*** 1 ***

أحلام آسيوية

لغة


ما أكبر حجم الألم والشوق الذي تحمله في صدرها، ها هي الآن في سماء غير السماء التي كانت تستظل بها، وعما قليل ستطأ قدماها أرضا لم تطأها من ذي قبل، قدّر لها أن تكون بالقرب من النافذة لتشاهد العالم هذا المساء من السماء، تتلألأ الأنوار والأضواء في الأسفل كدرر متناثرة على مخمل أسود، لحظات ويقذف بها هذا الطير المهاجر على هذه البقة من الأرض.

في المطار تقاطعت نظراتها مع نظرات المستقبلين، وبعد أن أكملتْ إجراءات الوصول شرعتْ في البحث عن من جاء لاستقبالها، لكن لخيبتها ما من أحد كان في انتظارها، أخذت كآبتها تمتد بعد أن أصبحت الساعات أطول من قامتها، أخرجت محفظتها الصغيرة وفتحتها بحثا عن عنوان المكتب الذي أتت عن طريقه، فجأة ومضت في عينيها صور عائلتها الصغيرة في جيوب المحفظة، تحسست صورة أمها والمرحوم والدها، هذا زوجها وتلك ابنتها ذات العامين، لم تسمح للدموع أن تغزو مقلتيها، تمالكتْ نفسها وحملت حقائبها الصغيرة إلى خارج القاعة، لمحت في الخارج الكثير من السيارات فأرادت أن تدلل نفسها بأفخرها لكنها لم تكن تحمل نقود هذا البلد، عرضت العنوان على أحدهم وطلبت منه توصيلها وأخبرته بأنها ستعطيه نقودا آسيوية، كادت أن تنسى بأنها في بلد عربي وأنها مهما حاولت مع هذا الشخص فلن يفهم لغتها أو تفهم هي لغته، لكن لدهشتها فقد فتح لها السائق باب سيارته وحمل عنها حقائبها.

أرخت الفتاة المتعبة جسدها الصغير على مقعد السيارة وانطلق بها السائق الذي لم تعرف اسمه بعد إلى حيث لا تدري، في الطريق حاول السائق يائسا التخاطب معها بلهجةٍ مكسرةٍ فيها الكثير من كلمات التودد والتوسل! كان لسان حاله في واد شرقي ولسان حالها في آخر قصي، انعطف بالسيارة فجأة فتلاشت أنوار الشارع وبدأت العتمة تستدل ستارًا حديديًا عليهما، أضاء مصباح السيارة الداخلي وابتدع إشارات غريبة بيديه وشفتيه، لم تفهمها في البداية وكأن شبكة الاتصال بينهما قد شلت، حاولتْ الاقتراب منه لتفهم ما يرمي إليه، فأقتطف قبلة من على خدها، وكالصاعقة أمطرت خده بالصفعات واللعنات وهي تهدده وتتوعده رافعة سبابة يدها اليمني ومقسمة بلغة يعرفها جيدا:
- بوليس!

*** 1 ***


*****************
** 2 **
ترصــــد

كان يفسر كل حركة من حركاتها على أنها تريده، هي تلعب دور الصيّاد وهو يتقمص دور السمكة الغارقة في أوحالها، ورغم أنها لم تكن ذات حسن وجمال إلا أن إغواءها له عجّل أمر وقوعه في حبائلها ومكائدها الأنثوية، ففي كل يوم كان ينتظر إطلالتها المسائية من على الشرفات، يحلم باللعب مع هذه الحية، وبتجرع السم من بين فكيها، ينفخ في مزماره فتخرج من جرابها متثائبة بإلتواءات شرقية، تلقي عليه تمائمها وتنفث في دمه سمومها ثم تختفي ليكتوي بحُمّى البحث عنها عبر النوافذ والأبواب، أحينا تتردد على منزله كنسمة عابرة عندما ترسلها سيدتها لحاجة ما، يطاردها بسهام عينيه الضائعتين في الدهاليز والممرات والشرفات على أمل أن تعطيه جواز عبور، أو بالأحرى تأشيرة دخول، تتعمد السقوط والالتواء كأفعى حاو هندي لتحظى بأكبر عدد من سهام لحظيه دون أن تلحظ زوجته المنهمكة بشؤون المنزل والأطفال سهما من سهامه أو حتى تحظى بواحد منها، في نهاية الأسبوع وكعادتها ذهبت زوجته والأولاد لزيارة أهلها في القرية، أما هو فقد اعتذر متحججا بارتباطاته مع بعض الأصدقاء على أمل أن يلحق بهم في اليوم التالي.

وحيدا في البيت يترصد بحد عينين صقريتين ويتحين فرصة خروج العائلة الأخرى، وما هي إلا لحظات حتى خرجت سيارة العائلة الأخرى دون أن يتبين إن كانت معشوقته معهم أم لا، تَتَبّعَ السيارة الخارجة من المنزل وقلبه ينبض بحمم بركانية وسط بحيرة متجمدة، أخذ يقرض أظافره، يطوي الشرفة ذهابا وإيابا، ثم ما هي إلا برهة ويرتد إليه طرفه لما رأى مفتونته الأفعى تعاود غلق الباب الخارجي وتختفي داخل جحرها، انتفض من مكانه كقط مراهق وانطلق مسرعا إلى حيث كانت، فتح باب الدار، فوجدها كمن ينتظره باسطة جسدها بالوصيد!

همّ بها، وهمَّت به!
** 2 **