في خضم زحمة التحليلات اليومية وضجيج الإعلام المنحاز أو المتسرّع، قد يستوقف القارئ هذا العنوان: “انتصرت إيران”. وقد يثير هذا العنوان جدلاً بين من يرفض الفكرة جملةً وتفصيلاً ومن يرى فيها مغالاة سياسية أو انحيازًا. غير أن ما يدفعنا إلى إطلاق هذا الوصف ليس الانحياز، بل محاولة عقلانية لفهم ما جرى من منظور استراتيجي فكري عميق يتجاوز الشعارات وردود الفعل اللحظية.
الكرّ والفرّ في الجغرافيا السياسية
ما يُحسب لإيران اليوم – بعيدًا عن التأييد أو المعارضة – هو قدرتها على تفعيل مبدأ “الكرار” في سلوكها السياسي والعسكري، مقابل ما كان سائدًا في المنطقة من نمط “الانسحاب والانكفاء”. او عدم المقدرة في فهم التوقيت المناسب للانسحاب لأعادة الكرة وترك باباً للأمل الكرار هنا لا يُقصد به الهجوم العسكري فقط، بل القدرة على تغيير منطق المواجهة وميدان المعركة، وتحويل الأزمة إلى منصة للتصعيد المدروس والمفاوضات الذكية.
ولعل أبرز ملامح هذا التغيير أن إيران، خلافًا لما اعتادت عليه دول عربية وإسلامية في العقود الماضية، لم تكتفِ بالصمود أو الشكوى أو طلب الدعم، بل بادرت إلى إعادة رسم قواعد الاشتباك، ولو بثمن مرتفع. إنها الدولة الإسلامية الوحيدة في التاريخ الحديث التي تدخل مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع الغرب وإسرائيل وتخرج منها وهي تفرض شروطها للمراحل المقبلة او على الاقل صامدة كدولة.
فشل الردع الغربي الكلاسيكي
لطالما كانت نظرية الردع الغربية قائمة على التفوق التكنولوجي والدقة في اعتراض التهديدات قبل وقوعها، سواء عبر منظومات الدفاع الصاروخي أو العقوبات الاقتصادية. لكن التجربة الإيرانية الأخيرة – كما جرى في الهجوم على منشآت إسرائيلية أو في دورها غير المباشر في مساحات النزاع – بيّنت أن الردع الغربي بات بحاجة لإعادة نظر.
فقد وصلت الصواريخ والطائرات المُسيّرة إلى أهدافها رغم تنصيب أعلى درجات الحماية الجوية، واختُرقت الأنظمة التي لطالما رُوّج لها باعتبارها درعًا منيعًا. هذا التطور يفرض تحولًا في النظرية الأمنية الإقليمية والدولية، ويضع إيران في موقع الفاعل لا المفعول به، بل كدولة تُجبر الآخرين على مراجعة حساباتهم.
التحوّل من الدعم العربي إلى الإسلامي
ما هو لافت أكثر، هو أن حلفاء إيران وداعمي خطابها لم يعودوا محصورين بالخطاب العربي التقليدي، بل توسعت الجبهة إلى دعم إسلامي أممي، يتجاوز الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. في السابق، كانت المعارك تُخاض بعناوين قومية أو وطنية محدودة، بينما اليوم نشهد حالة تداخل مذهبي وسياسي وفكري بين شعوب وجماعات إسلامية تعتبر أن الانتصار الإيراني – حتى إن لم تتفق معه بالكامل – يمثل رمزية التحدي الإسلامي للهيمنة الغربية.
وهنا يكمن التحول الجيواستراتيجي الأهم: لم تعد مواقف التأييد والرفض تُقاس بالخرائط السياسية، بل بالانتماءات الحضارية والرمزية الفكرية.
قراءة الانتصار لا تعني التأييد
لابد من التوضيح هنا أن قراءة “الانتصار الإيراني” لا تعني بالضرورة تأييد كل ما تفعله إيران، أو تبنّي سياساتها الداخلية والخارجية. بل إن المقال يحاول أن يفصل بين التحليل الاستراتيجي والاصطفاف العاطفي. فهناك فرق جوهري بين الانبهار بالمشهد وبين تحليله بعمق. ما قدمته إيران في الساحة الدولية هو نموذج جديد من المواجهة السياسية والعسكرية المفتوحة، يُعيد صياغة مفهوم الصراع بين الشرق والغرب، وبين الفكر الإسلامي والسياسات الغربية.
إن من يفهم السياسة بعين الجدل التاريخي والتغير الجيواستراتيجي، يعلم أن كل مرحلة تخلق أدواتها ومنطقها الخاص. وها نحن اليوم أمام مرحلة لم تعد فيها الهيمنة الغربية مطلقة، ولا الردع مضمونًا، ولا الرد العربي موحدًا أو قادرًا. بينما تظهر إيران كلاعب جديد يملك مشروعًا استراتيجياً طويل النفس، يتقن فيه فن الكرّ حين يلزم، ويتقن فن إدارة الانسحاب حين تقتضي المصلحة.ما بعد النزال… ومنطق الجولة التالية
الفرق الجوهري بين إيران وبين الدول العربية والإسلامية التي واجهت الغرب سابقًا، هو أن أغلب هذه الدول كانت تخوض صراعاتها بعاطفة متأججة وسقف متدنٍ من التفاوض السياسي. كانت المعارك تنتهي بانهيار داخلي، أو مساومات مذلة، أو انقلاب على الذات. أما إيران، فإنها وإن لم تنتصر عسكريًا بشكل مطلق، لكنها أبقت على أدواتها، وفرضت بقاءها، ورسخت معادلة جديدة: النزال لم ينتهِ، بل تغيرت شروطه، والدولة التي تصمد وتناور وتفاوض من موقع القوة هي التي تُحسب لها الجولة.
لذا، فإن عنوان “انتصرت إيران” لا يُفهم كمجرد ضربة ناجحة أو جولة تكتيكية. بل يُقرأ كإعلان عن انتهاء مرحلة واستقبال مرحلة أخرى من الصراع الطويل في عالمٍ لم يعد يحكمه منطق القوة فقط، بل منطق البقاء، والكرّ، واستراتيجية التوقيت.
اما لأمتي العربية اقول ان حسابات كثيرة يجب ان يعاد دراستها لأن الاخطار التي نسمع عنها باتت اقرب من اي وقتٍ مضى.
إسماعيل بن شهاب بن حمد البلوشي

