السقوط في فخ الديون من أكبر التَّحديات التي تُواجه المجتمعات المعاصرة، وعلى وجه الخصوص المجتمع العُماني بمختلف طبقاته، خاصة الطبقة الوسطى، التي تجد نفسها مع مرور الأيام قد وقعت في دهاليز قروض البنوك التي يُعتبر من يدخلها مفقودًا، بينما من يخرج من شرك ديونها المضاعفة وينجو سالمًا بنفسه من آثارها المُدمِّرة، مولودًا من جديد، حتى ولو بعد حين.
وكشفت الأرقام المنشورة العام الماضي بأنَّ إجمالي القروض الشخصية في السلطنة قد سجل رقمًا قياسيًا غير مسبوق تجاوز أكثر من 8 مليارات ريال عُماني، وذلك إلى نهاية أكتوبر 2023.
ومن المؤسف حقًا أن مُعظم الناس لا تُفكِّر في مستقنع الديون، الذي يقع فيه المقترض بمجرد أن يخطو الخطوة الأولى نحو تحقيق متطلبات الحياة المتعلقة بقوت يومه أو التفكير ببناء منزل أو شراء سيارة أو الاقتراض لتسديد الرسوم الدراسية الجامعية للأبناء الذين لم يُحالفهم الحظ في الحصول على بعثات أو منح من الحكومة؛ بل وحتى العلاج خارج الوطن لبعض الأمراض المستعصية على المشافي الوطنية، ليجد هذا المقترض نفسه في القائمة السوداء وغير قادر على الوفاء بالأقساط الشهرية، وقد يجد نفسه في المحاكم أو يفقد وظيفته، ويكون السجن محطته الأخيرة بكل آسف.
وعلى الرغم من هذه المبررات المشروعة التي تُجبر الناس على الحصول على التسهيلات المالية من البنوك وبعض شركات التمويل، إلّا أن هناك من المواطنين الذين يميلون إلى إنفاق تلك الأموال المُقترَضَة على الكماليات وليس الضروريات التي لا مفر منها للأفراد والمجتمع بشكل عام، خاصة لمواكبة أحدث صيحات الموضة أو شراء الهواتف الذكية أو السفر والترفيه، ليس هذا فقط؛ بل نجد أنَّ الحياة قد تغيَّرت، بانتقال المجتمع العُماني من الطريقة التقليدية المتمثلة بـ”الدكان” الصغير الذي كان في العادة يحتوي على الأساسيات التي كانت تكفي الأجداد وتزيد بما فيها من مواد غذائية وملابس تقليدية تُعبِّر عن ثقافة المجتمع، إلى “السوبر ماركت” ثم ما يُعرف بالهايبر والمراكز التجارية الكبرى التي تجعل من المتسوقين ينفقون كل ما في الجيب دون تفكير أو وجود حاجة ضرورية لذلك. فإذا تعذر عليهم الدفع نقدًا فهناك بطاقات الائتمان التي تشجع على الإسراف بعيدًا عن التفكير المنطقي؛ فالأسرة المعاصرة التي تتسوق في المحلات الكبيرة تطوف على الأرفف والساحات التي فيها الكثير من الأصناف المختلفة من البضائع فتنفتح شهية هؤلاء الأشخاص؛ فالأسلوب السهل هنا هو أن نخرج بعربة التسوق وهي ممتلئة بالملابس والعطور والمنظفات والمواد الغذائية وكل ما نراه في طريقنا من السلع والكماليات التي تروج لها الإعلانات التجارية عبر منصات الإعلام التقليدي والرقمي.
وتكمن مشكلة المتورطين بالديون، بأنهم ينفقون أكثر من دخلهم الحقيقي مما يترتب على ذلك تراكم الديون مع مرور السنوات والنهاية هي الإفلاس ثم السجن.
