مهنة التدريس أشرف المهن وأعلاها قدرًا؛ فالتدريس وتعليم الناس أمورَ الخير وإرشادهم إلى ما فيه فلاحهم وصلاحُهم وسعادتهم، هو عمل الأنبياء والمصلحين والعظماء، لذلك لم تكن هذه المِهنة التي تَنتظِر المدرِّسين باليسيرة، بل إنها مهمة سيَسبر المدرس أغوارها، لها من الأهمية ما لا يوجد في مِهَن أو حِرَف أخرى، و تزداد أهميتها بمتغيرات الزمان وتقلُّب طباع الفئات الناشئة، وليس زمان قد تغيرت فيه طباع الناس وتبايَنت، وتغيرت فيه حياة المجتمع وتطورت، كزماننا هذا، لذلك فهي تُعتبَر الآن مع أهميتها أصعب المِهَن وأكثرها حساسية؛ فكيف يستطيع المدرس تأدية مَهمَّته في زمن المتغيرات، زمن العولمة؟

كان فيما مضى من الزمان تقتصر مهنة المعلم على تزويد المتعلمين بمعارف ومعلومات في تخصص أو تخصصات معينة، مع قيم أخلاقية ودينية تحصن المتعلم من بعض أسباب الغَواية التي تَنحصِر في مجالاتٍ ضيِّقة.

أما وقد تغيَّر الزمان وتبدَّلت الأحوال فإنَّ مهمَّة المدرس أصبح لها شأن عظيم وجب على كل المدرِّسين التفطُّن لها والعمل على تأديتها أحسن الأداء، فلا يخفى على أحد بعد اختراق العولمة لكل مجالات الحياة أنها اخترقت أيضًا عالم المتعلِّمين، وأصبحت لهم حياتهم الخاصة التي لا يستطيع المجتمع أو الأسرة أو المدرِّس الاطِّلاع عليها بسهولة؛ حيث إن الهواتف الذكية والوسائل التكنولوجية ومواقع التواصل الاجتماعية جعلت لهم عالمًا خاصًّا بهم صعب الاختراق، لذلك فرسالة المدرِّس تَكمن أهميتها هنا، فقد يتعسَّرُ عليه إيصالها وتأديتها في زمنِنا هذا، نعم؛ لكن مهما كان فعليه أن يقاوم من أجلها وأن يبذل الغالي والنفيس؛ من أجل اختراق عالم المتعلمين وإرشادهم إلى ما فيه مصلحتهم، حتى يبرئ ذمته أمام ربه وأمام نفسه ومجتمعه. شامل, أدبيات, فن الكتابة, إسلاميات, أدعية, الأفضل, تغذية, فوائد, حكم وأقوال, حكم عن الحب, حواء, العناية بالجسم, صور, طبخ, أطباق رئيسية, كيف, منوعات, إنترنت, معاني الأسماء.



فالمدرِّس الذي يظن في عصرنا الحديث أن مهنته تنحصر في النقل الديداكتيكي للمعارف والمعلومات من الكتاب المدرسي إلى المتعلمين فقط دون أن يهمَّه قيَمهم وأخلاقهم وإرشادهم وتوجيههم وإعدادهم للحياة، فهو حقيقةً يَجني على هذه المِهنة؛ لأن التدريس الآن عبارة عن عملية إصلاح شاملة لقاعدة مهمة من المجتمع بصلاحها يصلح مجال التعليم الذي أُنفقت من أجله ملايير الدراهم منذ الاستقلال بغية إصلاحه ولم يصلح بعد، ولو كان المدرسون يعلمون أن اتحاد قواهم وجهودهم وتضحيتهم وتفانيهم في العمل كفيل بأن يُصلح شَطرًا مهمًّا من مجال التعليم الذي يُعتبر من أكبر القضايا المغربية المؤرِّقة للشأن العام، لما خسرنا ميزانيات ضخمة من أجله.

فالمدرِّس عند قيامه بمهنته على أكمل وجه يشارك في إصلاح التعليم والرقي ببلدِه، لذلك كان لزامًا عليه الصبر والتضحية من أجل مهنةٍ شرَّفتْه بأن يكون حاملاً للوائها بين الحمَلة، فالإصلاح ليس هيّنًا، فهو عمل العظماء، والتدريس نوع من أنواع الإصلاح؛ فالمدرِّس يُضحي بوقته كله - لا الوقت الذي يقضيه في الفصل الدراسي مع المتعلمين فقط - بل ينبغي أن يكون وقته كله خارج الفصل الدراسي تخطيطًا لإنجاح عمله، فهو في بيته يفكر كيف يمكنه أن يمسك بيد متعلم متعثر وإكسابه ما يحتاجه من معارف ومهارات، وهو كذلك يخطِّط لدرسه ويَستحضِر متعلميه بين عينيه، ويرى رأي العين الفوارق الاجتماعية والنفسية بينهم، فيَعمل على تلاشي هذه الفوارق وتلبية حاجيات كل منهم ما استطاع، فيجعل من نفسه أبًا لمن لا أب له، وأخًا لمن لا أخَ له، ويحل مشكلاتهم، ويَنصحُهم، ويُوجِّههم من خلال ما له من تجارب في الحياة، وهو في حياته العادية يَستثمِر المواقف الحياتية من أجل أن يجعل منها وضعيات يَنطلِق منها في بناء درسه وترسيخه في أذهان متعلميه.

