يُمثِّل السَّحق الوظيفي أحَد أشكال التَّرهُّل المؤسَّسي والهدر الحاصل في الوظيفة العامَّة والنَّاتجة عن غياب مفاهيم الحوكمة والالتزام بالمعايير والشُّروط المُحدَّدة لشغلِ الوظيفة العامَّة، خصوصًا ما يتعلَّق مِنْها بالكفاءة العلميَّة والمهنيَّة والأخلاقيَّة والأدائيَّة وغياب الالتزام بمسار التدرُّج الوظيفي لبعض الموظَّفين في حصولهم على درجات وظيفيَّة أعلى ليتمَّ نقلهم إلى المسمَّيات الوظيفيَّة الأعلى دُونَ أيِّ اعتبار لمؤهلٍ علمي أو خبرة عمليَّة أو نتائج تقييم الأداء، أو أيِّ مراعاة وقراءة للفرص الوظيفيَّة والخبرات الموجودة بالمؤسَّسة والكفاءات الَّتي باتَ لها أولويَّة الاستحقاق، ولذلك يحصل أن يؤتَى بالشَّخص غير المناسب، ويكُونَ عالةً على مؤسَّسته في عدم قدرته على إدارتها ويتَّجه إلى فرض سُلطة القوَّة النَّاتجة عن عدم امتلاكه للأدوات والفرص العلميَّة الَّتي تؤهِّله للقيام بهذه المُهمَّة؛ كونه حصل عَلَيْها في ظلِّ قصور فيه، وليس اكتمالًا في أدائه، فيتَّجه إلى فرض سُلطة جديدة في الأداء، تغيب فيها معايير الأمانة الوظيفيَّة، وتتلاشى فيها مُقوِّمات الأداء الكفؤ، المُعزّز بالتَّخطيط السَّليم والممارسة الأمينة والتَّوجيه الرَّشيد، وخلق بيئة عمل ناضجة متفاعلة منتِجة تستنطق القِيَم وتستنهض المسؤوليَّة والرُّوح المعنويَّة، لذلك نعتقد بأنَّ ما يحصل في بعض المؤسَّسات من تحدِّيات وظيفيَّة في أغْلَبِ الأحيان سببُه وجود الإدارة المتسلِّطة والَّتي جاءتْ إلى هذا المنصب عَبْرَ اختزال وتغييب لكُلِّ المعايير وضرب بها عُرض الحائط، الأمْرُ الَّذي يشعُر فيه هذا الموظف وعِندَ وصوله لهذا المنصب أنَّ عَلَيْه أن يفرضَ واقعًا مؤسَّسيًّا جديدًا تنعدم فيه الشَّراكات واحترام الرَّأي الآخر، ويتَّجه إلى الأنانيَّة والفردانيَّة والفوقيَّة والسُّلطويَّة وإقصاء الكفاءات وتهميش منتَج الأقلام والأفكار المضادَّة أو ممَّن يمتلكون التَّغيير وشغف المبادرة وحسَّ المسؤوليَّة في إعادة إنتاج المسار المؤسَّسي وتصحيحه.
وعَلَيْه، فإنَّ قراءتنا لمفهومِ السَّحق الوظيفي اليوم تتَّخذ مسارَيْنِ اثنَيْنِ، الآخر مِنْهما نتاج للأوَّل وهما وجهانِ لعملةٍ واحدة وهو أن يصبحَ السَّحق الوظيفي خطرًا يُهدِّد الأمن الوطني في أدقِّ تفاصيله وتنوُّع مكوِّناته، ويَقُومُ على بناء صورة مزاجيَّة ارتجاليَّة قاتمة في الممارسة الوظيفيَّة تنعكس سلبًا على كُلِّ مجريات الحياة المؤسَّسيَّة وقواعدها، فإنَّ أحَد أشكال هذا السَّحق يضعنا أمام وجود موظَّف بالمؤسَّسة في مستوى خبراتي وأدائي عالٍ في النَّوعيَّة والإنتاجيَّة والالتزام، كان يحلم بأن يكُونَ هو رجل المؤسَّسة القادم الَّذي تُلقى عَلَيْه مهِمَّة حملِ المسؤوليَّة في المستوى الوظيفي الَّذي يعمل فيه (الوحدة المؤسَّسيَّة/المديريَّة/ الإدارة إلخ) في ظلِّ درجة الكفاءة والإنتاجيَّة والخلق والالتزام والانضباط، ليتفاجأَ بأن يقعَ الاختيار لموظَّف آخر أقلَّ مِنْه في الخبرة والأداء والمؤهّل، إذ كُلُّ المعايير لم تشفعْ له ليس لخللٍ فيه، بل لأنَّ المسؤولَ الأعلى مِنْه لا يرغب أن يراه في مستوى وظيفي أعلى، إمَّا لعدمِ وضوح مسار التَّرقيات والتَّعيينات والتَّكليفات الوظيفيَّة، أو مساحة الاستثناءات والشَّخصنة والعلاقات والتَّأثيرات الاجتماعيَّة والوجاهيَّة الَّتي باتَتْ تتدخَّل في هذه الأمور، ونتجَ عَنْها الكثير من الثَّغرات والفجوات في اختيار كفاءات الصُّفوف المتقدِّمة بالمؤسَّسات، ليصلَ في بعض