ولا شك أنَّ مبادرة “فك كربة” لجمعية المحامين العُمانية، والتي تسعى إلى جمع التبرعات المالية بهدف فك أسر المعسرين من نزلاء السجون بسبب مطالبات مالية مترتبة عليهم في قضايا مدنية وتجارية، لهو عمل خيري جدير بالتقدير والإشادة لأنَّ من خلاله يتم إطلاق سراح القابعين في السجن، خاصة الذين لهم أسر وأطفال، ولكن يجب أن تتضاعف جهود كل التجار والميسورين للانضمام إلى تلك المبادرة التي تطمح لأن تُضاعف أعداد المفرج عنهم بحيث يشمل آلاف السجناء المعسرين، بدلًا من 1500 فقط كما حصل في رمضان الماضي؛ فعدد قليل من كبار التجار في هذا البلد العزيز بإمكانهم التكفُّل بكل المعسرين والقابعين خلف القضبان، وذلك من زكاة أموالهم.
ظهر خلال العقود الماضية ما يعرف بـ”الجمعيات”، التي تشكلت بهدف تسيير الأمور على أعضائها ومدهم بما يحتاجونه من السيولة النقدية؛ حيث تُجمَع الأموال من المشتركين؛ ثم تُوزَّع من خلال تسلسل أو نظام القرعة بينهم، بحيث يستلم الشخص دفعة أو مبلغاً مالياً يجعله يعمل مشروعًا بدلًا من القروض البنكية التي تتضاعف على صاحبها الفوائد المُركَّبة عبر السنوات، ولكن لم يكتب لمعظم هذه الجمعيات النجاح، فقد ينسحب من تلك المجموعات من استلم في البداية مما ترتب على ذلك فشل معظم تلك الجمعيات التي تتشكل من الأصدقاء وزملاء العمل والتي بالفعل تفرقها الاختلاسات من البعض في كثير من الأحيان.
لقد حرم الدين الإسلامي الحنيف الربا الذي كان منتشرًا على نطاق واسع في مكة وبلاد العرب والعجم قبل نزول الوحي على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه شجع في نفس الوقت الصدقات والقروض الحسنة لوجه الله بدون مقابل وضاعف لأصحابها الأجر والثواب.
وقد ارتبطت القروض البنكية بالثورة الصناعية، التي أوجدت البنوك على نطاق واسع أكثر من العصور السابقة، والتي تقدم لزبائنها المبالغ المالية المطلوبة مقابل فوائد كثيرة؛ اختلفت باختلاف القرون وكذلك بوجود السيولة في تلك الدول التي ترعى تلك المؤسسات المالية. وفي مطلع هذا العام 2024 سجلت المديونية العالمية أكثر من 300 تريليون دولار أمريكي مُقسَّمة على الشركات التي لها نصيب الأسد من هذه الديون وتسخدم تلك الأموال لتمويل عملياتها وتوسيع مشاريعها، بينما تأتي الدول في المرتبة الثانية، إذ سجلت ديون الحكومات عبر العالم 91 ترليون دولار وتمول بها المشاريع التنموية والخدمات العامة، فقد احتلت القروض الشخصية (ديون الأسر) العالمية المرتبة الثالثة والأخيرة مسجلة بذلك 59 ترليون دولار.
في الختام، تكمن مشكلة الديون وآثارها الكارثية على البشرية جمعاء بسبب القروض التي يمنحها صندوق النقد الدولي للدول النامية بشروط مُجحِفة وغير عادلة، فقد أصبحت زامبيا هذه الدولة الأفريقية تخصص حوالي 40% من ميزانتيها لتسديد ديونها، مما أدى إلى عجز الحكومة عن تمويل الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمياه. وقبل ذلك تعرَّضت دول أمريكا الجنوبية لأوَّل عاصفة من الديون شملت 16 دولة، بينما ضربت الموجة الثانية دول شرق آسيا في بداية الألفية الجديدة، ثم شملت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث واجهت المؤسسات المالية الكبرى انهيارات على نطاق واسع مثل إفلاس بنك “ليمان براذرز” في عام 2008 بخسارة قدرت بـ600 مليار دولار والذي يُعد أكبر إفلاس في أمريكا والعالم.
د محمد بن عوض المشيخي / أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري