه عدوُّكم وعدوُّ الإنسانية وراهنَ عليه- الهروبَ، وتَرْكَ الواجبِ المُحَتَّمِ عليكم عقائديا وعروبةً وإنسانيةً، من مجاهدةٍ وثباتٍ ومرابطة، وهذا يُلبسُكم جُرْمَ ما يحصل في غزةَ وفلسطينَ ولبنان -رغم محاولتكم التملصَ منه- وتكونون به شركاءَ في إبادة العدو وجرائمه بأهلكم، وتتلوث أيديكم بدمائهم، فإنه متى تركَ أولياءُ الدمِ دمَهم، وأهلُ العِرْضِ عِرْضَهم، واشتغلوا بترفهم ورقصهم ودنياهم، وعزاؤهم بين أيديهم، ازداد قتلُ السَّفاحِ فيهم، وانتهاكُه لعِرضهم، وإما أن يكونَ أصابكم داءُ الجاهلية الأخير -حماكم الله- الذي بدأ ينتشر في جزيرة العرب، حيث بُعِثَتْ أصنامُ قريشٍ من جديد، وظهرت سلالةُ أبي لهب وأبي جهل وأُمَيَّةَ ابنِ خلف وابنِ سَلَّول، فأصابتكم لوثةُ مواسمِ ترفيههم، فكانوا هم -في هذا المسار- إمامًا، وكنتم أنتم -رغم نتانةِ الموضع- ذيلا وذَنَبًا، قلوبُكم كقلوبهم قاسية، وأرواحُكم كأرواحهم خاوية، يجمعكم أن لا عقلَ استراتيجيٌ ولا فقهَ واقعيٌ ولا قراءةٌ تاريخية واثقةٌ استطاعت اختراقَ حماقة الأولين والآخِرين، وهذا -أعاذكم الله – يَحُطُّ بكم دركاتٍ عميقةً، ويُلبسُكم خِزيا وذُلا وعارا، لا انفكاكَ لكم منه ولا فكاكَ في الدنيا ولا في الآخرة، فاحذروا -عافاكم الله- فإن مآلاتِ ذلكم ستنالكم في أنفسِكم فَردانا وجماعات؛ ستنالكم في إنسانيتِكم، في نقاءِ قلوبكم، في صحتكِم، في ولدِكم وأُسَرِكم، في بركتكم، في أمنكم وأمانكم وسلامكم الداخلي والخارجي، فلا تَغْرَنَّكم وظيفتُكم، ولا أُبَّهَاتُ ما تعيشون من مكاتبَ وفيرة، وصداقاتٍ كثيرة، ولا يَسْتَزِلَّنَّكُم الشيطانُ بسوءِ ما يقع منكم، كما استَزلَّ الذين من قبلكم بسوء قراراتهم ومواقفهم: (إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ… (١٥٥) آل عمران)، ولا يستفزَّنّْكم العُتاةُ الغُلاةُ في الحَذْوِ حَذْوَهم نحوَ الهلاك، ولا تتولوا عمَّن نصح لكم، كان سياقا ومواقفَ تعيشونها عَيانا وتشهدونها، أو شخصا حقيقيا أو اعتباريا يُظهِرُ لكم مَغْبَةَ أمركم، فإن ذلكم علامةُ زللٍ، وإشارةُ غضبٍ عليكم من ربكم: (….. فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ (٤٩) المائدة ).
