لستُ هنا لأعدد مناقب سيد عمان الراحل، فقد بلغ حبه شغاف القلوب الإنسانية في عمان وخارجها، فكتب محبوه ولا يزالون الكثير، وعبروا تعابير ملحمية رائعة عما تكن له من حب صدورهم، فالأعين تدمع، والقلوب تتفطر، ولكنَّ الإيمانَ هذبها جميعًا، فباتت دموعهم وقلوبهم تدعو لتلك الروح الزاكية بكل إخلاص وثقة..
إنما حملتُ قلمي هنا لأخاطب عمان الحبيبة، عمان الوطن والأمل، وأعيشَ معها مستلهما من نشيدها السلطاني الفرحة والبشرى، ليس فقط بالسلطان قابوس الذي أثبتَ حتى في جنازته وما تعلق به عِظَمَ الحكمة التي تحلى بها، وعِظَمَ التواضع الذي التحف به عندما يتعلق الأمر بشخصه، ولا بالسلطان الجديد الذي وقف متحاملًا على نفسه، وقد كُلِّفَ بعظيم، ليُطَمْئِنَ شعبَه، بين فقد سلطانه، والخوفِ من مستقبله، ولا بذلكم الكمِّ من الإخلاص والوفاء والمسؤولية والوحدة ورباطة الجأش الذي تمثل بها أبناء عمان عسكريين ومدنيين، ولكن بالبشرى لعمان بهؤلاء جميعًا..
عمانُ أيتها الأمُّ الوادعة أبشري السلطان جاءْ…. بما عشتِ فيه خلال خمسين عاما من حضارة إنسانية رائدة، والتي تندرج تحتها كل معاني الحضارات الأخرى، فكان الإنسانُ هو محورَ تلكم النهضة ومرادَها، لقد قام صاحبُ الجلالةِ والحبِ والإخلاص وصاحبُ القلبِ الأبيض جلالة السلطانُ قابوس بتثبيت معالمها، حتى أحْيَيْتِ به مواتا، ومنعتِ به حروبا، فكان نِعْمَ الابنُ البارُّ لكِ، استبشرتِ به خيرا، ووعدَكِ وشعبَك تكريسَ حياته لكم جميعًا، فَوفَّى ما وعد، والعالم يشهد، حتى حُقِنَتْ في عصره الدماء، ليس محليًا فحسب بل إقليميا ودوليا، وأَحْيَى بذلك الأنفسَ، لتتحقق له بشرى ” ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”، وخلتِ السجون من السياسة، واتسعت دائرة الحرية ما لم تتسع من قبل، لمرافق الدولة وخدماتها، وحتى للمراسيم والسياسة العامة، نَقْدَ الصادقين المخلصين لكِ، فلم ينلهم من سوء، وانتشرت في ربوع عمان معالمُ النهضة، دون أن يكون لسهلٍ فضلٌ على جبل، ولا لحَضَرٍ تقديمٌ على بدو، ولا لكثيرٍ ميزةٌ على قليل، فالمدرسة هي هي مع الجميع، والمركز الصحي هو هو مع الجميع، والجامع هو هو مع الجميع، والشارع شق الجبال والصحاري يحمل الجميع، فبتلك الحضارة الجبارة أبشري، وبذلكم السلطان الحليم الكريم أبشري، فقد أوفى لك وأوفى لشعبه، وعندما وافاه اليقين، وهو في عبادة عمل، وعبادة شكر، متمثلًا توجيه ربه ” واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”، رغم مرضه وشدة وطأته على جسده ونحوله، وعلمه بدنو أجله إلا أنه كان يقف شامخًا بروح سامقة عزيزة، حتى لم يكن شهرٌ من آخر استقبال رسمي له وظهور، وأسبوعٌ من آخر رسالة شكر وجهها لشعبه على ما أبدوه من حب وقلق عليه، لقد اشتغل بعمان وشعبها حتى آخر عمره، دون تكلف ولا تزلف، وعندما قضى، أبى إلا أن يستعجل مواراته تأسيا بالسنة