قصة قصيرة
زكام وسط الزحام
بقلم: أمير الورّاقين
الأربعاء 09/09/09م
(1)
أتعبني هذا الصغير الجالس في حجر أمه، حرارته مرتفعة إلا أنه لم يقتنع إطلاقا بإخراج لسانه، استخدمت صوتي ولساني ليقلدني إلا أن محاولاتي باءت - ككل مرة- بالفشل، فمه عصي حتى على هذه المسطرة الطبية، اقتربت منه أكثر محاولا فتح فكيه بيدي وإدخال المسطرة عنوة باليد الأخرى لأتبين إن كان يعاني من إلتهاب في اللوزتين ولكن ما أن استقرت فوق لسانه حتى اندفع القيء من جوفه ليستقر مباشرة بين يدي! رأيت بقايا أرزٍ وذرةٍ وشيء من عنبٍ قليل! حاولت أن ابلع تقززي إلا أن الرائحة أزكمت أنفي وكادت أن تقتلع ما في بطني أنا أيضا. نظفت يديّ بما لدي من محارم ومعقمات فيما كانت الأم ترتب لي صفوفا وصنوفا من عبارات الاعتذار، وصفت لطفلها العلاج المناسب وعاودت عملي أعاين طفلا بعد آخر إلى أن انقضى موعد نوبتي عند الواحدة ظهرا.

في المساء كانت لدي جولة أخرى لتفقد المرضى المرقدين في المستشفى، مر الوقت رتيبا في قسم الأطفال ما عدا بعض الصغار الذين أبو إلا أن تسهر أمهاتهم مع النجوم، كانت ليلة عادية جدا ككل ليالي المرضى إلا أن شيئا غير عادي أخذ يدب في جسدي، شعرت بأن كائناً غريباً بدأ يستعمر رئتيّ ويضيِّق عليّ أنفاسي، لازمتني هواجس تلك الليلة كثيرا غير أنه ما أن تنفس الصبح حتى تبددت وكأن شيئا لم يكن.

في مساء اليوم التالي كنت أستعد للتوجه إلى المستشفى كعادتي، غير أن هذا المساء كان له طعم آخر، فقد شعرت بتعب شديد لم أشعر به في حياتي، إذ من شدة التعب كانت الطريق طويلة ولا تقودني إلى المستشفى، كان التعب كجبل يجثم على صدري! وعلى غير عادتي لم أتوجه إلى البوابة الرئيسية للمستشفى بل توجهت إلى مدخل الطوارئ مباشرة، وهناك خلعت عني هالة الطبيب وتوشحت برداء المرض، أخذت رقما وانزويت في ركن قصي والمرضى يتقاطرون بأوجاعهم وآلامهم وكل يدعي أولوية حالته في تلقي العلاج، رأيت أطفالا عاينتهم سلفا إلا أنني كنت أعجز من أن أقوم بواجبي تجاههم في تلك اللحظة، اليوم لكم مرضكم ولي سقمي، دعوني أتذوق شيئا مما تتذوقونه يوميا أو مما كنت أذيقكم إياه دونما قصد، أخذت الممرضة تتفحصني، حرارة جسدي مرتفعة، وضغط دمي عالٍ، يا إلهي! ماذا حل بي؟!

سلمت الطبيب المداوي أمري، فأخذ عينة من دمي، وعينة مخاطية من أنفي، وهذه الأخيرة لا أنصحكم بتاتا بتجربتها، فذلك الأنبوب أقسى من أن تتحمله أنف بشرية! أخبرني زميلي الطبيب باحتمال تعرضي لعدوى (H1 N1)، وإلى حين ظهور نتيجة الفحص المخبري نصحني بالبقاء في المنزل وتجنب مخالطة الآخرين. نزل علي النبأ كالصاعقة، وأعلنت حالة الطوارئ في المنزل.

(2)
زوجتي التي كانت تدعوني إليها أخذت تمازحني مبتعدة عني رعبا وهلعا، أما ابني الصغير لكثرة ما سمع عن هذا الوباء فقد صار يحذرني من مغبة الاقتراب منه، واجزم يقينا بأنه لم يعد يراني بصورة الأب الحنون ولكن بصورة خنزير مزكوم! حينها فقط طفت ابتسامة فقاعية على شفتيّ وأنا استرجع صور جميع الخنازير المزكومة لكنها ما لبثت أن انفجرت فوق رأسي، قبعت ذاويا في غرفتي لا ألوي على شيء، كل شيء في الغرفة قيد التشغيل، الإضاءة، جهاز التكييف، التلفاز، الانترنت، إلا عقلي وجسدي كانا متوقفان عن العمل.

