الظلمة البيضاء، كلمتان أخذتهما من رواية قلب الظلام للكاتب جوزيف كونراد لتكونا عنوانا لهذه القصة..
الظلمة البيضاء
بقلم: بدر العوفي
تمخر سفن الضباب الثلجي عباب الظلمة الحالكة لتسدل كفناً أبيضاً على عورات الكائنات والجمادات، وتدلي خيوط الشمس أشعتها على حافة الكون كأراجيح الأطفال وهي ترقب لعبة الشطرنج هذه، تنتظر بسخرية احتدام حمى الوطيس الدائرة بين الجيش الأبيض والجيش الأسود، بين النور والعتمة، بين الضباب والظلمة، بين الخير والشر، حتى إذا ما أثخن الجمعان بالجراح، وسُبِيتِ النساء ويُتِّم الأطفال وشُرِّد الشيوخ وقُطِّعت الإشجار ترفع خيوط الشمس أرجلها وتمد أياديها فتشد الكواكب أقواسها المضيئة على ما تبقى من حلكة وضباب لتفرض هيمنتها على كل شيء تحتها، فالغلبة للأقوى، والأعلى دائما أقوى.
شقت العجوز طريقها صعودا إلى " السجم" واخترق شبحها الأسود "البشانة" البيضاء التي تطاير من داخلها البعوض بعد أن قضى ليلته تلك في جمع الرحيق من أفرع الشجرة البشرية الممدة على الأرض، كان عبود متكوما على نفسه بعد أن قذفته أمواج الليل بعيدا عن شاطئ الفراش الذي يتوسده، لا يزال غارقا في أحلامه والعجوز تقلبه ذات اليمين وذات الشمال كي يصحو، بسط يديه ورجليه متثائبا بأنين الكسل كقطة صغيرة، وفتح عينيه العسليتين على الدنيا دون أن يدرك ماهية الشيء الذي كان ينتصب أمامه، نوراً كان ذلك أم ظلام، لا يدري فقد امتزج السواد بالبياض فلم يعد يرى سوى صورة سوداوية من شدة البياض، كل ذلك لا يهم، المهم أنه فتح شهية عينيه ليأكل بهما ما لا يطاله بيديه.
جرّت العجوز نفسها إلى الخارج كقطع الليل، وجلس عبود يعرك عينيه وما أفرزتاه من قذى، رجع إلى فراشه واستلقى عليه وهو يسترجع خيوط الذاكره الليلية، تذكر أنه ذهب ليتبول عند جذع النخلة في منتصف الليل والشمس تناظره من شرفاتها العالية، كان قد شرب ثلاث علب من شراب "سن توب" البرتقال الذي احضرته خالته فوزية مع أكياس المينو والبطاطس يوم أمس، وكعادته أخفى بعض العلب والأكياس فوق سطح البيت ليختلي بها لوحده عند الظهيرة والناس نيام، ضغط عبود على نفسه وتدفق السيل العرم بهدير مسموع في مجرى الوادي الذي شقه بإصبع سبابته الصغيرة ليروي عطش النخلة، تنفس عبود ولم يتنفس الفجر بعد، كان عليه أن يستغل كل ما يملك من نفس ورمق، فاليوم دوره في مهمة "الرقاط" وعلى أخته فطوم أن "تُسرِّح" الماشية مع فتيات البراري.
