مع بزوغ فجر اليوم الأول من شهر محرم، يطلّ علينا عام هجري جديد حاملاً في ثناياه عبق ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تلك الرحلة العظيمة التي غيرت مسار التاريخ الإسلامي، فهي ليست مجرد مناسبة للتهنئة والاحتفال، بل محطة روحية عميقة يتوقف عندها المسلمون لاستخلاص الدروس والعبر، وإعادة ترتيب أولوياتهم في رحلتهم الإيمانية.
فالهجرة النبوية لم تكن فراراً من خطر، بل كانت انتصاراً للإيمان على الكفر، وتضحيات في سبيل الحق، وبناءً لأول دولة إسلامية تحمل رسالة السماء إلى العالمين.
وفي كل عام، تمنحنا ذكرى رأس السنة الهجرية فرصة ذهبية للتأمل في معاني الهجرة الخالدة، تلك التي لا تنحصر في الزمان والمكان، بل تمتد لتكون هجرة دائمة في قلوب المؤمنين. هجرة من المعصية إلى الطاعة، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الضعف إلى القوة. إنها ذكرى توقظ فينا روح التجديد والإصلاح، وتذكرنا بأن التغيير يبدأ من الداخل، كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير القلوب قبل تغيير الجغرافيا.
وفي خضم زحام الحياة وضجيجها، تأتي رأس السنة الهجرية كمنارة تهتدي بها النفوس إلى بر الأمان، تذكرنا بأن الزمان هو رأس مال المسلم الذي إن أحسن استثماره ربح، وإن أساء استعماله خسر. فما أعظم أن نبدأ عامنا الجديد بتوبة صادقة، وعزم أكيد على تغيير ما بأنفسنا، اقتداءً بالصحابة الكرام الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا خير القرون، وأفضل الأمم.
إن القيمة الروحية لرأس السنة الهجرية لا تكمن في الاحتفالات الظاهرية، بل في استحضار المعاني الجوهرية للهجرة النبوية. فكل مسلم مدعو لأن يكون مهاجراً إلى الله بقلبه، مهاجراً من الذنوب إلى التوبة، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الفرقة إلى الوحدة. هذه هي الهجرة الحقيقية التي يحتاجها المسلمون اليوم أكثر من أي وقت مضى، في زمن تكالبت فيه الأمم على الأمة الإسلامية من كل حدب وصوب.
لقد جعل الله تبارك وتعالى من التقويم الهجري شاهداً على عزة المسلمين وتميزهم، ومناسبة لتذكر بطولات السلف الصالح الذين ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء. فهل نكون خير خلف لخير سلف؟ وهل نستقبل عامنا الجديد بالعزم على تغيير واقعنا للأفضل؟ أسئلة تطرحها علينا هذه الذكرى العطرة، وتنتظر منا إجابات عملية لا تبقى حبيسة القلوب، بل تترجم إلى أفعال وسلوكيات.
هذا العام الذي يوافق 1446 هجرياً ليس مجرد رقم يضاف إلى التقويم، بل هو حلقة جديدة في سلسلة زمنية بدأت بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة قبل أربعة عشر قرناً ونصف. تلك الرحلة المباركة التي لم تكن مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت نقلة حضارية شاملة، وضعت اللبنات الأولى لأعظم حضارة عرفها التاريخ.
ويعود أصل التقويم الهجري إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما جمع الصحابة لبحث مسألة التأريخ، فكان اقتراح علي بن أبي طالب عليه السلام أن يتخذ من هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بداية للتاريخ الإسلامي. ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا التقويم شاهداً على عظمة الأمة الإسلامية وتميزها، وسجلاً حافلاً بأمجادها وانتشارها في أرجاء المعمورة. إنه تقويم يربط المسلمين بتاريخهم المجيد، ويذكرهم دائماً بتضحيات السلف الصالح في سبيل إعلاء كلمة الحق.
وتختلف مظاهر الاحتفال برأس السنة الهجرية من بلد إلى آخر، لكنها تتفق جميعها في جوهرها الروحي. ففي المملكة العربية السعودية، حيث تقع الأماكن المقدسة، تبدأ الاحتفالات بإعلان ثبوت رؤية هلال محرم، ثم تنتقل إلى المساجد حيث تقام صلوات ودعوات خاصة. أما في مصر، فتكتسي الشوارع بالزينة الخفيفة، وتخصص وسائل الإعلام برامجها للحديث عن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودروس الهجرة. وفي دول المغرب العربي، يعتبر اليوم فرصة لزيارة الأقارب وتبادل التهاني مع تقديم الحلويات التقليدية.