ثالثا رسالة للجهات الأمنية: أيها الإخوةُ الأحبة، إن الحِسَّ الأمنيَ العاليَ لكم لا شكَ يقودُكم لما قد تسببه هذه التصرفاتُ غيرُ المسؤولةِ -في غير مقامها وظروفها- من خللٍ أمنيٍّ وفجوةٍ قد تتوسع بين الشعبي والرسمي، فثمنُ إقامةِ هذه الفعالياتِ بحد ذاتها في غير مناسبتها وفي سِياقِ المهانةِ التي تعيشها الأمةُ العربيةُ والإسلاميةُ لا يمكن تجاوزُها، ولا غضُّ الطرفِ عنها، فهي تُعَدُّ استفزازا خطيرا غيرَ محمودٍ لمشاعرِ ملايينَ من العمانيين وغيرهم، من الذين تتقطعُ نِيَاطُ قلوبِهم – وأنتم لا شكَ من هذه القلوبِ المكلومة- على ما يحدث في غزةَ وفلسطينَ ولبنانَ، وعلى ما يُصَرِّحُ به عِصابةُ الكيان الصهيوني ووزراؤه الإرهابيون وعوامُّهم من تحقيرٍ وعِداءٍ منقطعِ النظيرِ للعرب والمسلمين كافة، وهذا الاستفزازُ إن لم تُعَالجْ أسبابُه سريعا وعاجلا فَإن التوحدَّ بين القيادة والشعب سَتَتَخلخلُ أسبابُه، وتَهلكُ أبوابه، وترُمُّ أعتابه، ويكونُ منحىً خطيرٌ على أمن الدولة ولُحْمَةِ أهلها، وثقةِ الناس بحكومتهم وقيادتهم، والجبهة الداخلية هي الجبهةُ الأوثقُ والأدومُ والأقوى في الصمودِ في وجهِ أيِّ متغيراتٍ وتهديداتٍ خارجيةٍ حاضرةٍ ومستقبليةٍ، ما يُحَتِّمُ التحركَ الجِديِّ للحفاظِ عليها ضدَ أي عبثية، أو حركةٍ غيرِ مسؤولة من قبل أيِّ فردٍ وأيِّ مؤسسة عامة وخاصة، عمدا أو غفلةً، مثلِ الحراكِ المنقودِ اليوم، فضلا عن تعاقداتِ مؤسسات الدولة كبلدية مسقط -إن ثبت- مع شركاتٍ مجرمةٍ داعمةٍ للكيان الآثم المحتل لفلسطين، ودماؤنا العربيةُ والمسلمةُ تراقُ في شوارع أرضنا المقدسةِ المحتلة، وأشلاؤنا تتناثر في سمائها، وأجسادنا تُحْرَقُ في خيمها بعد نزوحها، وأطفالنا يمزقون في لَفَّاتهم، وحرائرنا تداس كرامتها، وشيوخنا يهانون على شيبتهم وكِبَرِهم، ويذبحون عيانا، وإن النهضةَ المتجددةَ في عامها الرابع تحتاج لتجسيرِ أيِّ فجوةٍ قد تتولدُ في ظلِّ الأحداثِ الحساسةِ التي يعيشُها العالمُ اليومَ، والتحدياتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ في الداخلِ والخارج، كما لا يمكنُ فصلُ عمانَ وشعبِها عن محيطِها ومقدساتِها أينَ كانت، ولا عن مسؤولياتها العَقَدية، وإن المراهنةَ على دعوى الوطنية الجوفاء بأنها قد تعلو وتُقَدَّمُ -كما أرادت لها سايكسبيكو- على الدين والتراث والقيم، وعلى إسلامِ أول دولة رسمية مع محمد صلى الله عليه وسلم، إن هذه المراهنةَ مراهنةٌ خاسرةٌ قطعا، فقد تَشَرَّب َهذا القُطرُ العزيزُ وشعبُه الأبيُّ الإسلامَ الحقَّ حتى النخاع، لألفٍ وأربعمائةِ سنة، ولا يزالُ قلبُه ينبُض بالإيمان، فهو أولاً وثانيا وثالثًا، وما عداه من مُحْدَثاتِ الأمورِ يأتي تاسعا وعاشرا ومائة، والمواطنةُ الصالحةُ ليست جوفاء منه.
رابعا وأخيرا رسالةٌ إلى المؤسسات والشخصيات والقامات والمؤثرين من أبناء هذا الشعبِ العزيز، إن تعذر على الإخوةِ المنظمين إدراكُ ما يقعون فيه من محظورٍ أخلاقيٍّ وإنسانيٍّ وشرعي وقانوني، ولم يكن للنداءاتِ العديدةِ في الشارعِ العماني تأثيرٌ فيهم، فلا تتراجعوا أو تيأسوا، وأصروا على إيصالِ رسالتكم لهم بالطريقة الصريحة والمباشرة، ولتكنْ منكم هَبَّةٌ عبرَ الأقلام والمواقف، وعبرَ المراسلات والإبراق، وعبرَ التثقيفِ والتزامِ المقاطعة والحثِّ عليها حتى يبلغَ صوتُكم عَنانَ السماء، فتضجَّ السمواتُ والأرضُ باعتراضكم، ويشهدَ أهلُهما لكم أنكم أديتم واجبَكم، ويَعذُرَكم بها أهلُ غزةَ وفلسطينَ ولبنانَ أنكم نصرتموهم، وحتى يُحاسبَ كلُّ مسؤولٍ اتخذ القرارَ، وهو يرى غطرستَه وعنادَه لم يأتيا له إلا بخسارةِ مشروعِه، وضياعِ ما أنفق من مالِ الدولةِ، وأَهدرَ في غير مَحِله، لعلَّ حسابا عسيرا سيناله، وسجنا ضيقا -روحا وجسدا- سيستضيفه، فليس واجبُ المقاطعة لهذا المهرجان -بصفته الواردةِ- بترفٍ ولا خيال، بل إنه لسانُ واقعٍ وحال.
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
الخميس
١٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
١٤ نوفمبر ٢٠٢٦ م