تتشكل الصورة الذهنيَّة لأيِّ مؤسَّسة من خلال جملة القِيَم والأخلاقيَّات والمبادئ والمنهجيَّات والقناعات وأساليب العمل وآليَّة التعامل والعلاقات وقواعد السلوك الَّتي تربط بَيْنَ المُجتمع الوظيفي وبَيْنَ المُجتمع الوظيفي وقيادة المؤسَّسة (الوزير/الوكيل/ المدير التنفيذي)، حيثُ تؤدي استدامة العلاقة المهنيَّة وكفاءتها ومرونتها وتحديثها المستمر بحسب المواقف والظروف مع الحفاظ على درجة ثباتها واستقرارها واستمرارها بَيْنَ المستويات الوظيفيَّة في المؤسَّسة والقيادة العليا، دَورًا محوريًّا في تحقيق الإنتاجيَّة وتعزيز الحراك الفكري والمعرفي والتواصلي في البيت الداخلي، فتقوى الممكنات والمعززات وتتزايد الفرص وتنمو مُقوِّمات الصحَّة النفسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والأدائيَّة في المؤسَّسة، كما يرتفع مستوى التنسيق والتكامل والتناغم والروح الإيجابيَّة والمرونة والحوار والتقارب الفكري بَيْنَها، الأمر الَّذي سينعكس إيجابًا على الكفاءة الداخليَّة للمؤسَّسة والسمعة الخارجيَّة لها؛ والصورة الذهنيَّة الَّتي يحملها المُجتمع الوظيفي، بأنَّ المؤسَّسة تعيش حالة استثنائيَّة من الاستقرار الاجتماعي والمهني والوظيفي والأداء النوعي؛ كونه جزءًا من المؤسَّسة، يعنيه أمْرُها، ويهمُّه نجاحها، وتربطه بها خيوط اتصال ممتدَّة أساسها الثقة والاحتواء والإيجابيَّة والأمانة والمصداقيَّة والشفافيَّة، كما يرتفع مؤشِّر الثقة المُجتمعيَّة في المؤسَّسة والقائمين عليها والاعتراف بإنجازاتها وما تقدِّمه في خدمة المُجتمع الخارجي.
غير أنَّ ما يحدُث واقعًا في بيئة العمل قد يتقاطع ـ وللأسف الشديد ـ مع هذا الطموح الفطري في أن تكُونَ المؤسَّسات نموذجًا مصغرًا للوطن في احتوائه ومواطنته وإنسانيَّته، إمَّا لسُوء فَهْم بمفهوم الأمانة الوظيفيَّة والحقيبة المهنيَّة للمسؤول، وهو أمر لا يُمكِن تعميمه بأيِّ حال من الأحوال. فكما أنَّ هناك ممارسات سلبيَّة حَوْلَ المسؤوليَّة الوظيفيَّة فهناك أيضًا نماذج إيجابيَّة سطَّرها بعض المسؤولين في مؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة في إخلاصهم وعطائهم وقيادتهم للمؤسَّسات. ولكن تبقى الصورة الذهنيَّة غير المنضبطة الَّتي ألصقها بعض القائمين على هذه المهمَّة في أنفسهم وشخصهم، في ظل غياب البُعد الاستراتيجي لدَيْهم في إدارة وقيادة المؤسَّسات، وتراجع الفِقه الإداري ومفاهيم الإدارة في حياة الكثير من المواطنين، إلَّا أنَّ المُجتمع الوظيفي اليوم باتَ مدركًا لكُلِّ هذه الحقائق، واعيًا لهذه الممارسات، كما يرفع صوته في وجْه الظلم أو التهميش أو الإقصاء أو الممارسات الإداريَّة غير المسؤولة الَّتي باتتْ تشوِّه صورة العمل المؤسَّسي.
إنَّ ما يَجِبُ التنبُّه له أنَّ اعتماد الطِّيبة كمعيار يستخدمه البعض في الحُكم على المسؤول الحكومي ـ عند سؤال أحدهم حَوْلَ معايير تقييمك للمسؤول الحكومي، ليختزل الإجابة في أنَّه طيِّب ـ أمْر يفتقد للمنهجيَّة، وباتَ لهذا الوصف تداعياته السلبيَّة على مسار الأداء الوظيفي والعدالة المهنيَّة للمسؤول الحكومي تحديدًا؛ ذلك أنَّ اختزال تقييم المسؤول الحكومي، سواء كان وزيرًا أو وكيلًا أو غيره، في صفة الطِّيبة رغم أنَّها من الصفات المحمودة، والمطلوبة في شخصيَّة أيِّ قائد، لكنَّها حين تُصبح المعيار الوحيد للحكم على كفاءة المسؤول، فإنَّها تقف عاجزةً عن صناعة التغيير وتحقيق الإلهام وإنتاج النماذج، بل تضع المُجتمع الوظيفي أمام إشكاليَّة حقيقيَّة قائمة على تعميق الشخصنة في القرار المؤسَّسي، ويصبح المسؤول الحكومي سببًا في وجود العقل الاستراتيجي المخرّب. وهم (2 إلى 3) أشخاص بمُسمَّيات وظيفيَّة عُليا متنفذين في المؤسَّسة أنانيين لهم أجندتهم الشخصيَّة، يقومون بِدَوْر المخرّب الذَّكي بحيثُ يقفون في وجْه أيِّ تطوير داخلي أو توجُّه يسعى لإصلاح المؤسَّسة بتقديم حوافز منتِجة لصالح المُجتمع الوظيفي أو بناء شراكة فاعلة مع المُجتمع، ويسعون جاهدين إلى إقناع رئيس الوحدة الحكوميَّة بأنَّ هذه التوجُّهات تضرُّ بمصلحة المؤسَّسة وسمعتها ولا تتوافق مع التجارب العالميَّة.
إنَّ الطِّيبة وحْدَها لا تصنع مسؤولًا ناجحًا، ولا تبني مؤسَّسة متزنة؛ بل على العكس، حين تفتقر الطِّيبة إلى المهارة، وتغيب عنها أدوات القيادة ومهنيَّة اتخاذ القرار، فإنَّها تتحول من فضيلة إلى عبء، وتُصبح نقطة ضعف تُستغل من قِبل بعض الموظفين أو المتنفذين المحيطين بالمسؤول. فيغدو صاحب الطِّيبة جسرًا للآخرين لتمريرِ قراراتهم، وتُصبح المؤسَّسة رهينةً لفئة مُحدَّدة تتحدث باِسْمِه، وتتخذ قراراتها باِسْمِه، بل وتُقصي غيرها باِسْمِه، دون أن يمتلك الأدوات اللازمة لتصحيح المسار أو الوقوف في وجْه الانحراف المؤسَّسي؛ وإنَّ الطِّيبة الَّتي لا تستند إلى حُسن الإدارة، ولا تُدار بفكر استراتيجي، تقود إلى ارتباك واضح في بيئة العمل، وقرارات مرتجلة تغيب عنها العدالة الوظيفيَّة، وتتضارب لشأنها الإجراءات، لتظهر على السطح فئويَّة مسيطرة تُقصي مَن لا يتوافق مع مزاجها. كما أنَّ هذه الطِّيبة قد تُنتج بيئة مؤسَّسيَّة مضطربة، تفتقر إلى الثقة، ويعلو فيها صوت المزاج والتسلط، وتتراجع فيها الهُوِيَّة المؤسَّسيَّة، وتُصبح المؤسَّسة أشْبَه بحلقات منفصلة ومُكوِّنات جوفاء مفرغة تفتقر للقِيَم والسَّمت يقودها مزاج لا نظام، وعلاقات لا كفاءة.
ومع القناعة بأنَّ المسؤول الحكومي ليس عصا سحريَّة، لكنَّه يُمثِّل ركيزة أساسيَّة في نجاح المؤسَّسات العامَّة. لذا، فإنَّ تمكينه من خلال برامج نوعيَّة تُعزِّز فِقه الوظيفة العامَّة، وآليَّات اتخاذ القرار، وبناء فلسفة إداريَّة فاعلة، وفْقَ فلسفة ترتكز على تبني أفضل الأساليب الإداريَّة الحديثة الَّتي دعت إليها رؤية «عُمان 2040»، مثل الحوكمة، واللامركزيَّة، والإنتاجيَّة، والشراكة، والإيجابيَّة. أمر بالغ الأهميَّة، ما يؤكِّد على أهميَّة أن تعاد صياغة الفكر الإداري في المؤسَّسات، وعَبْرَ تعريض المسؤول الحكومي لبرامج استراتيجيَّة نوعيَّة في القيادة والإدارة والتعامل مع الأزمات وإدارة المواقف واتخاذ القرار والتعايش المؤسَّسي وعَبْرَ امتلاكه فلسفة إداريَّة راقية تؤمن بمبدأ التشاركيَّة والحوار والإفصاح والمصداقيَّة والصراحة والعمل المباشر والثقة، وأن تقوم الأكاديميَّة السُّلطانيَّة وغيرها من مؤسَّسات القيادة والإدارة العسكريَّة والأمنيَّة في سلطنة عُمان بِدَوْرها في تعزيز الوعي الإداري، وتصحيح المفاهيم السلبيَّة الَّتي باتت تقرأ بها الوظيفة العامَّة؛ لأنَّها تجد في كُلِّ العاملين بالمؤسَّسة وفي مختلف المستويات الإداريَّة والتنظيميَّة طريقها لتطوير المؤسَّسة.