كما لا تقتصر أهمية هذه المناسبة على الجانب الاحتفالي، بل تتجاوزه إلى أبعاد تربوية عميقة. فهي تذكر المسلمين بقصة بداية جديدة، تماماً كما كانت الهجرة بداية لدولة الإسلام. إنها فرصة للمراجعة الذاتية، ووضع الخطط للارتقاء بالإيمان والأخلاق في العام الجديد. كثير من المسلمين يعتبرونها محطة للتوبة والإنابة، يبدؤون بها عامهم بصيام يوم عاشوراء، اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
اما في إندونيسيا وماليزيا، حيث يعيش أكبر تجمع للمسلمين في العالم، تأخذ الاحتفالات طابعاً شعبياً مميزاً. تبدأ بمواكب ضخمة تحيي ذكرى الهجرة، وتنتهي باحتفالات دينية في المساجد. أما في الهند وباكستان، فتشهد المساجد إقبالاً كبيراً على دروس السيرة النبوية، وخاصة أحداث الهجرة وما فيها من عِبَر. هذه المظاهر المختلفة تلتقي في هدف واحد: إحياء ذكرى حدث غير مجرى التاريخ، وأسس لأعظم حضارة إنسانية عرفها العالم.
كما تمتزج في هذه المناسبة العظيمة الفرحة بالحزن، فالاحتفال ببداية عام جديد يقترن بالتأمل في أحوال الأمة الإسلامية اليوم. إنها فرصة لاستلهام دروس الماضي لمواجهة تحديات الحاضر. فكما استطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته تحويل المحنة إلى منحة، والهزيمة الظاهرية إلى انتصار حقيقي، فإن المسلمين اليوم مدعوون لاستعادة هذا الروح، والبدء من جديد في بناء مجدهم التليد.
بالتالي، تبقى ذكرى رأس السنة الهجرية مناسبة فريدة تجمع بين الاحتفال والتأمل، بين الفرح بالعام الجديد والحنين إلى الماضي المجيد. إنها دعوة صادقة لكل مسلم لأن يهاجر من حال إلى حال أفضل، ومن درجة إيمانية إلى درجة أعلى. كما كانت الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الإسلام، فلتكن بداية هذا العام الهجري الجديد نقطة تحول في حياة كل منا، نحو الخير والصلاح والفلاح.
وكما ذكرت آنفاً، يحتفل المسلمون حول العالم برأس السنة الهجرية بطريقة تختلف عن الاحتفالات الصاخبة التي نراها في مناسبات أخرى، فهي مناسبة روحانية بامتياز، تجمع بين الفرح الهادئ والتأمل العميق. تبدأ الاستعدادات مع اقتراب نهاية شهر ذي الحجة، حيث يترقب الناس إعلان ثبوت رؤية هلال محرم، الشهر الذي يطل علينا بعام جديد يحمل ذكريات هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وتضحيات الصحابة الكرام.
ففي المساجد، تكتسي الجدران بالزينة البسيطة، وتقام حلقات الذكر وقراءة السيرة النبوية، خاصة أحداث الهجرة وما فيها من دروس وعبر. يتجمع المصلون لسماع خطبة خاصة عن معاني الهجرة الخالدة، وكيف يمكن تطبيقها في حياتنا المعاصرة. كثير من المسلمين يخصصون هذا اليوم للدعاء والصلاة، طالبين من الله أن يجعل العام الجديد عام خير وبركة على الأمة الإسلامية.
وفي المنازل، تبدأ العائلات يومها بتبادل التهاني، حيث يتبادل الأقارب والأصدقاء عبارات مثل “كل عام وأنتم بخير” أو “تقبل الله منا ومنكم”. بعض الأسر تحرص على إعداد وجبات خاصة، أو توزيع الحلويات التقليدية التي تختلف من بلد لآخر، كالقطايف في بلاد الشام، أو الكعك المحشو في مصر، أو البسكويت المزين في دول الخليج العربي.
وفي بعض الدول الإسلامية، تتحول هذه المناسبة إلى عطلة رسمية، حيث تغلق الدوائر الحكومية والمدارس أبوابها، بينما تقام الفعاليات الثقافية التي تسلط الضوء على أهمية الحدث التاريخي. في ماليزيا مثلاً، تنظم المسيرات والأنشطة المجتمعية التي تعكس الروح الإسلامية، بينما في تركيا تقام الندوات والمحاضرات عن دور الهجرة في بناء الحضارة الإسلامية.
لكن الاحتفال الحقيقي برأس السنة الهجرية يتجاوز هذه المظاهر الخارجية، فهو في جوهره دعوة للتجديد الذاتي. كثير من المسلمين يستغلون هذه الفرصة لمراجعة حساباتهم، ووضع خطط لتحسين أنفسهم في العام الجديد، سواء في علاقتهم مع الله أو مع الآخرين. إنها فرصة للهجرة من العادات السيئة إلى الحسنة، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الفرقة إلى الوحدة.
وبعض الصالحين يعتبرون هذه المناسبة بداية للتخطيط لتحقيق أهداف روحية، مثل ختم القرآن الكريم عدة مرات خلال العام، أو المحافظة على صلاة الجماعة، أو زيادة الصدقات. إنهم ينظرون إليها كبداية جديدة، تماماً كما كانت الهجرة بداية جديدة للإسلام والمسلمين.
لذلك يبقى الاحتفال برأس السنة الهجرية في الإسلام مختلفاً عن سائر الاحتفالات، فهو ليس مجرد عادة اجتماعية، بل هو رسالة روحية تذكرنا بأن التغيير يبدأ من الداخل، وأن الهجرة الحقيقية هي هجرة القلب إلى الله، وهجرة الأخلاق إلى ما يرضي الله، وهجرة المجتمع إلى ما يعود عليه بالخير والصلاح.
وكل ما سبق مرتبط بما تمثله قصة الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة المنورة في عام 622م واحدة من أهم المحطات المفصلية في التاريخ الإسلامي، حيث لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت نقلة حضارية شاملة غيرت وجه التاريخ. بدأت أحداث الهجرة عندما اشتد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فأذن الله لهم بالهجرة إلى يثرب (المدينة المنورة) حيث وجدوا البيئة الآمنة لبناء أول دولة إسلامية. غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة مع صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، متخفيين في غار ثور ثلاثة أيام، ثم واصلا رحلتهما إلى المدينة التي استقبلتهما أنصار الله من أهلها بفرح عظيم.
وعلى الصعيد الاجتماعي، يشكل التقويم الهجري عاملاً مهماً من عوامل توحيد الأمة الإسلامية وتماسكها. فمن خلال اعتماد هذا التقويم الموحد، يشعر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بانتمائهم إلى أمة واحدة، تجمعهم ذكرى مشتركة وقيم واحدة. إن الاحتفال الجماعي برأس السنة الهجرية في وقت واحد – وإن اختلفت المظاهر والطقوس من بلد إلى آخر – يعزز أواصر الأخوة الإسلامية، ويذكر الجميع بوحدة المصير والمصالح. كما أن هذا التقويم يربط الأجيال الجديدة بتاريخ أسلافهم العظيم، ويحفظ للأمة ذاكرتها الجماعية وهويتها المتميزة في عالم يتسم بالعولمة وطمس الخصوصيات.
كما تمثل ذكرى رأس السنة الهجرية منعطفاً روحياً وإنسانياً عميقاً، تختزل في ثناياها أعظم الدروس والعبر التي تنير طريق الأمة نحو الخير والصلاح. فمن قصة الهجرة النبوية الخالدة نستلهم قيم الصبر الجميل على الشدائد، ذلك الصبر الذي تحلى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام عندما تحملوا الأذى والعذاب في سبيل إعلاء كلمة الحق. لقد علمتنا الهجرة أن الصبر ليس استسلاماً للواقع، بل هو قوة داخلية تمكن المؤمن من تجاوز المحن وقلبها إلى منح وعطايا.
كما تبرز الهجرة النبوية قيمة التخطيط المحكم والعمل الدؤوب، فقد أعد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة بكل حكمة وإتقان، معتمدا على الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله. إنها تذكرنا بأن الإيمان القوي لا يتناقض مع العمل الجاد، وأن النجاح يحتاج إلى رؤية واضحة وإرادة صلبة، تماماً كما وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بخطوات مدروسة.
وفي وقت تتعرض فيه الأمة الإسلامية للتفرقة والتمزق، تطل علينا ذكرى الهجرة بقيمة الوحدة والأخوة، تلك التي تجسدت في مؤاخاة المهاجرين والأنصار. لقد صنع الإسلام من قبائل متناحرة أمة متحابة، تذوب فيها الفوارق العرقية والطبقية تحت مظلة الإيمان. فهل نستعيد اليوم هذه الروح الجامعة التي جعلت من المختلفين إخوة متحابين؟
إن استقبال عام هجري جديد يجب أن يكون أكثر من مجرد مناسبة عابرة، بل محطة للتغيير الجاد والتوبة الصادقة. فلنغتنم هذه الفرصة لنقيم محكمة ضمير نراجع فيها أعمالنا، ونصحح مسارنا، ونضع خطة عملية للتقرب إلى الله في العام الجديد. كما كانت الهجرة نقلة كبرى في تاريخ الإسلام، فلتكن بداية هذا العام نقلة في حياتنا من الظلمات إلى النور، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الغفلة إلى الذكرى.
فيا أيها المسلمون في كل مكان، ها هو عام جديد يطل علينا بنسمات الأمل، حاملاً في طياته فرصاً للتجديد والإصلاح. لنستقبله بقلوب مطمئنة، وعزائم متجددة، ونيات صادقة. ولنجعل من قصة الهجرة النبوية نبراساً نهتدي به في ظلمات هذا العصر، ولنتذكر دائماً أن التغيير يبدأ من النفس، فإذا صلحت صلح كل شيء حولها. وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه، وجعل هذا العام عام خير وبركة على الأمة الإسلامية، إنه سميع مجيب.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.

