صاحب رأيٍ سديد وموقفٍ ثابت، وازن الواقع بصلابة بين علم الفقيه والإصلاح الرسالي، ناصر المظلومين ومحارب الظلّام، فكان من الرجال القلائل الذي حملت سيرتهم ومواقفهم بسالة لا نظير لها وتطلع كثيرون لأن يكونوا من حملة هذه المواقف، إنه عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاة، الإمام والفقيه والعالِم، مُقاوم الظلم والطغيان، الذي كانت تخشاه السلاطين والملوك.
قبل الغوص في منهج الإمام العز بن عبد السلام، لا بد من معرفة أن عصره كان يشهد اضطراباً سياسياً، هذا الاضطراب يمكن اعتباره باكورة الإبداع لدى هذه الشخصية النادرة المثيل، فقد عاصر العز بن عبد السلام الدولة الدولة الأيوبية والدولة المملوكية في مصر وبلاد الشام، فلقد تمثلت تلك الحقبة التي عاش فيها بأصعب ما مرت به الأمة، فالصليبيون من الغرب والتتار من الشرق، وأما الداخل فكان في حالة انقسام كبيرة، لكن رغم ذلك لم تنطفئ شعلة العلم والانفتاح والحفاظ على الحضارة الإسلامية من معركة حطين إلى عين جالوت، معارك كان من نتائجها وقف الغزو الهمجي والبربري على الأمة. من هنا، عاش العز في الربع الأخير من القرن السادس الهجري إلى ما بعد منتصف القرن السابع الهجري بقليل، (577 هـ – 660 هـ)، بالتالي كان القرن الخامس الهجري، قرناً مفصلياً في حياة الأمة الإسلامية ألا وهو بداية الحروب الصليبية التي دامت قرنين من الزمن على أيدي ملوك أوروبا، ومن أهم نتائجها سقوط بيت المقدس العام (492 هـ)، بالتالي، اقترن نشاط الأمة العلمي والفكري في كل قرن باستقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في المجتمع الإسلامي، ولما كان القرنين السادس والسابع الهجري من أشد القرون وطأة على الأمة نتيجة هجمات التتار والصلبيين كما أشرنا أعلاه، كان من الطبيعي أن يضعف النشاط العلمي على الأقل بصورة جزئية رغم أنه لم يتوقف رغم كل تلك الحروب، هذا الأمر أدى إلى ضعف الهمم وجمود الاجتهاد واستياد التقليد والسكون والفساد في طبقات المجتمع، فكان من نتيجة ذلك أن أثّر على مسيرة العلم والعلماء الذين آثر الكثير منهم اعتزال المجتمع والانقطاع إلى العلم والعبادة بعيداً عن السياسة وفوضى المجتمع، لكن رغم ذلك كان هناك فريقاً آخر وقف في وجه الانحراف وسعى إلى تقويم السلوك وإصلاح المجتمع ويتصدى لتصرفات الحكام والسلاطين كما فعل العز بن عبد السلام وغيره.
وشهد القرن السابع الهجري أعظم النكبات العلمية التي أصابت الأمة وتراثها نتيجة للفتن الداخلية والأطماع والغزوات الخارجية وذلك خلال سقوط الدولة العباسية ودخول الفرنجة إلى المقدس ودمشق ونتيجة لذلك قتل الكثير من العلماء وأحرقت المصنفات والكتب العلمية والمكتبات وحدثت هجرة للكثير من العلماء حفاظاً على أرواحهم حيث استطاعوا من خلال البلاد التي لجؤوا إليها استعادة نشاطهم العلمي والبحث وهذا ما حدث في واقعنا المعاصر من خلال الحروب التي تشهدها منطقتنا وهجرة أغلب الأدمغة التي من جهة لا تُعطى قيمتها في بلادنا، ومن جهة أخرى هرباً من القتل والحروب والفقر، بالتالي، وهذا كان حال العز بن عبد السلام أو سلطان العلماء والقاضي وذكر ابن السبكي: (وهو الذي لقب الشيخ عز الدين سلطان العلماء).
من هنا، لقد جدد العز ما كان عليه الصحابة والتابعين من إنكار المنكر وإن كان الأمير يفعله دون أن يجامل أو يُحابي أحد، فكان ينكر على علية القوم من أرباب المناصب والسلاطين وغيرهم علانية لجل الفائدة للمجتمع من خلال الالتزام بالحق ودحض الباطل، فلم يكن يخشى لومة لائمٍ، رغم مركزه وما حققه كانت السلاطين هي من تحسب له حساب وليس العكس، لم يكن يوماً من وعّاظ السلطة أو كهنوتها، لم يكن يعيش على نفقة السلطان ليعمل بإمرته ضد أبناء أمته، كان الحق والعلم أهم الأسلحة التي واجه بها كل أنواع الظلم، على عكس رجالات الدين في عصرنا، فهم يكفرون كل من يخرج عن طاعة السلطان، ويجيزون قتل كل من يرفض أمراً للسلطان، ويحللون ما يحب السلطان ويحرمون ما يكره، مع الأسف هي الحقيقة المجردة والتي نأسف لذكرها ولا يوجد وجه للمقارنة بين رجال الدين وأئمة الأمس باليوم، الأمة اليوم تعيش أسوأ من أعتى الحملات الصليبية والتتار، تعيش أزمة نفاق ودجل وبُعد عن الإيمان والدين الحقيقي.
هذه المقدمات التي كان لا بد منها لمعرفة ظروف الإمام العز، ليخرج بأعظم ما إرث تركه لنا، سنوات عمل وعلم رغم كل فترة الاضطرابات لكنها لم تمنعه من تحقيق غايته ولو لم تكن منذ الصغر، فالإمام العز بن عبد السلام يعد من كبار علماء وأبرز أعلام القرن السابع للهجرة، حيث برع في علوم كثيرة وفي مقدمتها علوم القرآن بكل أشكالها، كالتفاسير وعلم القراءات وأسباب النزول والإعجاز وتأويل مشكل القرآن ومفرداته، والمحكم والمتشابه وناسخ القرآن ومنسوخه، وأحكام القرآن وفضائله وإعرابه وغيرها، فقد ساهم مساهمة فعالة في كل تلك العلوم وبرزت فيها شخصيته العلمية في حياته ودورسه، كما كان علماً في علم العقيدة أيضاً وعلم التوحيد وعلوم الفقه وأصوله والفتاوى وعلوم الحديث والسيرة النبوية والأخبار والزهد والتصوف والتربية والأخلاق، كل هذه العلوم لك يكن ليتلقاها لولا أساتذته من الشيوخ الكبار في دمشق وبغداد والقاهرة، مثل فخر الدين بن عساكر الفقيه الدمشقي وهو شقيق علي بن عساكر صاحب كتاب “تاريخ دمشق” حيث أخذ عنه العز الفقه والحديث، كذلك، الإمام والفقيه جمال الدين ابن الحرستاني قاضي دمشق ومن ذرية سعد بن عبادة، سمع عنه الحديث وأخذ عنه الفقه، وسيف الدين الآمدي من بغداد حيث تعلم منه أصول الفقه، والقاسم بن عساكر، ابن مؤرخ دمشق الكبير أبو القاسم عساكر، أخذ منه الحديث، وغيرهم الكثير.
أما تلامذة الإمام العز بن عبد السلام، تلاميذه كثر في دمشق والقاهرة، وكان أبرز تلامذته، ابنه عبداللطيف بن عبد العزيز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد القاضي والفقيه المصري، وتاج الدين بن بنت الأعز وأبو شامة وغيرهم.
بعد أن اكتملت شخصية الإمام العز الثقافية وتلقيه العلم بمختلف صنوفه على يد مشايخ كثر، بدأ يتبوأ المناصب والوظائف الرسمية المهمة التي أسندت إليه من قبل حكام الدولة الأيوبية في دمشق، والدولة المملوكية في القاهرة، فتنوعت مناصبه بين الإفتاء والتدريس والخطابة والقضاء وقاضي القضاة، وبما يتعلق بالإفتاء فقد مارس هذا الأمر بداعي تبليغ الدين وأداء الأمانة التي كلف الله تبارك وتعالى بها العلماء أن يحملوها، ولم يكن العز يوماً من محبي الشهرة والظهور، ونظراً لتبحره في سائر العلوم كان أهلاً للفتوى لدقة وصواب رأيه، فقد تجاوزت شهرته بلاد الشام، وأرسلت إليه الفتاوى من كافة البلاد كما سأله أهل الموصل وأجابهم وأصدر كتابه “الفتاوى الموصلية”، وقال فيه ابن كثير: (وقصد بالفتاوى من الآفاق)، وكما الفتاوى كان بارعاً في التدريس، خاصة الفقه وأصوله، وأكدت معظم كتب التراجم أن طلابه قصدوه من بلاد كثيرة، كما مارس العز الخطابة والتي هي من أساليب الدعوة والتوجيه فضلاً عن أنها إحدى فنون الأدب، حيث تولاها في المسجد الأموي في دمشق، أما القضاء الذي يعد أجلّ العلوم قدراً وأعزها مكانة، تولى العز قضاء دمشق ثم عيّن للرسالة إلى الخلافة المعظمة ببغداد.
