أي مطر أتيت به في هذه الساعة؟!

في ركن قريب من هنا أو هناك تكتب ساعات الميلاد وساعات الوفاة، قبل قليل غادر أحدهم إلى عالم الأرواح العليا بعد أن فاضت روحه عن جسده كما يفيض الماء من النهر الممتلئ وكأن الأخير لم يعد يتسع للأول، أحس بأن أحدا ما يحوم في هذا المكان، ها هو الآن يقترب مني، نتبادل النظرات، ثم ننظر معا إلى هذا الذي يستلقي أمامنا شبه عار على شاطئ قماشي أبيض، يقترب منه وكأنه يهمس بشيء في إحدى أذنيه ثم يغادر إلى الشاطئ المقابل، هرعت إلى المستلقي لأطمئن على روحه فوجدت أن جسده كان ما يزال يحتويها داخله بشدة!

طلبت منهم أن يعطوني ورقة بيضاء لأكتب، فقرأت علامات الاستغراب في أعينهم كمن يقول وهل هذا مكان للكتابة؟ نعم، هنا مكان احتضار الكلمات وموت الحروف حرفا حرفا، وعندما تموت الكلمات يحتضر البشر، ها أنا جليس والدي المريض في فترة ما بعد الظهيرة، لا أدري إن كان يحتضر لكنني أعرف بأنه لا يتماثل للشفاء، فقد أحاله المرض إلى تمثال تنحته الرياح، في هذا المكان الكل مريض، ليس المستلقون على الأسرة البيضاء فقط بل نحن كذلك وحتى أولئك الملائكة المتشحون بالبياض والموكلون بعنايتهم ورعايتهم رغم أنني لا ألحظ أي علاقة إنسانية تربطهم بمرضاهم، كل ما في الأمر هو أداء الواجب وإغلاق آذان القلوب كي لا تصغي للألم المعتمل في قلوب الآخرين، الفرق الوحيد بيننا هنا هو أن كل مريض يحتفظ بمرضه لنفسه ولا يتقاسم لذة الألم به مع الآخرين، في الجهة المقابلة لسرير والدي شيخ هرم لا يقل عمرًا عن عمر أبي ولكنه أفضل حالا منه، يأكل، يشرب، ينام، يحيى، لكنه لا يحتضر، أرى أشكالا وألوانا من الأمراض تتراقص في هذا القسم الرجالي، هناك شاب في مقتبل العمر يتزود بالدم من قنينة حمراء علقت فوق رأسه وكأن حياته صارت مرهونة بما تجود عليه هذه القنينة من قطرات لا يعرف طبيعة القلب الذي كان ينبض بها، لاحظت أن الأمهات والزوجات مسموح لهن بالاعتناء بأطفالهن وأزواجهن المرضى في هذا القسم، قبل قليل رأيت إحداهن تفترش الأرضية على مقربة من سرير ابنها، لاحقا رأيتها على كرسيها تدعو له بالشفاء من صميم قلبها وبأن يعود إلى الحياة ومقاعد الدراسة كحال أقرانه وأصحابه.
يااااه،،، ما أجمل الحرية،،، ما أجمل العودة إلى الحياة! هذه الحياة التي ما ننفك نتهمها بالقسوة والظلم، هذه الحياة التي ندخلها ونحن أموات نمشي فلا ندري بأننا أحياء إلا عندما يقترب الموت منا ويلدغنا فنصحو من الموت لنحتضر الحياة.
لكن كيف لأبي أن يعود إلى الحياة بعد الآن؟! منذ أن ولدنا والحياة والموت يتجاذبان أطرافنا، في البداية تكون الحياة أقوى على جذبنا إليها ثم ما تلبث أن تتركنا ننساق إلى الموت، هل معنى ذلك بأن أبي ينساق إلى الموت الآن؟ فعلا كلنا ذاهبون، زائلون...مساقون إلى الموت... فلماذا نبكي ونحن على علم بهكذا نهاية؟ لم اختبر شعورًا كهذا من ذي قبل... فما تعود الموت على زيارتنا عن قرب، صحيح أنه كان يقترب كثيرا من أرواحنا إلا أنه على الأقل لم يأخذ الأرواح المقربة إليّ ، أما في الجوار فالأرواح تحصد وتقتلع كالأشجار، قبل فترة قصيرة كنت أحضر جنازة صبي صغير في الجوار مات مختنقا بقميصه الشتوي، ياللمفارقة! أن تموت بالقميص الذي ترتديه عمدا لتدفئ جسدك به، هناك وفي منزل ذويه كانت النسوة ينتحبن بأصوات حزينة تخترق هدوء مراسم التكفين، ووالده لا يكاد يرى شيئا من أثر الدموع التي ترقرقت بها عيناه، كان يهذي بجوار الجسد الذابل ويتحسسه كمن يحاول أن يوقظه من سبات عميق، وأثناء ما كنا نخرج الصبي المكفن من المنزل تعالت الأصوات عذوبة حتى خيِّل إليَّ أننا في عرس! نعم في عرس جنائزي جميل! حينها شعرت بأن موت كهذا فيه لذة لا غصة إن نحن فعلا مزجنا الفكر بنبضات القلب، تمنيت حينها أن أكون ذلك الصبي الصغير الذي قبل قليل فقط كان يلهو مع إخوته، ثم يتدلى بجسده الغض من على أحد الحيطان المسورة بالقضبان الحديدية ليرقص في الهواء رقصته الأخيرة، ثم يبرد ..بقميص شتوي... كالعصفور.
الجسد والروح، الذكر والأنثى، هذه العلاقة الأبدية بين الاثنين، جسدا ذكرا وروحا أنثى، امتزاج معناه الحياة، وانفصال معناه الموت بكل معانيه.اكتشاف عظيم أن نجد كل إنسان يتكون في الأساس من جسد ذكر وروح أنثى، هل الروح تغلف الجسد أم أن الجسد يحتوي الروح؟ عندما نلمس الألم في أجسادنا فلا شك بأن الجسد يتألم لخطب أصابه كمرض أو علة أو إصابة وعندما نعاني من حالة نفسية متقلبة فبلا شك بأن الروح حينها تألم بشدة لوضع عكر صفوها وأخل بتوازنها الروحي. ثم هل للروح وزن؟ هل بالإمكان قياس وزن المحتضر قبل وبعد وفاته؟ رغم ذلك أعتقد بأن الجسد سيكون أخف وزنا بوجود الروح لا بدونها.

غريب ذبول الجسد وانطفاء الطاقة عنه.. تخرج الروح فيبرد الجسد، وكأن الحرارة هي ما يحرك كل ساكن على هذه الأرض.
البرد يعود بي إلى حيث يستلقي أبي، ما زال يشعر بالبرد،، أدثره ،، برد،،، برد،،، هل هي ساعتك الأخيرة يا أبي؟! أتحسس أخمص قدميه لأتأكد بأن الروح ما زالت هناك، لكن قدماه كثلج يمتد إلى أعلى ساقيه! لماذا اخترت هذه الساعة للرحيل وتتركني أقاسي هذه الأمسية الباردة، فأنا كنت وما زلت أتمنى أن أكون بعيدا جدا ولا أشارك أحدا في موته وهو يحتضر، كيف سأبكيك؟ وكيف للعبرات أن تلتمس طريقها إليك؟ أحيانا كثيرة أحس بأنني لن أبكي ولكن ستترقرق عينان بدموع يخالطها الحزن بالفرح، الحزن على الفراق والفرح بانتهاء معاناة الجسد.
ما زال أبي يستفيق ويغفو بين الفينة والأخرى، وكأنه يموت ويحيى، كأنفاسه التي تذهب وتأتي وهو بينها، بين هناك وهنا. ها قد أتى الساقي بالشاي والبسكويت، تمنت لو أنني أحضرت كوبي الخاص فما أدراني بالأزمان والأفواه التي تناوبت على معانقة هذه الكأس حتى وإن غسلتها أيد أمينة.
انطوت الأيام، وكان أبي ما يزال هنا وهناك، كأنفاسه المتقاطعة، كالأمس، كاليوم، كالغد، وما أدراني بالغد؟! ها أنا في الغد وحاله أفضل من الأمس بل أفضل من اليوم، اجتمعت وإخوتي الأكبر عليه وتحلقنا حول سريره، أصلحنا جلسة نومه على السرير، ثم أسقيناه وأنعشنا وجهه وجسده بمحارم مبللة، استيقظت عيناه كمن يشير إلينا بالجلوس على مقربة منه، تمتم بحمد الله ثم غفى!
عدت إلى البيت، فما عاد أبي يحتضر، أبي يستفيق، يعود إلى الحياة، بثبات، يعود شيئا فشيئا، سيعود بعد منتصف ليلة هذا اليوم، تنتصف الساعة، أغفو ساعة بين صحو وإغفاءة، تضيء شاشة هاتفي، يرن هاتفي - مبدأ وصول الضوء قبل الصوت- أقرأ اسم أخي وأقول في نفسي قبل أن أرفع السماعة "أي مطر أتيت به في هذه الساعة!".

****
إلى روح والدي
22/2/2008