ازدحم هاتفي باتصالات ورسائل تستفسر عن وضعي الصحي وفيما إذا كنت فعلا مزكوما بزكام العصر، وكنت أرد على السائلين بالنفي قطعا وكل ما في الأمر هي وعكة صحية كالعادة، في تلك الأثناء كنت اتصل بزميلي الطبيب في اليوم أكثر من خمس مرات لمعرفة نتيجة الفحص، وفي مساء اليوم الثاني جاءني الطبيب متصلا ليؤكد لي إصابتي بهذا الوباء. تساقطت الدنيا حينها من حولي، ولم أكد أر شيئا أمامي سوى ريح صرصر عاتية تقذف بشمعة عمري الثلاثينية وسط عتمة تسخر من ضعفي، اتصلت بزوجتي وطلبت منها أن تحضر إلى غرفتي، أخبرتها بأنني مصاب بالعدوى ورجوتها بأن لا تدخل عليّ أحدا من أهلي إلى أن يكتب الله لي ما يشاء، ترقرقت في عينيها دمعتين محبوستين وهي ترى نصفها الآخر ينفصل عن روحها.

قضيت أيام عزلتي مع كتاب الله، إذ لم يكن لدي ونيس سواه، ، هل يا ترى كنت أقرأ خوفا من الموت أم خوفا من الله؟ قرأت الكثير من نور حكمة الله وكأنني لأول مرة أحس بنورانية تلك الآيات وهي تشرح صدري، أتيت في الآية 80 من سورة الشعراء، فوجهت ندائي إلى ربي " وإذا مرضت فهو يشفين"، كثيرا ما نشكو من سوء حالنا ولا ندري بأن ذلك هو خير لنا، فحمدا لله الذي وضع في ابتلائي الخير لأن أتقرب إليه.

(3)

أتوقع أنكم تتعاطفون الآن مع وضعي الصحي المتدهور، وقد تحزنون علي، لكنكم لم تكونوا لتحزنوا عليّ عندما كنت أفوت صلواتي في صباي، عندما كنت ألهو في غفلتي، الآن فقط عرفت كم أنا ضعيف وأحوج ما أكون إلى الكثير من الصلوات والدعوات.

أذكر كيف أنني كنت أسخر من هذا المرض، وكم كنت أعتبره ألعوبة كما الأوبئة التي سبقته، حتى أنني ألفت دعابات بشأنه، فدائما عندما أمر على البائع في مقهى المستشفى، كنت أقول له بأنني أريد شراء H1 N1 ، يستغرب سؤالي هذا، فأقول له يا صديقي إنني أريد بطاقة حياك بريال وبطاقة نورس بريال أيضا! أم العيال متحيزة للأتش ون أما أم الطبيب فمتحيزة للأن ون، لم أعد الآن بحاجة إلى شراء الأتش ون أن ون لهما، فأنا صرت معملا تصنيعيا لهذه المادة المتطايرة، يهديها جسدي مجانا للآخرين، الآخرين غير المعقمين، تخبرني زوجتي بأنها طافت المجمعات والصيدليات لتبتاع بعض المطهرات والمعقمات إلا أنها لم تجد شيئا، لقد نفدت البضاعة من السوق! أذكر أنني قلت لها مداعبا في وقت من الأوقات قبل أن أصاب بالعدوى بأننا سنصنع محلولا معقما من بقايا القهوة التي نرميها وسنشيع في الحارة بأنه يقي من الوباء، وسنبيع القارورة الواحدة بريال واحد، فنحن نعيش في وسط يؤمن بالإشاعات، يتعلق الشخص فينا بأي قشة طافية، ليغرق في جهله ويغرق الآخرين معه، نحن نخرج من فقاعة وهمية إلى أخرى، نضع أموالنا في أيادي المحتالين طمعا في الربح السريع، ونمسك أيادينا عن الزكاة والصدقات ومساعدة المحتاجين.