برع العز بن عبد السلام بمؤلفاته الكثيرة نتيجة تبحره في سائر العلوم، وخاصة علوم الشريعة واللغة العربية فكان ملكاً تربع على عرش البيان العربي والأدب الرفيع، مجيداً لعلوم الدين حفظاً وفهماً ودرايةً واستنباطاً الأمر الذي أهّله لأن يكون مفتياً في زمانه، إذ لا يملك مصنفاً إلى كان مكتمل النصاب، ما أفاد الناس في زمانه والأزمنة التي تلت ذلك، في الشام والعراق ومصر ومختلف بلاد العالم الإسلامي، فكان له في التفسير: (مختصر تفسير “النكت والعيون للماوردي”، تفسير القرآن العظيم، الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، أمالي عز الدين بن عبد السلام)، وفي الحديث والسيرة والأخبار: (شرح حديث “لا ضرر ولا ضرار”، شرح حديث “أم زرع”، مختصر صحيح مسلم، بداية السول في تفضيل الرسول، قصة وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام)، وأما مؤلفاته في الإيمان والعقيدة والتوحيد: (رسالة في علم التوحيد، الملحة في الاعتقاد، الفرق بين الإسلام والإيمان، وصية الشيخ عز الدين، وغير ذلك)، وفي الفقه والفتاوى: (الغاية في اختصار النهاية، الجمع بين الحاوي والنهاية، أحكام الجهاد وفضله، مقاصد الصلاة، مقاصد الصوم، مناسك الحج، الفتاوى المصرية وغير ذلك)، وفي أصول الفقه: (قواعد الأحكام في مصالح الأنام، القواعد الصغرى، الإمام في بيان أدلة الأحكام، وغير ذلك)، وفي الزهد والتصوف والتربية والأخلاق: (شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، مختصر رعاية المحاسبي، مسائل الطريقة في علم الحقيقة، رسالة في القطب والأبدال الأربعين وغير ذلك).
اشتهر سلطان العلماء بأنه كان أحد أشهر وأبرز علماء التفسير في عصره وذلك من خلال تعلقه بالقرآن الكريم حفظاً وفهماً وتدريساً وتصنيفاً، وتجلت عبقريته في مجالي التفسير والإعجاز البياني بشكل خاص، والذي أردنا له بعض المقالات لتبيان الجانب البلاغي الجميل في القرآن الكريم، العز ألف كتاب أسماه “الإشارة إلى الإيجاز” أو “مجاز القرآن”، إذ يُعتبر هذا الكتاب من أهم مؤلفات العز، فلقد اعتبر السبكي أن هذا الكتاب وكذلك كتاب “قواعد الأحكام”: (شاهدان على إمامة العز وعظيم منزلته في علوم الشريعة)، ففي كتابه “مجاز القرآن وضع العز مجموعة قواعد أساسية في التفسير يمكن استنباطها من خلال تحليل كلامه بدءاً من المعرفة بعلوم اللغة العربية وإعرابها، من خلال الربط بين اللغة والقرآن كما في تفسيره لآية (خصمان بغى بعضنا على بعض)، أيضاً اعتماده على المصادر الأصيلة والقديمة، من خلال ما جاء به السلف الصالح من أمثال الحسن البصري وابن عباس ومجاهد وقتادة، أيضاً تفضيله التفسير بالمأثور سواء كان قرآناً أو سنة، كقوله في تفسير الآية (والله يقبض ويبسط)، حيث قال: فإنه تجوز بالقبض عن الإعدام لأن المقبوض من مكان يخلو منه محله، كما يخلو المحل من الشيء إذا عدم، كما أكثر العز الاستشهاد بأشعار العرب تعضيداً لمعنى أو تبياناً وتوثيقاً لما ذكر، أيضاً ركز على فهم معاني الألفاظ وما يتعلق بها وبرأيه ان الفهم هو أحد أركان التفسير الأساسية، أيضاً عدم استطراده في بيان أسباب النزول كغيره من المفسرين بل اكتفى بالإيجاز في هذه النقطة.
