فردة حذاء شريفة
وضع إحدى يديه على الباب واتكأ بالأخرى على إحدى ركبتيه، وكهيئة الراكع الخاشع، أغلق ستار عينه اليسرى وأطلق العنان لعينه اليمنى لتنقل له كل ما يحجبه هذا الباب من خلال ذلك الثقب الصغير فيه، وفي مشهد تلفزيوني حي ومباشر كان مدعوا لمشاهدة لقطات حصرية لهذه الزائرة المقربة، صديقة أخته، كان شعرها ينسدل على كتفيها كشلال بلون غروب الشمس، وكان خديها كورود جورية تساقطت عليها كرات ثلج ناعمة، وشفتيها رفيعان كالأفق الذي يفصل زرقة السماء عن زرقة البحر، رائحة عطرها الباريسي تفوح من ثقب الباب، ملابسها لا تخفي شيئا بقدر ما تفضح ما بداخلها، كل هذه الأشياء المكشوفة يسدل عليها ستارٌ أسودٌ ما أن تخرج من عتبة هذا الباب، لكن الصدفة شاءت له أن يكشف ما يواريه هذا الباب يوم أن تعثر بفردة حذائها وسقط مباشرة عند خرم هذا الباب، ومن يومها، وفي كل زيارة لها تتكرر هذه المشاهد، وبمرور الوقت تتوالى وقفاته على الباب، وينحني ظهره، وتصغر عينه اليسرى، وينطبع خرم الباب على عينه اليمنى.
كعاتدها، تخرج أخته أمينة من الباب بصحبة صديقتها المقربة شريفة بحثا عنه، تناديه باسمه نبيل، فيجب النداء على غير عادته، بحضور صديقة أخته كل شيء في تصرفاته يكون على غير عادته، الأخت لا تهتم بهذا التبدل الفجائي ما دام يلبي طلباتها وفي يدها ورقة الضغط المقربة على شقيقها الأكبر، تجلس مع صديقتها في المقعد الخلفي لسيارته وتطلب منه أن ينطلق بهما إلى أحد المطاعم الراقية، لا يهتم بما يدفعه لأخته المتطلبة ما دام يشتري بهذه النقود ود صديقتها في كل مرة تخرجان بصحبته حتى وإن كانت ما تزال تستدل على نفسها ذاك الستار، فما من شيء يستره الليل الديجور إلا ويعرِّيه وهج النّهار.
ذات يوم، عاد بعد منتصف الليل وهو يترنح موزعا قُبُله ذا الجدار وذا الجدار ويترنم بأطلال أم كلثوم : "هل رأى الحب سكارى،، مثلنا،،آه مثلنا"، وصل إلى الباب، بشيء من الصعوبة يركع بخشوع، تذكر أنه لم يركع طوال هذا اليوم بخشوع كهذا الخشوع، يغمض عينه اليمنى،، تلتبس عليه الأعين! ينظر من خرم الباب، لا يرى شيئا سوى العتمة، خيّل إليه أن شريفة كانت ترقص وراء الباب منذ برهة فقط، لكنه تذكر بأنه كان يراقبها وهي ترقص أمام ناظريه تماما وليس من خلال خرم الباب، ينتشي فرحا وطربا: "مثلنا... مثلنا" يواصل زحفه إلى الأمام بخطى ثقيلة متعثرة، كأن إحدى قدميه أثقل من الأخرى، يفتح باب غرفته، يسقط أرضا، يحبوا إلى سريره ثم يرتمي على فراشه، وفي لحظات تعج الغرفة بالشخير.
في الصباح الباكر، وكالعادة، تطرق أمينة عليه الباب، كعادتها، تسترق النظر من ثقب الباب علّها ترى طيْف خالد -صديق شقيقها المقرب- فتلفحها رائحة خمر ممزوجة برائحة أنفاس نتنه وكريهة، تفتح الباب هنيهة، تدخل، تضع قدما بعد أخرى كي تصل إلى مفتاح المصابيح، تتعثر قدمها بشيء ما على الأرض، يبدد المصباح عتمة الغرفة، هنا علبة سجائرة، هناك طاقيته، هو على سريره، كما هو، كل شيء في مكانه، إلا فردة حذاء صديقتها شريفة كانت مكان فردة حذاءه!