قصة قصيرة


وراء كل نجاح حكاية


لكل شخص في هذه الحياة أماني كثيرة، فهناك من يتمنى وظيفة مرموقة، وهناك من يريد سيارة رياضية، وتلك تريد زوجا تفاخر به بنات جنسها، أماني كثيرة تختلف باختلاف متمنيها، أما أنا فلي أمنية واحدة فقط، ولا أريد غيرها، قد أكون محرومة من الأماني الكثيرة التي تتمناها بنات جنسي، فأنا لا أريد فستانا فاتنا لحضور عرس صديقتي، ولا ثوبين مطرزين لعيدين لا يفرق بينهما سوى شهرين، الملبس والمظهر لم يكن أبدا أهم أمنياتي في هذه الحياة، بل طلب العلم كان أول اهتماماتي وآخرها، ربما لو كان لدي من المال ما يكفي لنافست بنات جنسي على آخر الموضات، لكن الفقر رسخ في قرارة نفسي مبادئ قائمة لا يمكن ثنيها أو بترها، رسخ في عقلي بأن العلم زاد ومال يعين المرء عند الاحتياج إليه، وهذه القناعة غرسها في تراب قلبي والدي العزيز وكان يسقيها في كل نهاراتي ومساءاتي بحبه الذي غمرني به لشق طريقي الوعر وحدي وأنا أكاد أكون حافية القدمين، أبي ذلك الأمي الذي لم يكن يعرف فك الحروف ولا رسمها كان بالنسبة لي الأستاذ والكتاب والقلم، أذكر عندما كنت في صفوفي الأولى جلوسه معي ليتعلم مني ما تعلمته في المدرسة، ينتظرني بلهفة طفل وأنا الطفلة حينها بين يديه، أقرأ عليه ما تعلمته من كتاب الله، ويردد معي من ذاكرته العتيقة ما يحفظه من سور وآيات، كان يستمتع وأنا أرسم حروف اسمي لتأتي بعدها حروف اسمه ولا يفصلنا شيء سوى كلمة "بنت"، نعم هو أبي، وأنا ابنته التي تشربت من روحه الكثير، ومن صبره على حملي فوق ظهره كل هذه السنين، من قال أن الأمي لا يعرف الحساب؟ أبي كان ماهرا في العمليات الحسابية، كنت أطلب مساعدته في بعض العمليات وكان يمثلها لي بعمليات البيع والشراء، وتحديدا بالريالات والبيسات، كان الأمر حينها مدهشا بالنسبة لي وأنا أرى أبي يحل هذه الحسابات ولم يدخل المدرسة! أبي كان معلمي وطالبي في نفس الوقت، يعلمني ما لا أعرفه، ويتعلم مني ما يجهله، في ذلك الزمان، لم أكن أعرف ماذا يعني الفقر، وماذا يعني أن لا يكون لدينا مال، وماذا يعني أن نأكل ولا نجد ما نأكله، وأن تكون لدينا سيارة متهالكة وجارنا لديه ثلاث جديدات، وأن ألبس نفس المريول المدرسي في كل عام وتفصله والدي أطول من للازم ليطاول أحلامي في الأعوام القادمة، كل ما أعرفه حينها أنني أذهب إلى المدرسة وأعود إلى البيت ولا أعلم ماذا يدور في الخفاء، لا أعلم كيف ومن أين يصرف عليّ أبي، مع ذلك كانت هناك أشياء لا أحصل عليها في حينها، مثلا قلم، ممحاة، دفتر رسم، دفتر موسيقى، صحيفة حائط، ورق تجليد، ربما لم يكن أبي يجد من يستلف من عنده في ذلك الوقت، فيتأخر عليّ، ما أشد الإحراج الذي كنت أسببه لوالدي دون علمٍ مني، كبرت صفوفي وكبرت معها طلباتي المدرسية، غير أن ابتسامة أبي لم تفارق محياه، وتشجيعه لي لم ينقطع أبدا، كنا نعيش في غرفة واحدة، ولهذا كنت أراجع دروسي فوق سطح المنزل نهارا، وخارج الغرفة ليلا تحت لحاف النجوم، أحيانا كثيرة كانت الكهرباء تنقطع عن منزلنا، ولم نكن مستعدين لهذه الإنقطاعات بالشموع، فكان القمر والنجوم سراجي الذي أستضيء به الدرب على السطور، الآن وبعد هذه السنوات الطويلة أشعر أن الفقر يدخلنا إلى أمكان لا يدخلها الثراء، الفقر جعلني أحفظ مواقع النجوم نجمة نجمة، ألاحق الشهب المتطايرة، والطائرات العابرة، وأتفكر في الظلمة الكونية التي لا تشبه ظلمة الأرض، والأهم من كل شيء، تلك الراحة النفسية التي تدخل في جسدي لتخرج منه ضغوطات الحياة، فأذهب إلى مدرستي وأنا مفعمة بالهمة والنشاط، لم أكن أؤمن أبداً أن الفشل الدراسي رفيق الفقر والفقراء، لأنني ببساطة كنت أرى زميلاتي من بنات النعمة ولم يرفعهن ثراؤهن في تسلق السلم الدراسي، فبعض زميلاتي كن يرسبن رغم كل المظاهر الخارجية التي تعكس بأنهن يمسكن النجاح بيد والتفوق بيد أخرى، ولا أنكر أيضا أن بعض زميلاتي الفقيرات كن يرسبن أيضا بسبب خلل أو تفكك في الحلقات العائلية، لم يكن نجاحي وتفوقي بدخولي الجامعة استثناءً بقدر ما كان مثابرة جادة عن سبق إصرار وترصد للظفر بالنجاح أينما حل وارتحل، فكانت شهادتي الثانوية سلاحا صغيرا أتكئ عليه للدخول إلى جامعتي، جامعتي التي فتحت لي أفاقا شتى للتفكير والتعلم، وأفاقا أخرى لأن يصبح لي صوت وموضع قدم في هذا الوطن، بعد كل هذه السنوات، يعود بي شريط الذاكرة إلى أيامي الأولى وأنا أحبو فوق الكلمات على مقاعد الدراسة، كيف كنت وأين أصبحت، رغم ذلك أشعر بأن ما تعلمته لا يكفي، فعقلي يتوق إلى المزيد من المعرفة، وإلى الكثير من التجارب في هذه الحياة، غير ناسية ولا متناسية أن وراء هذا النجاح، أب بذل من نفسه الكثير لأجل إسعادي، فكان واجبا عليّ أن أرد الجميل بالأجمل، فها قد انتهى وقت راحتي، وحان الآن الوقت الذي أتيح فيه والدي الاستقرار والسكون والارتياح من عناء السنين، وعناء ابنته التي ما تزال صغيرة في عينيه لكنها كبيرة في قلبه!