تأمل صالح وجه زوجته المتعب الذي هده التفكير والمرض، ولم تلاحظ فاطمة شحوب وجهها واصفراره ،كانت مشغولة الفكر لتجد طريقة ما تستطيع بها ان ترى حفيديها التؤامين (نور ونادر))..كانت رؤيتهما تذكرها بإبنتها الحبيبة والوحيدة ملاك، التي لم يرزقها الله إلا بها.
فملاك هي طفلتها الوحيدة التي غيرت حياتها بكل ما لهذه الكلمة من معنى، كانت فاطمة وزوجها من عائلة تعرف بغناها وجبروتها في المنطقة وعرفت فاطمة بالذات بعصبيتها ،وقسوة قلبها وتكبرها على الآخرين، وترفعها عن الفقراء والمساكين، فسبحان من رقق قلبها وجعلها تتغير من حال الى حال ،فكانت ملاك كنحلة كثيرة الدوران والإنتقال من زهرة إلى أخرى ترتشف الرحيق و تلتقط معها حبات البتلات من زهرة لزهرة ، لتزرع الحب هنا وهناك ، وبدأت أمها تختلط مع الآخرين لتشعر بمعاناتهم وفقرهم فباعت أملاكها، واموالها ووزعتها على الفقراء و المحتاجين، وابقت لها ما يسد حاجتهم وهذا ماكان يدعوها له زوجها الطيب الشيخ صالح ، فقد كان نعم الزوج لزوجته وأهل بيته، عرف بتواضعه وحبه للآخرين ..
كبرت ملاك محبة للحياة طموحة وجميلة جدا ،كانت اسم على مسمى فكل من يراها يفتتن بها ..فأخذت بشغاف القلوب وألهمت الآخرين شعرا ونثرا وغزلا وهياما ، تقدم لها الخطاب، منهم المحب لها ومنهم الشغوف بجمالها فاختار لها أهلها رجلا ظنوا فيه الصلاح والخير ، وانه سيكون خير صهر لهم ، فكم كانت فرحة كمال كبيرة عندما أعلنوا موافقتهم لتزويجه اغلى ما يملكون في هذا الكون ، وعمت الأفراح وزفة ملاك لكمال الذي كان مبهورا بجمالها ورقتها ودلالها ، فلم يكن يعبأ بوالديها بل كان كل همه ان يظفر بملاك زوجة له ليتباهى امام الجميع بانه فاز بالدانة المصونة ، الجميلة، المكنونة، قبل أن يسبقه إليها احد …فظهر وجهه القبيح ونواياه السيئة بعد الزواج بعد أن رزقه الله بتؤامين ، اسماهما (نور ونادر) ، أخذ يفرض حصارا على زوجته وكأن الغيرة والوسوسة أخذت منه مأخذها ، فلم يتركها تزور أهلها واذا جاء أحدهم لزيارتها طردهم شر طرده ..كانت ترجوه أن يترك والديها ، ولكنه كان يصرخ فيها متوعدا بأخذ أبنائها منها لتبقى وحيدة البيت إن أستمرت بالسؤال عن أهلها وإستعطاف قلبه ،..لم تكن تعلم ان أبو كمال كان عاملا يعمل في إسطبل الخيول لأهلها فاخطا في عمله يوما ، مما ادى لهروب بعض الخيول من الاسطبل فضربته امها بالسوط كتأديب له، إلا ان أباه مات قهرا وحنقا ، كان كمال رضيعا صغيرا فانتقلت به أمه لمنطقة اخرى، وها هو الآن ينتقم لوالده ، أصبحت ملاك طريحة الفراش لاتقوى على النهوض والإهتمام حتى بأصغر الأمور …كان شوقها لأمها كبير، لقد مرت ستة سنوات لم تراها، وكلما جاءت طردها زوجها شر طردة ، فلم تحب أن تتعرض أمها أو أبيها باي سوء، فكتمت شوقها وحزنها على فراقهم …مما دب الهم والمرض في جسمها النحيل الذي أصبح كل من يراها ، وكأنها قد بلغت الأربعين وهي لاتزال في سن الخامسة والعشرين ….
تردد زوجها قبل أن يأخذها لبيت أهلها ، ولكنه تعب من مراعاتها وخاصة بعد أن اخبره الطبيب انها في أيامها الأخيرة وانها بحاجة لتغيير حالتها النفسية لعل الله يحدث بعد ذلك امرا.
رغم انها كانت أشهر قليلة تلك التي مكثتها في بيت والديها لكنها كانت اسعد أيام حياتها، وكم حزنت امها وهي تراها خائرة القوى ضعيفة البنية ، مكسورة الخاطر ..فحاولت حثها لتقاوم هلوسات النفس، فهي طبيبة نفسها ،ولكن كان الموت أسبق فوجدت الراحة بين يدي امها التي تلقتها بشوق، وبحضن السنين التي فقدتها والأيام التي لم ترها فيها ،وماتت ملاكها الصغير ،وضمت حفيديها بقوة لصدرها لتعوضهما حنان الأم الذي فقداه، فبوجودهم بجانبها سيعوضاها سنينها التي حرمت منها بعد الزواج ..ولكن بعد عدة أيام من وفاة ملاك، جاء صهرها المتعالي وأخذ توأميه عنوة من جدتهما التي كانت تتمسك بأطراف ثوبه تدعوه ليتركهما لها ولكنه رمى بها بعيدا، وأمرها بعدم التعرض لهما مم زاد في حزنها وألمها…
كانت الجدة المثابرة تذهب لمدرسة حفيديها كل يوم وتجلس معهما متهربة من ابيهما الذي كان يهددها دوما ..فكانت ترتشف الحب من حديثهم المتواصل عن كل مايحيط بهم وما يضيق بصدرهم ، فكانت تهون عليهم الامور وتسهل الحياة الصعبة لحياة جميلة سهلة….ولكن الفرح لم يطول بهم ..
فلقد علم زوج ابنتها بلقائها الدائم باحفادها، فجن جنونه وتحلف وتوعدها بان يحرمهم من الذهاب للمدرسة إن حاولت رؤيتهم من جديد …
وها هي الآن على فراش الموت تتمنى رؤيتهم ولو لحظات، ولكن القلب القاسي لم يأبه بالانصات لذلك الرجل الضعيف الذي كان يترجاه لتستطيع ان ترتاح روحها المشتاقة لرؤية حفيديها ..فلم يشعر الجد إلا بيد صغيرة تمسك بيديه بقوة فإذا بهما حفيديه ويقولا له : خذنا يا جد … اشتقنا إليها…
فرضخ كمال لرغبة التؤمين، ووافق على ذهابهما لتوديع جدتهما
وكم كانت ابتسامتها كبيرة وهي تتلقاهم بحضن المشتاق وهي تردد الآن أستطيع أن أصف وجوهكم الحلوة لملاكي ،الآن طابت نفسي .
ونظرت لزوجها نظرة شكر وحب وفاضت روحها وابتسامتها لم تفارقها ..
إلهام السيابية
#عاشق_عمان