الأحايين إلى اختيار فئات غير ممكّنة مهنيًّا أو متشبِّعة وظيفيًّا أو غير مجرَّبة في مواقع العمل والمسؤوليَّة، وما زال سجلُّها الوظيفي غير مكتمل البناء والبنية والتَّأطير والمحتوى، وما زالتِ الممارسة السَّابقة أقرب إلى التَّنظير والعمل المكتبي والبحثي أو الأكاديمي والتَّدريسي الَّذي لم يتمَّ تجريبه في مواقع محاكاة حقيقيَّة أو في التَّعامل مع مورد بَشَري مُتعدِّد الاهتمامات، مختلف الأمزجة، ومواقف ومستجدَّات بحاجةٍ في إدارتها إلى العقل الاستراتيجي المؤسَّسي الَّذي يقرأ المنظومة بشموليَّة وعُمق، لذلك أسهَمتْ هذه الفجوات في إنتاج إدارات تفتقد لروحِ القيادة والمسؤوليَّة المهنيَّة، لِتعيشَ خلالها المؤسَّسات حالة من التَّعثُّر وغياب التَّطوير وهشاشة البيت الدَّاخلي، والبُطء في التَّفاعل مع أولويَّات العمل وأجندة التَّطوير، وفي المقابل أوجد في هذا الموظف المُخلِص حالةً من الشُّعور بالإقصاء التَّعسُّفي والتَّهميش وغياب العدالة.
من هنا كان للسَّحق الوظيفي تداعياته السلبيَّة على قناعات الموظف المستحقِّ وانتمائه الوظيفي وولائه المهني والمؤسَّسي والصُّورة الأخرى الَّتي سيُقدِّمها للآخر حَوْلَ المؤسَّسة خصوصًا في ظلِّ تعايشه مع العديد من رؤساء الوحدة والوكلاء وغيرهم واستيعابه لمنظومة العمل والفجوات الَّتي حصلتْ بالمؤسَّسة، لذلك يبدأ تأثير هذا السَّحق يظهر في تفاصيل الصُّورة الذِّهنيَّة الأخرى الَّتي يُقدِّمها هذا الموظف الجدير بالاستحقاق للآخر، وهو أمْرٌ قد يظهر بشكلٍ أكبر في المؤسَّسات الأمنيَّة والعسكريَّة والمؤسَّسات ذات المهام الحسَّاسة أو مؤسَّسات ماليَّة وسياسيَّة أو مراكز علميَّة وبحثيَّة استراتيجيَّة تتعامل مع أجندة خارجيَّة، الأمْرُ الَّذي ينتج عَنْه حالة من تضارب المصالح وعِندَها تصبح طريقة حديث هذا الموظف عن المؤسَّسة وتمثيلها أمام الآخر أو حديثه عن الإدارة الجديدة بما يحمله من تحفُّظات وصورة قاتمة وحالة من عدم الرِّضا والسّخط والتَّحمُّل لِتصبحَ فرصة لدَى هذه الجهات الخارجيَّة لِتصطادَ في الماء العَكِر وتُسهم في تجنيد هذه الكفاءة والخبرة ذات الاستحقاق في أن تكُونَ طريقها في الوصول إلى الأهداف غير المعلنة وتحقيق الغايات الأخرى المسرَّة في نفس يعقوب، ويصبح السَّحق الوظيفي الَّذي تتعرض له الكفاءات والخبرات والمواهب والقدرات وأصحاب المبادرات في ظلِّ غياب الحاضن لَهُم والمتأمِّل لفكرهم والحافِظ لحقوقهم ومَن يأخذ بأيديهم، فراغًا يدخل مِنْه أصحاب الأفكار السَّيئة والاهتمامات الدَّنيئة، والنيَّات غير الطيِّبة في سدِّ هذه الفجوة أو تغطية هذا الفراغ وعَبْرَ الرَّفث بأفكارٍ تخديريَّة، وكأنَّها تمنحهم فرصًا وظيفيَّة أكبر، وتَعدُهم بميزات تنافسيَّة، وهكذا تبدأ مرحلة جديدة في حياة الموظف الَّذي يواجه حالة السَّحق الوظيفي فيصبح مدخلًا لهذه التَّنظيمات والمنظَّمات والمؤسَّسات الَّتي تستهدف الوصول إلى أسرار المؤسَّسة ودقائق تفاصيلها، فهي تمنحه الأمان والطُّمأنينة والتَّقليل من حجم التَّظاهر بعدم الرِّضا وإعادة تقييم مساره وعلاقاته المؤسَّسيَّة والتَّقدير للمسؤول الجديد لِيصبحَ إحدى الجراثيم الخبيثة الَّتي تنخر في مكوِّنات البَيْتِ الدَّاخلي المؤسَّسي وتقدِّم صورة أخرى مشوّهة عن هذه المؤسَّسات، لِتبدأَ بعد ذلك مراحل أخرى من التَّجييش والتَّجنيد والمسمَّيات الَّتي يصبح فيها الموظف ضحيَّة لغياب ميزان العدالة المهنيَّة وتسطيح مفاهيم الإخلاص، وتهميش وإقصاء القدوات والنَّماذج.
