بعد أن صلى العم إبراهيم إماما في مسجد الحي ، واستمع الجميع إلى حديث شريف تم التطرق إلى شرحه وتوضيحه كعادة اهل المسجد في درسهم المسائي اليومي ، ذهب الجميع إلى منزله ، لتناول القهوة وتبادل أطراف الحديث ، ومعرفة ما استجد من أخبار بعضهم البعض ، بعدها تفرق كل إلى وجهته . كان من عادة العم إبراهيم الجلوس في فناء حوش المنزل ، مع زوجته وأم أبنائه وبناته الذين يعيشون بعيدا عنه ، كل مع من أختاره شريكاً لحياته، بينما هو وزوجته في بيتهم الذي تم الإنتهاء من بنائه حديثاً ، وضعا كل أحلامهما وآمالهما ليعيشوا تحت سقف واحد مع أبنائهم ، اما الآن فالجميع قد رحل ، هو قد تجاوز الستين من عمره، وأحيل للتقاعد ، بعد عمل إمتد إلى أكثر من أربعين عاما قضاها في القطاع العام ، أخذ العمل منه جهده وفكره وشبابه ، كان مثابرا في عمله ، مخلصا في آداء واجبه ، ملتزما بمواعيد دوامه ، لا يرائي مسؤولا ، ولا يحابى مديرا ، ينتقد كل عمل يراه خارجا عن القانون، أو الحيد عن ما هو مطلوب ومرسوم، تراه فاعلا ومتفانيا ، مساندا في كل الأحوال، ربما هذا لم يعجب مسؤوليه ولم يرقى لمديريه، ليكلفوه بمسؤوليات في العمل، أو يرفعونه إلى أعلى الرتب ، فظل حبيس وظيفته، مكافحا لأجل أبنائه وأهل بيته، يصونهم من الشتات وصروف الزمان ، يمنع عنهم الفاقة وينفذ ما استطاع لهم من مطالب ورغبات ، إلا إن تكاليف الحياة ومسؤولياته العائلية لم تسانده في بناء بيت أحلامه ، فاستأجر بيتا ، إيجارة يستقطع جزءا من نفقات العائلة ، ولا يجعل له فرصة للإدخار ، واللجوء إلى البنوك قد يقصم ظهره ، ويقلب عليه مواجع من الألم ، وتوغر جراحا في تفكيرة وقلبه.
لذا فلم يتردد بالتوكل على الله و الإنكفاء بالإعتماد على نفسه ، ولو بإيجاد عمل آخر يعزز من دخله ، ويوفر جزء للإدخار من راتبه ، لجأ إلى الحكومة بوزارة الإسكان للحصول على قطعة الأرض التى سوف يبني عليها بيت أحلامه لتعذر الشراء ، وينفض عن كاهله جزء من ثقل الإيجار ، وتسكن نفسيته في راحة واطمئنان ، لكن الزمن به طال ، في تجميع الكافي من المال ، والحصول على الأرض يحتاج إلى صبر وترقب وإنتظار ، وعندما حصل عليها كانت من المتاهة وصعوبة الإستدلال ، بعيدة عن الخدمات و مقومات الحياة ، الوصول إليها يحملك لتمتطي الهضاب والجبال والوديان ، وسكون المكان يدخل في النفس الوحشة ، وفي القلب الخوف والرجفة ، فكان عليه الإنتظار ، ليأنس داره بالجار ، وتصله الخدمة من ماء وكهرباء ، ومسلك يقوده بأمن وسلامة واطمئنان، وفي نهاية المطاف استكمل البناء ، وأنفق عليه كل ما أدخره من مال ، وكذا المكافئة المتواضعة التي حصل عليها مقابل سنين خدمته في القطاع العام ، انتشر حول بيته العمار ، بعد أن كان من المحال ، دبة حركة الساكنين الكادحين من أمثاله ، وأقرانه المتعففين الصابرين في المنطقة ، لكن البياض قد غزى معظم شعره ، والشيب قلل من حركته ، وفي نفس الوقت لا يزال يروى فكره الضامي بما وقع في يده من كتب ، ويخط بأنامل يده ما يسيل به فكره المتدفق المتقد ، من قصص وشعر وأدب ، يرسم بها طريقا للحياة ، ونهجا مضيئا للشباب ، يرشد بها كل تائه محتاج. ذات مساء أشتغلت يمناه بتهيئة وحراثة حوش فناء البيت ، وتخصيص مساحة للزراعة ، وإنبات البذور وزراعة الشجر ، ليكون للبيت خضرة تسر الناظرين ، ومتنفسا يفوح من نسماته العطر والرياحين ، ويستمتع بلذائذ قطف ثماره بين الحين والحين ، إلتفت إلى خلفه وإذ بزوجته تضع قهوتها المعهودة ، على حصير افترش الأرض منسوج من خوص النخيل ، ورائحة القهوة تنشر اريجها بنكهة شذى الهيل ، تفوح برائحتها العطرة الزكية النفاذة ، لم يتمالك العم إبراهيم مقاومة عبير القهوة، فحمل نفسه منطلقا حيث تجلس أم عياله ، يفضفض كل منهما للآخر ما بخوالج نفسه من ذكريات .
وقبل مغيب شمس هذا اليوم يلتقط الجريدة اليومية ، ليستكشف من خلال عناوين صفحاتها ، ما استجد من أحداث ، ويزداد من معين ما خطت به يد الكتاب ، ويستلهم من ما جادة به العقول و الأقلام ، يجتذبه عنوان تصدر صفحة الجريدة اليومية الواقعة بين يديه ، ليكشف له خبايا اخبار كانت في طي أرشيف مديره ومسؤوله المحتال ، الشخصية التى طالما حذرها وحذر كل من كان حولها ، نظرا لغطرسته وانفراده برأيه في إتخاذ القرار ، ولا يلتفت إلى من هو صاحب رأي صائب ونصح راشد ، يحب من الجميع بأن يعمل لأجله ويتعب لنجاحه ، ليرتفع بإسمه ويكسب مغنمه ومراده ، لكن الكثير من موظفيه تركوه وابتعدوا عنه ، فلا يأتمرون لأمره إلا في إطار مسؤوليتهم الوظيفية، مما جعله يشتد غيضا ، ويبخس في حقوق كل من لا يطيعه ويخضع لتعليماته وأوامره، إلا أصحاب النفوس الضعيفة و الضمائر الجشعة، أمست خاتما في يده وسوارا في معصمه، يحركها كيف يشاء ومتى ما أراد، عاشت هذه الفئة الضالة في بحبوحة من الرفاه، ودلالا زائفا انكشفت أسراره وخباياه ، وقبض على العصابة التى أتضح أمرها وعرف غرضها، فأصبحت في يد العدالة، بعد أن كانت مصدرا للإزعاج ، وفئة نشرت الويل والحقد والخراب ، فكان ما جمعته من حطام الدنيا سرابا منثورا ، وكنوزا تكتوي بها جباههم وقلوبهم خزيا وعارا.
حمد العم إبراهيم ربه وشكره على الصحة والعافية ، والنعمة التى وهبه الله للعيش في سكينة وحب وسلام ، وكشف لعبة المتآمرين والمرتشين والمنافقين من أصحاب النفوس الضعيفة والقلوب المتحجرة الرديئة.
بقلم الكاتب : حمد بن سعود الرمضاني
أبو سلطان
#عاشق_عمان