والفطرة، فلم يتعدَ مذ أسلمتْ روحُه لبارئها إلى مواراته ساعات معدودة، واعتمد شعبَّه مشيعا ومودعًا كفاية له، واكتفى بهم وبعمان، وعذرَ غيرَهم من ملوك ودول، في جنازة مهيبة لم تتشح إلا بذكر ربه، والصلاة عليه في جامعه الأكبر، وبعلم وطنه يحيطه، وبالسيارة التي أتى عليها أول حكمه قبل خمسين عاما تنقل جثمانه الطاهر المسجى فوق مدفع عزيز إلى مثواه الدنيوي الأخير، في رسالة فلسفية وإنسانية ضمنية عالية المعنى والأثر، وبمنزل أخير في مقبرة عائلته يشبه قبور عموم الناس، لا يعلو فوق الأرض إلا قليلا، ولم يُضرب عليه مسجدٌ ولا مقام عظيم، فارتفع بذلك عن ما ارتضاه ملوكُ اليوم وقادته العسكريون من بروتوكولات ومراسم خاصة، لتتأكد وصيته لعمان وشعبها ورسالته، أنكم أنتم ببعضكم لا بغيركم، بداخلكم لا بخارج غيركم، والتي تجلت هنا، كما تجلت يوم ضربت الأنواء المناخية عمان (جونو) بثقته بأهله، واعتذاره عن سواعد الآخرين ومشاركتهم فيكِ، وفي ما يعنيكِ أيتها الأم الطاهرة.
عمان أبشري السلطان جاءْ… فبمواطن الجد تظهر معادنُ الشعوب، لقد أثبت بنوك جميعا أنك في أعينهم، وأن باني النهضة السلطان المعظم قابوس مَلَكَ نياطَ قلوبهم، ألم تَرَيْ كيف إن مجلس العائلة المالكة – على رغم ألمهم الذي أبدته وجوههم الحزينة- كان على قَدْرٍ من المسؤولية والحب لكِ وللسلطان عظيم، لقد بيتوا العزم، وارتضوا من يشير إليه جلالة السلطان قابوس في رسالته إليهم وفاء له، بل ذهبوا أبعد من ذلك فطلبوا من مجلس الدفاع فتح الرسالة صباحا قبل الدفن، وتنصيب السلطان الجديد الذي وصى به في رسالته، ليقطعوا بذلك دابر كل عدو، ويلجموا الباطل بالحق، وحتى يقوم بتوديع السلطان قابوس الشعب كله، وعلى رأسهم سلطانهم الجديد بصفته الجديدة، يحمله على كتفه، تقديرا له ولكِ ولنا جميعا، إنها الحكمة التي يظهر أنها لم تغادر العائلة بمغادرة سيدها وسيد عمان، بل هي متأصلة في العائلة وفي جميع العمانيين… ذرية بعضها من بعض..
أبشري السلطان جاءْ.. بمجلس الدفاع والأخوة العسكريين القائمين على عموم الأمن لكِ، فقد كانوا على قدر التربية والتهيئة التي رباهم عليها أبو النهضة السلطان قابوس طيب الله ثراه، فَنِعْمَ ما ظهروا به في الساعات الأولى من رحيل سلطانهم الحبيب، ولَمَّا يوارَ الثرى بعد، ونِعْمَ رباطةُ جأشٍ اتشحوا بها… وفي عيونهم أمنُك وأمنُ شعبك، فرغم أن قلوبهم تعتصر ألمًا، وتتفطر دماً وهم مُقَرَّبُو السلطان قابوس، وصُحْبتُه بطابع العمل والمهام، إلا أن حبَّكِ كان الأعظمَ، وأمنَك كان الأولوية، وَلْيأخروا هم تفاعلاتِهم الإنسانيةَ؛ دموعَهم، بكاءَهم نحيبهم، ولْيُزَوُّوها حتى يطمئنوا عليك أولا، ثمَّ لْيُعانوها وحيدين بعد اطمئنانهم عليك وعلى شعبهم… أبشري السلطان جاءْ.. بهم وبمنهج قابوس الحب والسلام، عندما تكونين وشعبُه أولًا، ويكونُ هو وصحتُه وتعبُه ثانيا..
