بدايةً، لا بد من الإشادة بالمقال الوطني العميق الذي خطه العميد المتقاعد إسماعيل بن شهاب البلوشي، فهو ينم عن غيرة أصيلة وحب راسخ لهذا الوطن، ويسلط الضوء ببراعة على إنجاز تاريخي عظيم لسلطنة عُمان، تمثل في دورها المحوري كجسر للحوار والتلاقي في أصعب الملفات الدولية. إن ما ذكره الكاتب عن حكمة الدبلوماسية العُمانية وقدرتها على نسج خيوط السلام في صمت هو حقيقة نعتز بها جميعًا.
ولكن، من رحم هذه الإشادة، يطرح الكاتب تساؤلًا مؤلمًا -على حد وصفه- حول غياب المواكبة الإعلامية لهذا الدور. وهنا، قد نختلف في تشخيص السبب، فالأمر ليس “تقصيرًا” من الإعلام بقدر ما هو “انعكاسٌ” لفلسفة الدولة العُمانية بأكملها.
إن التساؤل الذي يطرحه الكاتب مشروع، ولكنه قد يغفل عن حقيقة جوهرية: إن الإعلام في عُمان ليس كيانًا منفصلًا عن الدبلوماسية، بل هو جزء لا يتجزأ من أدواتها، ويتبع نفس النهج القائم على الحكمة والهدوء والتأثير الفعلي لا الصوتي.
يمكن تفنيد فكرة “غياب الإعلام” من خلال النقاط التالية:
- الثقة لا تُبنى بالضجيج الإعلامي:
إن أساس نجاح الوساطة العُمانية هو “الثقة” التي بنتها على مدى عقود. هذه الثقة نابعة من قدرتها على العمل بسرية تامة، بعيدًا عن الأضواء التي قد تحرق مراحل التفاوض الحساسة. لو أن كل خطوة دبلوماسية قُوبلت بحملة إعلامية صاخبة وعناوين رنانة كما يقترح الكاتب (“السلام يُصاغ من مسقط”)، لفقدت عُمان أهم أوراقها: الموثوقية والسرية. فالأطراف المتفاوضة (مثل الولايات المتحدة وإيران) تلجأ إلى مسقط لأنها تضمن أن حواراتها ستبقى طي الكتمان حتى تنضج، لا لتتحول إلى مادة للاستهلاك الإعلامي العالمي. - قوة التأثير لا قوة الصوت:
يميز المقال بين “التأثير” و”رواية التأثير”. لكن في الحالة العُمانية، فإن قوة التأثير تكمن في عدم روايته بشكل استعراضي. إن القوة الحقيقية لا تحتاج إلى إعلان دائم عن نفسها. وصول كبار المسؤولين العالميين إلى مسقط، والبيانات الرسمية المقتضبة التي تصدر في التوقيت المناسب، والمقالات التحليلية في كبريات الصحف العالمية التي تشير إلى “الدور العُماني” (وهي موجودة بكثرة لمن يبحث) هي بحد ذاتها أكبر ترويج. الإعلام العُماني يدرك أن “الفعل” أبلغ من “القول”. - التركيز على الجوهر لا المظهر:
إن ما يدعو إليه المقال هو التركيز على “صورة” الدولة، بينما ركزت فلسفة عُمان دائمًا على “جوهر” الدولة. الجوهر هو تحقيق الأمن والاستقرار للمنطقة، وتجنيبها ويلات الحروب. هذا هو الإنجاز الحقيقي الذي تترجم آثاره إلى استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي، وهو أثمن بكثير من حملة علاقات عامة عالمية قد تكون مؤقتة. الإعلام العُماني يخدم هذا “الجوهر” عبر التزامه بالرصانة والموضوعية. - الإعلام كأداة استراتيجية وليس أداة ترويجية بحتة:
إن ما يُطلب في المقال من أفلام وثائقية وترويج عالمي هو أمر محمود ومطلوب في سياقات أخرى كالسياحة والثقافة. أما في ملف السياسة الخارجية الشديدة الحساسية، فإن الإعلام الهادئ والموجه هو الأداة الاستراتيجية الأنفع. إنه يبعث برسالة للعالم مفادها: “نحن هنا لنعمل، لا لنتحدث عن عملنا”. هذه الرسالة بحد ذاتها هي ما تجعل من عُمان “سيدة التوازن” الفعلية لا القولية.
خاتمة
إن الإعلام العُماني ليس غائبًا أو مقصرًا، بل هو إعلام “حكيم” يتبع نهج الدولة الحكيمة. هو ليس إعلامًا “صامتًا”، بل إعلام “هادئ”، والفرق بينهما شاسع. فالصمت هو غياب، أما الهدوء فهو حضور واثق لا يحتاج إلى صخب.
عُمان، بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه-، لا تحتاج لمن يروي قصتها بالضجيج، لأن أفعالها تروي نفسها في سجلات التاريخ الحقيقية، وفي أروقة الدبلوماسية العالمية التي تنظر إليها كنموذج يُحتذى. إن أثر عُمان ليس منقوشًا على صفحات الجرائد اليومية بقدر ما هو محفور في استقرار المنطقة وسلام شعوبها. وهذا هو الإنجاز الأبقى.
