ألف حفرة وحفرة

ما أكثر الأعراس الجنائزية في المنطقة وما جاورها من المناطق، ففي أيام العيد قدر لأحد الشباب أن يموت في حادث سيارة، ما هذه المفارقة! الناس يحتفلون بالعيد بينما كان ذووه وأقاربه يحيون مراسم العزاء، وبعدها بأيام قلائل أودعنا عجوزا في مثواها قبل الأخير، عويل النساء ونشيج الأطفال، كل ذلك لن ولم يغير من الأمر شيئا، كانت هناك ثلاث حفر قبرية جاهزة وقد إلتقى عقربا الساعة ليعلنا معا انتصاف الليل، كانت المقبرة مضاءة بمصابيح بيضاء كاشفة فاختلطت عتمة الليل بأضواء المصابيح، تحلق المشيعون حول القبور الثلاثة وجميع الأنظار تنصب داخل حفرة واحدة وهي الأكثر حرارة من الأخريين، وكان نظري ينصب على كلتا الحفرتين الباردتين، أيهما ستكون لي! بت مشدوها وأنا أرسم خيالات كثيرة عما تكتنزه هذه الحفر بداخلها، رحمة أم عذاب؟ منكر ونكير، روائح الجنة، الثعبان الأقرع، الحور العين، الدود، متى سأعد العدة ليوم كهذا يا ترى؟ عندي الكثير من المشاريع أود الانتهاء منها أولا ثم بعدها سأتفرغ كليا للزهد في الحياة! قبرنا الحفرة وقبرت خيالا لشخصي في الحفرة المجاورة عليِّ أعرف كيف هو الموت.

انتهى الأمر عند هذا الحد، لكن رائحة الموت ما زالت تخترق الأنفاس، ثمة فرق كبير بين دخول مقبرة بها قبر واحد قد أعد توا لميت بعينه وبين وجود أكثر من حفرة قد قيدت جميعها باسم مجهول أو بعبارة (سيتم الإعلان عنه لاحقا)، وتعاقبت الأنفس تعاقب الفصول، أنفس تموت فتصبح لا شيء وأخرى تخلق من لا شيء، وبالأمس فقط قبرنا شابا في العشرين من العمر في مقبرة جبلية لا تكاد تخلو من حجر، باغته الموت في الليل والناس نيام، وبعد مضي ربع النهار ما دلهم على موته إلا حركة قاموا بها لإيقاظه من نوم عميق، الكل يبكي وينتحب، في الأجواء تنتشر أحاديث وأقاويل هنا وهناك كرصاصات طائشة، فهذا الموت لا يصدق، كيف يموت وهو ما يزال في مقتبل العمر؟ لم يخبرنا بأنه سيموت، لماذا مات أخوك؟ لا بد أن أحدهم أكله، هؤلاء السحرة الملاعين يأكلون من يحبون أكثر.

مســـــــــــــــــاكين! تُحملون اليوم على الأكتاف، وغدا تحملكم الأكتاف، فابكوا عليه قدر ما شئتم من البكاء على أنفسكم أو أكثر، وأثناء ما كنا نحمل الشاب إلى أعلى التلة أمر شيخ القرية حفاري القبور بألا يتركوا المقبرة بلا قبور جاهزة فالحالة -حسب قوله- كما ترون، وهناك في المقبرة الصخرية رأيت إحدى محطات تقوية الإرسال اللاسلكي وهي تعتلي قمة الجبل المجاور، عندها تذكرت حادثا تقشعر له الأبدان، فسألت أحد الأطفال ما إذا كان وقع حادث في الأعلى ذلك الأسبوع، إذًا هذه هي القمة بعينها! أهي مصادفة أم دعوة لأن أشاهد آثار الموت حتى وإن كانت على قمة جبل، كانت المركبة جاثمة عند سفح الجبل كلعبة بيضاء صغيرة هشمها طفل بيديه ورجليه، مات من مات حتى من كان بداخل أحشاء النسوة اللاتي كن بداخلها، وظل على قيد الحياة من استحيي ليشهد على أنه كان السبب في هذه المأساة.

الكاتب التركي عزيز نيسين خاطب الموت مناشدا بألا يأتيه بغتة بل أن يأتيه وجها لوجه وفي نزال قدِّر له سلفا أن يخسره من البداية، من يجسر على خوض نزال مع الموت، كيف هو الموت يا ترى؟ كيف تريد أن تموت وهل تفرق مِيتَةٌ عن أخرى؟ أن تموت على فراش كقطعة واحدة أو أن تموت بينما الناس يلتقطون أشلاءك قطعة إثر قطعة من على رصيف شارع ملتهب ويضعونها في كيس أسود، برصاصة طائشة، بمرض عضال، بسكتة قلبية، بفرح مباغت، بصدمة عاطفية، أثناء الولادة فتقايض حياتك بموت من أنجبتك، يا إلهي، ما أكثر أقنعة الموت! من بين ألف حفرة وحفرة ثمة حفرتين في الجوار تنتظران الدور.