أبشري السلطان جاءْ.. بإعلامك الواعي الراكس، الذي أسس له باني عمان، فصَاحبَ الجنازةَ منذ انطلاقها من بيت البركة إلى مواراتها الثرى، بجميع تفاصيلها، بالمذيعين من مدنيين وعسكريين، وهم يبثون روح التفاؤل، وروح الرضى والرحمة على سلطانهم الغالي في قلوب الجميع، يتبادلون ناقل الصوت بينهم، ليتمكن بعضهم من مواساة بعض، وحتى لا تنهمرَ أعينُهم دموعا، لو زادوا عن حد ما نطقوا، صبرا وإخلاصا.
أبشري السلطان جاءْ.. بعظيم المنِّ وكريمه، برحمة المولى سبحانه بك أيتها الغالية عمان أن سلطانك الجديد هو اختيار سلطانك وباني نهضتك قابوس رحمه الله، والذي اتفقت القلوب والعقول على حبه، فهو قد نال ثقته السامية في حياته، وأوصى به لخلافته، إن في ذلك راحةً لنا جميعا، فهو امتداد للنهضة إذن، واستكمال لها، واتضح ذلك من رسالة سلطاننا المعظم قابوس لمجلس العائلة، واختياره للسلطان الجديد لما توسم فيه من قدرة ومقومات تؤهله لذلك، وتأكد ذلك بالخطاب السامي لسلطاننا الجديد يوم قسمه وتنصيبه، ووعده أن يكون على ذات النهج القابوسي خارجيًا وداخليًا، فالسلم مطلب واجب، وعدم الولوج في اصطفافات وتحزبات دولية، لا تعمل على السلم ولا تدعو له مبدأ متأصل، والنأي بعمان عن التدخل في شؤون الآخرين وفتنهم، والحفاظ على مسافات متساوية من الجميع، ورفض تدخل الآخرين بالشأن الداخلي العماني، والاهتمام بالإنسان في عمان، وصب الجهود في بلوغه أعلى الرتب والمكانة العالمية، بنبله وأخلاقه، وبتقدمه العلمي والعملي، واكتفائه الاقتصادي، وعفته وكرامته، جميعها على مبادئ راسخة قوية، وعزيمة عالية، وشعب جلالة السلطان الجديد في كل ذلك معه، لا يفترقون عنه، يسندونه ويدعمونه، وهو لن يخذلهم أبدا ولن يخذلوه، كيف يفعلون وهو منتقى سلطانهم الحبيب وباني نهضتهم، وكيف يفعل وقد نال ثقة السلطان الراحل والحب الأكبر لعمان قابوس، فذلك يكفيهم جميعا أن يكونوا -سلطانًا وشعبا- يدا ولُحمة واحدة، وفاء للسلطان قابوس تقبله الله، ولنهضته التي بناها، وتحقيقا لحلمه في وطنه وشعبه بالأمن والأمان والرقي والازدهار جيلا بعد جيل.