من هنا نعتقد بأنَّ تقييم المسؤول الحكومي يَجِبُ أن يأخذ في الاعتبار جملة من المرتكزات الَّتي تبدأ من عمليَّة الاختيار والممكنات الاستراتيجيَّة الَّتي تصنع منه قوَّة فاعلة في مؤسَّسته، بما يمتلكه من بُعد نظر وسعة فكر وعُمق بصيرة ورؤية وحكمة وتوازن وعقلانيَّة، متجنبًا التسرع في إصدار الأحكام وانتزاع القرارات، وإرهاق المؤسَّسة بالتظلمات والإقصاء والتهميش لمن يعيشون خارج المزاج أو تصفية حسابات سابقة، متَّجهًا إلى التريُّث والفحص والتشخيص آخذًا بالأسباب الداعية لقرار سليم وإدارة كفؤة ناجحة، قوامها النزاهة والمحاسبيَّة، وفَهْم للموجودات المؤسَّسيَّة، وتثمير في الفرص وإدارة للسلوك، وتنظيم لأوراق العمل وصناعة للبدائل. إنَّها تعني المساحة الَّتي يمنحها المسؤول لإنتاج الواقع والفرص الَّتي يقدِّمها من أجل إثبات بصمة حضور فعليَّة له في أرض المؤسَّسة وإنتاجيَّتها، وقوَّة ما يحمله في أرصدته الثقافيَّة من مشروع حضاري للنهوض بالمؤسَّسة، وهي لا تعني مجرَّد ظهور للمسؤول الحكومي في منصَّات التواصل الاجتماعي وفتح حسابات له فيها أو سلامه على أحد في مكان عام أو مناسبة اجتماعيَّة؛ بل في قدرته على فتح أبواب مكتبه للآخرين من العاملين فيها وغيرهم ممَّن يعنيهم أمْرُها، كما اتسع صدره لقَبول النقد والتعايش مع الاختلاف، وتبسيط الإجراءات، وتقليل الهدر في الوقت وغيره في ظل بصيرة نافذةٍ وحكمةٍ بالغة وإصرار راسخ وتضحيات جليلة، وشخصيَّة ناجحة تمتلك الإخلاص وحُسن الإدارة، وتلتزم المسار لتبني الأحلام والآمال من أجل عُمان المستقبل؛ لذلك لا ينبغي أن يحتكم إلى العراقيل الَّتي تمنعه من تحقيقها أو الظروف الاقتصاديَّة والموازنات الماليَّة الَّتي لم تسعفْه لأدائها ليزيدَ من حاجز التذمُّر بحجَّة الانشغال وكثرة الالتزامات أو الانضواء مع فئة معيَّنة من المؤسَّسة أو سياسة غلق الأبواب، وتقريب مَن يُحبُّ وإبعاد مَن لم يكُنْ على المزاج، بل عليه أن يقف على واقع الفعل بكُلِّ مهنيَّة وإخلاص وتجرُّد من الأنانيَّة والفوقيَّة والفرديَّة؛ مسؤول حكومي يعيش الواقع بكُلِّ تجلِّياته، يقرأ، يتابع، يفكر استراتيجيًّا، يصحِّح، ينتقد، يتحدث بلُغة المؤشِّرات والإحصائيَّات والواقعيَّة لا بسطحيَّة العبارات ولباقة الكلمات، رجُل المهِمَّات الصعبة، مَن يلتزم المتابعة المسؤولة، والتخطيط السليم، والتنفيذ الأمين، والعمل المخلص، والروح الإيجابيَّة الحاملة للواء الإصلاح، والماضية في نهج التخطيط الوظيفي والولاء المتفرد، ليصنع في التزامه قوَّة، وفي إخلاصه قدوة، شريك في المسؤوليَّة، شريك في الإنجاز، شريك في العمل، شريك في النجاح، شريك في القرار.
د. رجب بن علي العويسي

