عندما تكون الرواية رغيف خبز للفقراء!!



قالها أدونيس: فاجأتني وقلما أتفاجئ!


أنا متعبة ومنهكة بل إن نخاع قلبي مريض بحب طارئ بعدما أدمنت عليه في أيامي الأخيرة، أدمنت عليه كإدماني للتحليق على أجنحة الكلمات السود والغوص بين سطورها العميقة بحثا عن لؤلؤ البحر المسجور، ولجت في سم الخياط إلى عالم الرواية وكلي شغف بالخروج من الطرف الآخر إلى الحياة السرمدية، لكن هيهات لخروجي أن يكون سرمديا دونما عذاب، هيهات له أن يكون إلا خيبة عظمى تضاف إلى خيبات جنوني، خرجت بعدما حولتني سيدة الكتابة إلى كائن حبري ينزف نزفا قانيا على صفحات رواياتها، خطيئتي تكمن في صفعة القراءة الأولى، كما الحب المجهول، كما الحب المطعون بوتد، وكهذا الحب المكتوب على ورق، كهذا الحب الذي تخبؤه كاتبة تمتهن شن الحروب بالحروف، وتقتل أبطالها بجرة قلم، وقتلتني أنا على ورق من بياض، قتلتني بعدما أغوتني ودلتني على حب الخلود المزعوم، فلغمت الحب بكلماتها المتفجرة، وفخخت دروبي بعناقيد غضبها دون أن أدري، فكنت كما الانتحارية، بلا حياة وأنا حياة!!

بخلاف جميع النساء اللواتي يبحثن عن زوج فحسب، كنت حينها أبحث عن رجل بمقاسي، عن رجل ليس ككل الرجال، عن رجل أحكيه قصة فيكتبني رواية، رجل يحبني كيفما أنا عليه لا كما يحب أن أكون عليه، فأنا لا أحب رجلا يخاف من امرأة حتى وإن كانت بمثل سطوتي الفوضوية، رجلا تواضع ليرفعني إلى أعلى المراتب، قطعًا هو "رجل الوقت صوتا وصمتا"، رجل النهايات الرائعة، رجل العبارات القاطعة، رجلا أفاخر به النساء عندما يقول: (لا) مخاطبا عقلي عندما كان قلبي يريده أن يقول: (نعم). رجلا يقطع الكلمات بالحروف، رجلا يعلمني كيف أعيش أمسي ويومي وغدي لا أن أعيش فحسب، رجلا مسرفا ومبذرا في حبه لي، رجلا يؤمن مثلي بأن الحب هو التجارة الوحيدة التي تزداد أرباحها بالإسراف والتبذير، رجلا تفوح أنفاسه بعبق شرقي، رجلا قديما قدم التاريخ، رجلا تشبَّع فكره بحضارات الأرض، رجلا فرعونيا بابليا سومريا إغريقيا.

اعتقدت بأنني سألتقي بحب كحبي الأول (زيان)، فما هي إلا قراءة وبعدها أغفو على سرير الحب، لم أكن أتوقع أن تحولني هذه الأحلام بين غمضة عين وأخرى إلى عنوان لخاتمة سلسلتها الرباعية، أن تحولنا معا، أنا وحبيبي (زيان)، إلى رواية مطبوع على غلافها "الموت لكما سريريا"، رواية لم ولن يقرأها أحد حتى اللحظة سواك.

لربما تقرر يوما البحث عن التي تهواها بعد أن يكثر الحديث عنها، وأثناء بحثك عنها قد تجدها مصادفة في إحدى المكتبات، فتحاول التحرش بحبيبتك المندسة بين أغلفة الرواية، ودونما كلام أو موافقة تأخذها إلى دارك وتصعد بها إلى غرفتك، ملمسها الورقي ناعم، قومها الخارجي ناغم، يفوح عبق من عطرها الحبري، فتتكهرب الأجواء المشحونة بحفيفها وصريرها الورقي، ترفع عنها ذاك الخمار الورقي، ثم تخلع عنها العباءة البيضاء التي تواري تحتها سحرها، لتقرأ على صفحة جبينها ما لم تقرأه عين ولم يخطر على قلب قارئ يداهمه حب!

- إقرأني يا سيدي، بجميع جوارحك، علك تنقذ حياة تحتضر سريريا بالحب، نعم، أنا (حياة)، بطلة هذه الرواية، بطلة حبرية داخلها، وضحية حب خارجها، أنا فتاة دلفت إلى موائد الحب وخرجت منها جائعة، كل أطباق الحب التي جالستها وتذوقتها بعد (زيان) و(خالد) كانت مقرفة، وكل كؤوس العشق التي كرعتها بعد غيابهما كانت أمرّ من العلقم، فتشت عن الحب على هذه الموائد، لكنني لم أجد الحب جالسا لا عن يميني ولا عن شمالي ولا حتى أمامي، لم أجده على يساري مثلما عثرت عليه وأنا جالسة في سينما "أولمبيك" أشاهد فيلم " مجتمع الشعراء الموتي"، يا سيدي ما عادت موائد الأغنياء تحفل بالحب، ولم أجده في الطاولة المقابلة لطاولتي مثلما وجدته وأنا احتسي القهوة في مقهى "الموعد"، أنا يا سيدي حياة تموت وكنوز الأرض تتفجر من تحت قدميها، انهب كنوزي ولكن تصدق علي بحب حقيقي خارج أسوار هذه الروايات، أيا سيدي، ألا تذكر مراقصتي للحب في "ذاكرة الجسد"، ألم تعش لحظات حبي الفوضوي وأنا أُغويه واستدرجه في "فوضى الحواس"، أتريد الآن أن تختبر حبي على سرير عابر، إذن أدعوك من هذا المنبر الورقي أن تعبر إلى جميع أسرة حبي، أدعوك أن تطعمني الحب كما لو تطعم طفلة، لقمة لقمة، بل لقيمات لقيمات، رش على جسدي حبا صيفيا كي أصحو،، ودثرني بحب شتوي كي أغفو، ابحث عني إذا أهمك أمري، فلربما ستجد يوما قلبا ينبض بحبك بين ألوف من أوراق الريحان، لكن لا تبحث عني كثيرا داخل هذه الروايات، فما عدت أشتهي تلطيخ هذه المنامات الورقية بالمداد الأسود قدر اشتهائي لتلطيخ المنامات المخملية بالدماء القانية، أترك لك تعويذة العبور هذه، وتأكد بأننا جميعا عابرون، كلنا نعبر على زجاج شظايانا المهشمة لنخضب أقدامنا بالدماء.

قد تكون هذه الكلمات بمثابة تعويذة حديدية أذيبت على جسدك الغض، فتهم بالبحث عن حياة في الرواية، تبحث عن أي شيء يقودك إليها، فتجد ضالتك على أطراف الرواية، ابحث كثيرا، فأجمل الأشياء هي تلك التي نجدها عندما نبحث عن شيء آخر!