(4)
هذه رابع مرة أختم فيها القرآن الكريم، اليوم بالذات استوقفتني آيات الموت، وتحديدا الآية (185) في سورة آل عمران، حيث يقول تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ". استقرت هذه الحقيقة في نفسي، حقيقة أن الحياة على هذه البسيطة موقوتة ومحدودة بأجل، ثم تأتي نهايتنا الحتمية، يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف السامية، ويموت التافهون الباحثون عن متاع الدنيا، "كل نفس ذائقة الموت" وكأن الموت جرعة لا بد لنا من تذوقه، تجرع هذه الكأس التي تدور على كافة الخلائق دونما تفريق بين أحد منهم، لا أخفيكم خوفا بأن هاجس الموت ما انفك يراودني، لا سيما وأنني في رابع أيام مرضي ولا تزال لظى الحمى تتنزل على جسدي كالحمم، قبل قليل ابتلعت ثامن قرص من أقراص (التاميفلو) ولم يتبق سوى قرصين لليوم الأخير، نعم اليوم الخامس هو اليوم الأخير، قد لا تعلمون شيئا عن اليوم الخامس، هو ما يسمى في طب الإنفلوانزا بيوم تقرير المصير، فإما أن تستقر حالتي وتتحسن، وإما أن تتدهور وأحال من غرفتي إلى غرفة العناية المركزة، وليعذرني الجميع إن لم استطع التواصل معكم حينها، فلا أعتقد بأنني سأتمكن من الإمساك بورقة وقلم!

علمت من زميلي الطبيب بأن خمسة عشر شخصا من الكادر الطبي بين طبيب وممرض تعرضوا للعدوى وقد لزموا بيوتهم لتلقي العلاج، أخشى أن أكون سببا في ذلك، كم أشعر بالذنب وتأنيب الضمير تجاه ما يحدث لهم، وأشعر بالذنب أكثر تجاه أولئك الذين صافحتهم بحرارة الطبيب المداوي عقب صلاة الجمعة، أشعر بالذنب تجاه كل شخص تسببت دونما قصد في أذيته بهذه العدوى، كان عليّ ألا أستخف بهذا الوباء، لكن قدر الله ما شاء فعل. فقط أتمنى لهذه الأرواح البريئة التي تحيط بي أن تكون بمنأى عني.

الإحصائية الإخبارية مرعبة، الآلاف يساقون إلى حتفهم بعدما تعاقد الوباء مع أمراض العصر الأخرى كأمراض الجهاز التنفسي والسمنة، وهذا الموت يحصد الأنفس حصدا كطفل يضرب بعصا طويلة جسد شجرة سدر مثمرة، فتتساقط عليه الثمار الناضجة والتي لم تنضج بعد، لقد انفرط العقد وتبعثرت حباته ولم يعد من سبيل إلى نظمه، وتصاعدت الأرقام التي قضت نحبها وأنا ما أزال رقما ينتظر الدور، أقف مذهولا وأنا أطالع بعض المواقع الإخبارية إلكترونيا وتلفزيونيا وهي تعلن صراحة بأن مصنعي الأمصال الوقائية لن يستخدموها لأنفسهم ولا ينصحون أقاربهم ولا أصدقاءهم بأخذها، أترى ثمة حقل فئران بشرية يعد لتجربة هذا اللقاح عليه؟! في هذه الحالة ستكون الوقاية خير من العلاج كالعادة. وفي هذه الحالة كذلك، علينا مراجعة الكثير من العادات المتأصلة فينا، على الأقل حتى تنجلي هذه الغمة عن الأمة، كتجنب المصافحة والتقبيل والمخالطة التي لا لزوم لها، أعتقد أن التقبيل منتشر بين عموم النساء كنوع من الاحترام والتقدير أو ربما يكون تعبيرا عن الاشتياق لعمة أو جدة أو صديقة أو جارة، ولهذا شددت على زوجتي بترك هذه العادة، قد يكون من الصعب تغيير مسار الطريق الذي يسلكه الناس بعد أن تعودوا عليه، لكن لا بد من التغيير، أن يغيروا ما بأنفسهم، ليس التغيير الظاهري فحسب، بل التغيير الجوهري، التغيير بتنقية القلوب ونبذ التباغض والتحاسد، قد يأتي التغيير متأخرا كمثل حالي بعد أن تركت التدخين قبل شهرين من الآن، لكن أن يأتي التغيير متأخرا خير من أن لا يأتي أبدا، لا أدري إن كان المدخنون ما يزالون يكابرون بارتيادهم المقاهي بحثا عن أرجيلة يمتصون الموت الأبيض من ثناياها، يتناقلون ميسمها بين ثغر عابس وآخر متبسم، أذكر أنني كدت أن اختنق في إحدى المرات بعدما رشفت حنجرتي بقايا ميسم مستهلك، فكيف يكون الأمر بوباء لا تدركه الأبصار ولا الأفئدة.