وهو في قسمه مع متعلميه لا يَكتفي بنقل ما في الكتاب المدرسي من معارف ومهارات جافة، بل يَنقلها ممزوجةً بالقيم والأخلاق الفاضلة، وكما هو معروف أن بعض الكتب المدرسية فيها من القيم والأخلاق الغربية ما فيها، خصوصًا في مواد اللغات؛ كمادة اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، فوجب على المدرِّس الذي يراقب ربه أن يبين ويوضح لهم أن هذه القيم تَتنافى مع قيم مجتمعاتنا، وأنها لا تَصلح لنا، فيُعوِّضها بقيم تتفق مع قيم المجتمع وأصالته، أو أن يغير موضوع الدرس بالكلية مع ما يتفق مع القيم الإسلامية؛ لأن من المرتكزات والثوابت الأساسية التي جاء بها الميثاق الوطني للتربية والتكوين "التربية على القيم"، كما أن وثيقة التوجيهات والبرامج خاصة بتدريس المواد تعطي الحق للمدرس ليُغيِّر أي درس رأى أن هناك ما هو أفضل منه، مع مراعاة بعض الشروط؛ فمراعاة المدرس للقيم في تدريسه وتلقينها للمتعلمين من خصوصيات عمله، فلا يَقتصر تلقين القيم على مدرس مادة التربية الإسلامية فقط، بل وجب على كل المدرِّسين كيفما كانت المواد التي يَدرسونها أن يُراعوا فيها القيم والأخلاق الفاضلة، وليس الأمر متعلقًا بالقيم فقط، بل وجب على المدرسين في زمن عبَدة الشيطان وإلحاد بعض المتعلِّمين وما يُروَّج من شبهات وأفكار مُنحرفة أن يعلم تلاميذه مبادئ العقيدة والعبادة الصحيحة، خصوصًا مدرسي مادة التربية الإسلامية.

وقد يَبدو للبعض - وخصوصًا من مارس مهنة التدريس - أن كلامي هذا مبالغ فيه، وأنه يصعب في كل الأحوال أن يجمع المدرس بين تلقين المعارف وغرس القيم والتضحية بوقته كله داخل الفصل الدراسي وخارجه، لكن أقول: إن هذه الشبهة تتبدَّد إذا قلت: إني أعرف مدرِّسين كان وقتهم كله لهذه الرسالة وتفكيرهم كله من أجلها، فلا كلام عندهم إلا في إصلاح التعليم، ولا همَّ عندهم غير همِّ إصلاح المجتمع بإصلاح المتعلِّمين، وقد رأينا دمعاتهم تحسرًا على ما وصل إليه مجال التعليم في زمننا هذا، أضف إلى ذلك أن من له رسالة في الحياة كرسالة الانخراط في إصلاح التعليم عن طريق التدريس؛ فإنه يهون عليه كل شيء، فمِهنة التدريس ليست لمن يَستسلم ويفشل ويقول: "الطريق الذي صار عليه الأولون نَسير عليه"، بل المدرس الناجح يُبدع ويجتهد ويبحث ويثابر ويزداد علمًا، ويُعَلِّم ما يعلمه ويعمل به ويُنمِّي قدراته ومهاراته، ويكوِّن نفسه، معنى اسم لين ويتواضَع لمُتعلِّميه ويسمَح لهم بتقييمه وتقويمه، ويحضر دروسًا مع غيره من زملائه وغير ذلك، فهو يقوم بكل شيء من أجل هذه الرسالة؛ إذ يدرك أن الرقيب الحقيقي على سلوكه بعد الله سبحانه هو ضمير يقظ ونفس لوامة، وأن الرقابة الخارجية مهما تنوعت أساليبها لا ترقى إلى الرقابة الذاتية، وهو كذلك صاحب رسالة يستشعر عظمتها، ويؤمن بأهميتها ويستصغر كل عقبة دون بلوغ غايته من أدائها.

إذًا نَختِم ونقول: إن مهنة التدريس هي أشرف المِهَن إذا كان صاحبها يؤديها على أكمل وجه، ويضحي بكل شيء من أجلها، ويجعل من المتعلمين الذين هم أمانة عنده أبناءه، يَنصحهم و يتابعهم ويرشدهم، أمَّا أن تكون هي مجرد مهنة عبارة عن حرفة من أجل الاسترزاق ومن أجل لقمة عيش فقط، فإن صاحبها جدير به أن يبحث عن مهنة أخرى تليق به؛ فالتعليم رسالة، ورسالة التعليم هي الإصلاح، فمن أرادها فعليه أن يأخذها بهذه المواصفات حتى لا يكون ممن جنى على التعليم مع من جنى عليه في مغربنا الحبيب دون أن يعلم.