أخيرًا، يبقى المسار الآخر في معادلة السَّحق الوظيفي نتاجًا للهشاشة الوظيفيَّة والنَّمطيَّة المهنيَّة وغياب معايير الإخلاص والمسؤوليَّة والالتزام في الشَّخص الآخر الَّذي وصلَ إلى هذا المنصب لأسبابٍ لا ترتبط بتحقُّق المعايير، مِثل: الوجاهة الاجتماعيَّة والعلاقات الوظيفيَّة والشَّخصيَّة والعائليَّة أو المحسوبيَّة واستغلال النُّفوذ الوظيفي، والإساءة في الاختيار أو نَوْع من الاستمالة؛ لكونِ الموظف المرشَّح لهذا المنصب يعيش في نطاق جغرافي معيَّن، وعِندَها يصلُ إلى هذا المنصب بِدُونِ جهدٍ أو استحقاقٍ أو امتلاك لأدوات التَّمكين والتَّمكُّن الَّتي يستطيع من خلالها أن يُعيدَ تصحيح المسار الوظيفي وضبطه، لذلك يصل بعض الأشخاص إلى مواقع إداريَّة عُليا، غير أنَّ سجلَّ أدائهم الوظيفي والمهني لم يظهر أيّ مؤشِّر للتَّقدُّم في المسار الوظيفي والأداء والعمليَّاتي، بل يصلُ الأمْرُ إلى أن يكُونَ المسار السَّابق أفضلَ من الحالي، وأنَّ الحراك الَّذي شهدته الوحدة المؤسَّسيَّة في مختلف المستويات التَّنظيميَّة، لم يَعُدْ كما هو في ظلِّ الإدارة الجديدة، فإذا كان السَّحق الوظيفي أوجدَ فئات متحاملة على النِّظام والمؤسَّسة وإداراتها ومهامها، فإنَّه أوجدَ أيضًا فئة أخرى مترفة ومدلَّلة من الموظفين، ممَّن أسندت إِلَيْهم مسؤوليَّة قيادة المؤسَّسات والمسارات الوظيفيَّة الأخرى وهُمْ غير أهليَّة لذلك؛ وهكذا تضيع أمام السَّحق الوظيفي الأمانات، وتغيب المصداقيَّات، وتموت الأخلاقيَّات، وتنمو الجراثيم الإداريَّة، وتنتعش الهشاشة الوظيفيَّة، وتعيش المؤسَّسات حالةً من التَّراجع في الأداء، كما وينمو سقف التَّخبط وعدم التَّخطيط والتَّصدُّع في البَيْتِ الدَّاخلي والاهتمام بالظَّواهر الصوتيَّة الإعلاميَّة وإحداث ارتباكات واختلالات في قواعد العمل المؤسَّسي، مرحلة يتخلَّى فيها الجميع عن سقف المواطنة واستشعار عظَمة الوطن والتَّعامل مع التَّغيير بروح التَّغيير وحسِّ المسؤوليَّة، لِتتَّجهَ إلى المساومة على المبادئ وتجاوز خطوط الأمان للوقوع في المحظور والعبثِ بالممنوع، ويصبح السَّحق الوظيفي وفق معادلة الهشاشة المهنيَّة والدَّلال الوظيفي خطرًا يُهدِّد الأمن الوطني.
د.رجب بن علي العويسي