أبشري السلطان جاءْ.. بما تَفَرَّدْتِ به بين الأمم من مثالٍ في كل مناحيكِ خلال الخمسين عاما الماضية.. درةً كنتِ وما زلت.. عزيزةً كريمةً، تضربين للناس المثلَ بسلطانك رحمه الله، وبنضج العمانيين وسكينتهم وثقتهم وعزتهم.. لقد أثبتِّ ذلك في أشد الظروف من قبلُ.. وها أنتِ اليوم تثبتين أنك متفردةٌ بكل معنى التفرد الإيجابي، وتعطين للتاريخ مثلا في انتقال الحكم بكل سلاسة وحب.. بعيدًا كلَّ البعد عن ادعاءاتِ المنقطعةِ أخلاقُهم.. الكاذبةِ نبوءاتُهم… الحاقدةِ قلوبُهم.. المنبتةِ ديارُهم.. المسمومةِ أفكارُهم… المتعلفون من الخارج علف الدسائس والفتن.. تكذبينهم بالفعل، وتترفعين عن مجاراتهم بقذاء القول.. ومنكر التعبير
أبشري السلطان جاءْ .. بالمولى عز وجل يتقبل سلطانكِ بما أفنى لكِ ولشعبكِ من عمر… بالملائكة تتلقاه ” بشراكم اليوم”.. بصحبة ” النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”.. بالدموع التي تبكيه وهي لا تعرفه، ولكن تعيش كرمه، وتلهج ألسنهم بالدعاء له، بالإنسانية والإنسان يبكيان عليه، متجاوزين العرق واللغة والجغرافيا والدين، بكل ما قدم من جميل، وحقن من دماء، وعفى عن زلل، ومشى من ليل متلمسا نهضته وشعبه.. يقطع الفيافي والقفار، والوديان والأنهار، يقابل فيها الصغير والكبير، الرجل والمرأة، متئسيا بالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، في عموم تعامله مع الناس، وعفوه عنهم، وتجاوزه عن السوء، بما لم يفتأ يُذَكِّرُ به ويذكره، من آيات الله العزيز وكتابه، من الصلاة على نبيه في كل خطاباته، من الحث على التمسك بالدين والقيم والأصالة، دون إهمال الحاضر والمعاصرة…
أبشري السلطان جاء…. بكل ذلك ولن يخيب الله من أحسن عملًا فيما أحسن.. وخيره لا ينقطع بانقطاعه.. على المستوى الإنساني، تجمعًا صغيرًا بحجم أب وأسرة، أو كبيرا بحجم سلطان وشعب، فكما لم ينقطع صلاح الأب بموته عن ولديه اليتيمين.. فأرسل لهما نبيًا ( موسى) وعالمًا ربانيًا ليقيما جدارا بناه لهما أبوهما، وكنزا أخفاه لهما حتى يكبرا.. فهو بفضله ومنه ورحمته سيرعانا بعنايته، وسيكون لإخلاص السلطان قابوس وتواضعه أثر ممتد بعد حياته على وطنه الذي أخلص له بأناسه ومنجزاته… يثبته الله بلطفه، ويوثقه العمانيون بحكمتهم وعدالتهم، واعتزازهم بدينهم وقيمهم وثقافتهم، ويحميه سلطانهم الجديد المبارك بما توسم فيه سلطانهم المرحوم الراحل من خير، وعلم فيه من حكمة وحلم وأناة وحزم.
أخيرا أضع هنا السلام السلطاني كما يردده قلبي اليوم في نسخته التي استخلصتها لنفسي، يضج بالبشرى سرمدا، لا يتأثر برحيل إنسان ولا بولادته سلطانًا وشعبًا ، بل هو خالد خلودَكِ في قلبي، وهو دعاء كريم لك ولسلطانكِ الراحل وسلطانك الجديد ولشعبك على الدوام..
يا ربنا احفظ لنا جلالة السلطان
والشعب في الأوطان
بالعز والأمان
وليدم مؤيدًا عاهلا ممجدا بالنفوس يفتدى
يا عمان نحن من عهد النبي
أوفياء من كرام العربي
أبشري السلطان جاءْ
فلتباركه السما
واسعديه والتقيه بالدعاء..
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الأحد
١٦ جمادى الأولى ١٤٤١ هـ
١٢ يناير ٢٠٢٠ م
#عاشق_عمان