يأتي شهر رمضان على الأمة العربية مغايرا لما اعتاده منذ عقود، بخلاف درجة الحرارة العالية، فإن هناك ربيعا عربيا سبق هذا الصيف، حيث أصاب الاحتباس السياسي المناخ السائد في بلاد العروبة فأشعله لهيبا، أصحاب عروش توزعوا بين منفى وسجن وقبو تحت الأرض ومستشفى، وثورات تبحث عن نفسها، قلقة من أن تكون قد هزت العروش لأجل لاشيء، وقد كانت البلاد بيد حاكم مستبد أفضل حالا من سفينة بلا ربان، يتغير الربابنة حسب ما يريده الجمهور، وحسب اختلافات أطياف أصحاب الائتلافات الذين يتناسلون كل يوم، ثورات خائفة أن تكون أسالت الدماء بلا فائدة، فرعون ذهب، وسيأتي آخر، والسياسيون لديهم الخبرة بما يكفي لتناسي دموع الأرامل والأيتام ودماء الشهداء وضحايا الفساد، ففي الأرض متسع لزعيم جديد سيجد من يعبده، ولفاسدين جدد سيعثرون على من يخدمهم.

زين العابدين بن علي يقضي أيام الشهر ولياليه في المنفى، وقد كان سيد قصور تونس العاصمة، الآمر الناهي على عرش ينعش هواءه البحر الأبيض المتوسط، تحيطه زخارف الدنيا من كل اتجاه، لن يجد في هذا العام الآلاف الواقفين على الأبواب يحلمون بشرف خدمته، وكل شيء "باهي" رغم أنف "السخونة" في الطقس الداخلي.

وحسني مبارك يتمنى الموت لو يدركه، وهو يستعد ليقف وراء القضبان سجينا، وقد كان في شهر رمضان الفائت الحاكم بأمره، يستعد لتوريث ابنه هذه الجمهورية العتيدة، بينما يزحف رجال الأعمال من المقربين ليتملقوا أكثر فأكثر، مانحين الهبات بما يفتح مغاليق القوانين، و"كل شيء تمام يا سيادة الريّس"، فهل تريد مالا أو عقارا أو حتى.. فتوى؟! وعلي صالح لا يزال يرى نفسه الزعيم الموحّد لليمن الذي لم يعرف السعادة تحت حكمه، خرج من فم الموت ليحاضر عن الشرعية والقانون، لم يخجل من الوقوف أمام الشاشات بآثار الحروق وكأنه لم يكن هو حاكم البيت الصنعاني الذي يلاعب الأفاعي اليمنية كل يوم فلا تقدر عليه، وكأنها تعبت من اللعبة فأنذرته وهو في أعز مكان لديه.. في مشفاه البعيد عن الديار سيتذكر روحانيات الوطن إذ تطير حمائم السلام فوق سماه، لكن خيوط اللعبة اليمنية تعقّدت فوق قدرة صالح على استيعابها، وتعب الشعب اليمني من وعود لا واقع لها، والمشهد الأخير بدا جليا في المسلسل اليمني الطويل الممل، حيث يظهر صالح في الحلقة يتلاعب بأصحاب المبادرات من أشقائه الخليجيين.

وهناك الزعيم القديم، رجل الخطابات المضحكة، القذافي، لن يتذوق أطايب طعام الإفطار الرمضاني تحت خيمته، اهتزت أوتادها بضربات الناتو، وأصبح يحكم عاصمته طرابلس "وما جاورها" بحيث لا يطالب المؤذن بقية المدن أن تفطر مع مراعاة فارق التوقيت بينهم وساعة صاحب الكتاب الأخضر.

بيننا من يرى أن شهر رمضان يحل على المفكرة العربية هذا العام أفضل حالا، حيث الديكتاتوريات ترنحت وتساقط بعضها ويوشك الآخر على الوقوع، لكن مدافع الإفطار عادت إلى الظهور لتقصم الظهور، ولن يفطر اليمني والليبي والسوري على صوت المدافع؛ لأنها مدافع شيطانية لا تحمل روحانية الصيام، بل واقعية الموت، إذ تسقط القذيفة على بيته فتأتيه لحظة الإفطار ربما جثة متمزقة، أو باكٍ على قريب أو صديق، أو أقلها محترق على ما أصبح عليه وطن كان يفترض به أن يكون مساحة أمن وحرية، لولا أن الحوار في العصر العربي يكون بين القذيفة واللحم الحي، والمواطنون ليس إلا جرذانا أو حشرة أو خائن.