كذلك، كان العز يرجح حسب قواعد اللغة العربية في تفسيره وكذلك الترجيح في عدد المعاني وتحديد معنى الألفاظ القرآنية، وتوضيحه للمعاني وتفسيره لها وذلك للدلالة على الإعجاز، من خلال جمالية البيان ودقة اختيار الألفاظ ليضفي على المعنى أجمل وصف بإيجاز مختصر جداً، كذلك ارتباط الكلام وإظهار محاسنه، أما فيما يتعلق من تفسير القرآن بالرأي، فقد حذر العز من القول بالرأي في كتاب الله تعالى، كونها مسألة خطيرة.
لم يتوقف عطاء العز بن عبد السلام على الناحية الشرعية فقط، بل كان له فهمه المفيد جداً من الناحية الاقتصادية كذلك الأمر، حيث قدم العديد من الأفكار الاقتصادية التي تتعلق بالإنتاج، كما ترك بصمة واضحة تتعلق في تأصيل كثير من الموضوعات في المذهب الاقتصادي الإسلامي، حيث حدد مفهوم الإنتاج في تحصيل المصلحة ولكن ضمن المضامين الأخلاقية والاجتماعية المؤثرة فيه فتناول أثر معيار الإحسان ومعيار المصلحة العامة والمآلات على النشاط الإنتاجي، فالنشاط الإنتاجي في المضمون الإسلامي يتوصل به إلى غايات عليا فلا يجوز إنتاج المحرمات وكل ما يضر بالآخرين أو البيئة، فما حرّم استهلاكه، حرّم إنتاجه، هذا يعود بنا إلى كتاب اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر ومقال سابق كنت قد كتبته بعنوان “اقتصادنا ورأس المال” كمقارنة بسيطة بين المنظور الإسلامي والغربي، فلقد كان في كتاب اقتصادنا مضامين إنسانية وأخلاقية، ظهرت إليها الحاجة ملحة، وأكد السيد الصدر على التأمين الإسلامي، وما جاء على ذكره العز بن عبد السلام كان بين القرن السادس والسابع الهجري أي قبل السيد الصدر بقرون، ما يعني أن علماء الأمة الإسلامية أعطوا الجانب الاقتصادي الإسلامي اهتماماً بالغاً كما التفسير والحديث والفقه وغير ذلك.
من هنا وكما أشرنا آنفاً، ترك العز بن عبد السلام تراثاً ضخماً في علوم التفسير والقرآن والحديث، والعقيدة وأصول الفقه والزهد والتصوف، فقال عنه السيوطي: (كان شيخاً للإسلام عالماً ورعاً زاهداً آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر)، في حين قال عنه الإمام النووي: (العز بن عبد السلام الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته).
استمر العز بعلمه وهيبته وحب الناس له، العز بن عبد السلام، سلطان العلماء، القائم بالمعروف الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ويعرف في سجل العارفين بالعالم الورع المتواضع صاحب المواعظ التي لانت لها قلوب المتجبرين والمتعالين، الظروف التي عاشها ومقاومته لها نصبته سلطاناً للعلماء في نظر العامة، غير أنها جلبت عليه سخط وكُره الملوك الذين لا يفضلون سوى الشيوخ والعلماء المستأنسين أو ما يمكن تسميتهم (وعّاظ السلطة – كهنوت السلطة)، إن سيرة هذا الإمام الجليل، إلى جانب العلوم التي أبحر بها والتي هي مقصد كل طالب علم، لكنها سيرة موقف وشهامة ورجولة، وضمير حي، تحديات ومواجهات، لا خوف ولا رياء، الأمة اليوم تحتاج إلى أمثاله لجعل الحق وسيادته هو الأول، لا عجب أن حين وافت المنية العز، أمر السلطان الظاهر بيبرس الأمراء بأن يحملوا نعش الإمام، واشترك معهم في حمله، وحين استقر جثمان الشيخ تحت سفح المقطم، تنفس السلطان الظاهر بيبرس الصعداء وقال: “الآن استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو قال للناس: اخرجوا عليه لانتزعوا الملك مني”، فهل من سلطان يخشى من شعبه اليوم؟ لا يوجد، العز بن عبد السلام حي بيننا، لكن الفرق أن الخوف ما زال حاكماً، وجل ما أتمناه اليوم، أن تُعمم مراجع ودراسات العز بن عبد السلام لما تحمل من قوة وضمير حي، أن يكون مثالنا الأعلى، أن ننهض بامتنا المنهارة الضعيفة لأن الأمة الإسلامية ما كانت إلا أمة الأمم، قوية بعلمها وعلمائها، برجالها وخيراتها، آن الأوان للنهوض، هذا واجب على كل مسلم ومسلمة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان