رحل فصل الخريف بدفئه وهدوئه، بعد أخذ دورته، ورزمانة مناوبته بين الفصول، رحل ليفسح المجال لفصل آخر بإستلام المناوبة التالية، إنسحب من مكانه و زمانه، يدخل فصل الشتاء، حاملا معه البرد والثلج والمطر، يدفع الناس إلى ساحة الأسواق، لشراء معاطفهم، واختيار أردية لأجسامهم، وما ثقل من أغطية للنوم تقيهم برد الشتاء، وصقيع الثلج والمطر، يتدافعون إلى بقالات الطعام، ينتقون ما طاب لهم من الطعام والشراب، وبما يحمله من دفئ وهدوء وسكينة.
مع بداية هذا الطقس الشتوي البارد، يطل الشيخ الهرم محمود من باب خيمته المتهالكة الواقعة على طريق المارة ، يلتقط حركة الناس، حاملين معهم مؤن الشتاء، وأكوام من دروع الملابس، تؤمن لهم حماية من صقيع البرد وقسوته، وبجانبه زوجته التي تتقارب معه في العمر، تشاركه شظف الحياة وبؤسها.
السنين أخذت منهم صحتهم واعتلت قامتهم، وأثنت ظهورهم، استقطعت أجزاء من أبصارهم واسماعهم وصحة أجسامهم، لا يدخرون من الطعام إلا بما تجود به أيادي الكرام، ولا يجدون من الثياب إلا ما هو باق على الأجساد، المياه لديهم شحيحة، والغسل به قد يؤدي بهم إلى النفاد والهلاك، لا يوجد من يقوم على رعايتهم، والإهتمام بمطالبهم، شاءت قدرة الله بعدم إنجابهم للذرية، لتتكفل بهم او الإهتمام بعنايتهم.
كان الشيخ محمود وزوجته تحت رعاية أخيه إسماعيل، الذي كان ميسور الحال، بما يملكه من تعامل في التجارة، وسوق العقار، والتعامل في سوق أوراق السندات، فتح الله له أبواب الرزق الحلال والخير الوفير، فلم ينسى فضل الله عليه بمساعدة أهله وأقربائه ومن في الحي من الفقراء و المحتاجين، فالكل يدعوا له بأن يبسط الله في رزقه ويحفظه في أهله وولده، ولكن شائت الأقدار بأن يودع التاجر إسماعيل الدنيا دون مقدمات، إثر نوبة قلبية اختطفت منه روحه وحياته، حزن عليه الكل الصغير والكبير، القريب والبعيد، نظرا لورعه ووقوفه مع الناس في السراء والضراء، بعد أيام من وفاته، تقاسم الورثة ما تركه من مال وعقار، وافتقد المحتاج من الناس الرعاية التي كانت تصلهم من المرحوم إسماعيل ليعيشوا الفقر والألم والفاقة، ومنهم الشيخ العجوز محمود، زمجر الشتاء بشدته وقوته، برعوده وبروقه، برياحه العاتية وأمطاره الشديدة القاسية، لم يقوى الشيخ محمود وزوجته على تحمل برد الشتاء، وجسمهما الناحل الضعيف يرتجف من شدة الصقيع، وقلة الطعام التي لا تكفى لتقويم الجسم، كل منهم يحاول ان يدفئ الآخر، يصاب الزوج بنوبة من البرد مصحوبة بالحمى والصداع، تعذر الحصول على الدواء ومراجعة الأطباء، لم يتوفر المال للعلاج وضعف الحال لعمل المراد، فلم يمهله مرضه طويلا، فيلقي مصيره في كوخه الصغير وخيمته التي ضمته مع زوجته لسنين، لم تطق زوجته الحياة بدونه، هو مؤنسها في مشوار الحياة، لم ترزق بالاولاد ولا البنات، بقيت معه مكافحة شظف الحياة وقساوة العيش فيها، صابرة محتسبة أجرها من الله، ولكن فراق زوجها كانت النهاية التي أوقفت قلبها وجمدت سيلان دمها وكتمت على أنفاسها لتسدل الستار على مشوارها في الحياة.
( الصورة) :-
لوحة الرسام الفرنسي فرنسوا شيفلار(1825 – 1901) الضمير (بعد فيكتور هوجو)
حمد الرمضاني
أبو سلطان
#عاشق_عمان