(5)
يبدو لي أن جسده لا طاقة له بهذا النهش المتواصل، وأحسب أن جهاز مناعته أصبح معطوبا تماما، وكأن أحدهم دفع بحصان طروادة في ثنايا رئتيه، وهذا ما ساعد الفيروس على التشبث في خلايا جسده بإحكام والانتشار في رقعته الرئوية بضراوة وبلا هوادة، لا نملك سوى الانتظار، انتظار موت هذا الفيروس، أو ....، أو الدعاء له بالشفاء، لقد قاسى جسده الكثير مذ أُدخِل إلى وحده العناية المركزة قبل خمسة عشر يوما، فخلال الأيام الخمسة الأولى قضى الالتهاب الفيروسي تماما على الجهة اليمنى من رئته، وتطور الأمر إلى ظهور ثقب في أسفلها اضطررنا بسببه إلى التدخل جراحيا لتفريغ الهواء منها، ثم ما لبث الالتهاب أن تشعب ممتدا إلى الرئة الأخرى، فقضى عليها هي الأخرى، وثقبها كما ثقب الأولى، صور الأشعة لا تظهر لنا سوى رئة بيضاء ذابلة تفتقر إلى الحياة، إنه الموت الأبيض! بالأمس تفاقم وضعه الصحي بعدما اكتشفنا إصابته بفشل كلوي، ليكن الرب في عونه وعون أسرته، إن له أباً شيخاً كبيراً ما بارح مكانه خارج المنطقة المعزولة إلا لصلاة أو دعاء أو بكاء، ولعمري ما عهدت دموع الشيوخ تنفلت من مآقيها إلا لأمر جلل! في حين ذلك كانت أم المريض تذرع المكان جيئة وذهابا وتطلب مني السماح لها بالدخول لرؤيته، وكأنها تقول لي بعفوية الأمومة أن حنانها الذي أرضعته إياه في طفولته سيبعث في جسده الحياة ليقاوم المرض، زوجته المكلومة كانت قد أسندت جسدها كمدًا إلى باب غرفة الإنعاش وهي تناظر توأم روحها عبر زجاج الباب بعينين تائهتين، وكانت بصمتها الأنثوي ترمقني بعينين مغرورقتين عتابا واستجداءً في الوقت ذاته، كنت حينها أصارع النفس جاهدا لتفريغ قلبي من طيبته وملئه بالقسوة كي لا اسمح لها بالدخول إليه، كان الكاتب الأمريكي إرنيست هيمنجواي محقا حينما قال بأن على المرء أحيانا أن يكون قاسيا ليظهر لطفه بالآخرين! أشحت بوجهي عنهم بعد أن ثمل فؤادي بحالات كهذه، ثمة عائلة أخرى لا تختلف عن عائلة زميلي الطبيب إلا بافتراش الزوجة هذه المرة سرير الموت الأبيض، وفي الركن الآخر عائلة للتو أُدخِلت ابنتهم إلى غرفة الحياة، وقسم الطوارئ ينذر بدفعة أخرى من المتشبثين بالحياة.
(6)
واستقرت حقيقة الموت في الأنفس البشرية، وتيقنت القلوب المثقوبة جزعا من فاجعة استفحال العدوى، وسرى الموت الأبيض معربدا بين بني البشر بعد أن تسلل من أجساد الخنازير إلى صدورهم كلص في غيهب الليل، فأطبق عليهم بين فكيه، ولفظت الصدور الملتهبة أنفاسها الأخيرة، وأسدلت الظلمة البيضاء عتمتها الموحشة على المكان، وبسط الموت الأبيض هيمنته المطلقة على أرجاء الكرة الأرضية.