استل عبود قفيرا كبيرا من "المسطاح" ووضع بداخله "جلنا" صغيرا وشق طريقه خلال تلك الظلمة البيضاء إلى مزرعة "الهنقري"، لا بد أن "البيدار" قام بسقي النخيل البارحة، فالأرض رطبة وموحلة وسيكون الآمر عصيا هذه المرة مع كل هذا الضباب الخانق و"الخلالات" المتدثرة بأديم الأرض، لكن كل ذلك لا يعنيه، وضع القفير الكبير جانبا واختار نخلته الأولى، بدأ "يرقط" حبات "الخلال" المنغمسة في التربة الرطبة ويملأ بها "الجلن" حتى إذا ما امتلأ هذا الآخير سكب كل ما في بطنه من "خلال" في القفير الكبير، وجد عبود بعض حبات الخلال المصفرة والمحمرة فالتهمها ليسكت عويل بطنه غير عابئ بما فيها من طين، كان عبود نحلة كبقية النحل الآدمي الصغير الذي يتنقل من نخلة إلى أخرى، ولكنه أنشط نحلة في "الحلة"، وبمجرد أن انجلى الضباب تقاطر الأولاد والبنات إلى المزرعة وهم يجرون خطاهم الكسلى كما يجرون "قفرانهم" الخاوية، حينها كان عبود قد انتهى من ملأ "قفيره" من شدقيه حتى أذنيه، وقفل راجعا إلى البيت يحمل القفير الكبير فوق رأسه الصغير.
عند باب البيت العتيق سمع عبود أصوات أصدقائه سميران وعدّول وخلّود المجنون ينادونه من بعيد وفي أيديهم "النشاشيب"، ذهب الأربعة معا يقصدون اقتناص "الصناصير" ونبش أعشاشها المنحوتة على جدران حفر الآبار القديمة، كان عبود ينظر إلى صورته الصافية في بطن البثر، وكان الثلاثة قد أجمعوا أمرهم ليلقوا به في غيابة الجب ويهربوا، أنتظر عبود داخل الجب طويلا عل أحد السيارة يدلي بدلوه فيلتقطه، لكن واردا لم يأت، كانت البئر تضج بأصوات العصافير الصغيرة وأفواهها الجائعة مشرّعة في وجه عبود، أدخل عبود يده في أحد الأعشاش وألتقمت العصافير حلمات أصابعه وهي ترضع ما تبقى عليها من ماء، أخرج عبود العش وأطبق عليه بفكيه وتسلق به عالي البئر كسحلية صغيرة وهو يكابد السقوط بأنفاس مكتومة، عاد عبود إلى البيت مبللا ومحملا بأجساد صغيرة دافئة يكسوها القليل من الزغب والريش الرمادي اللون، تذكر أنه عاد إلى البيت لكنه لم يعد إلى الفراش!
وعند هذا اللون بدأت تفاصيل الذاكرة تبهت شيئا فشيئا حتى ظهرت من خلالها خيوط الواقع الذي كان يخشاه، انتابه شعور غريب وهو يتحسس بيديه بقعة دائرية باردة تتوسط معدة الفراش الخاوية، راح يقترب منها أكثر فأكثر ليتقصى الرائحة الممزوجة بالبلل والتي لن تختلف عليها حاستان، الشم والبصر، رائحة بنكهة "السن توب" وبلون "البرتقال"، أمسك بالفراش النحيل من أحد طرفيه وقلبه ظهرا على بطن ليخفي جميع أحلامه التي لا يتحقق منها إلا البلل، إذا كانت الآحلام لا تأتي إلى أرض الوقع بالعصافير التي أحكم قبضته عليها فلماذا إذن أتت بالسيل العرم بعد أن أطلق سراحه؟ أين مبدأ عصفور في الحلم ولا بلل على فراش الواقع! لماذا لا تظل الأحلام أحلاما بلا واقع ملموس أو أن البلل حالة استثنائية؟ لقد تعود عبود على قلب الفراش عندما تتساقط الأمطار وتسيل الأودية في أحلامه حتى صار لا يعرف ظهر الفراش من بطنه، لا حاجة لأن يغير ملابسه فقد لعق الفراش ما لعق من بلل ولن تلاحظ العجوز ذلك، ولن يلاحظ أحد ذلك أيضا فالجميع يلعب بنفس البلل ويتنفس بذات الرائحة، لا زالت خيوط الشمس تنتظر قطار الساعة السابعة وعبود يستبق خطاه الكسلى إلى المزرعة بعد أن انتشر الفتيان والفتيات فيها كالنار في الهشيم قبل بزوغ الفجر ولم يتركوا "خلالة" إلا والتقطوها.