الأمــــل والعـزيمــة

إن الشخص الذي أثر بحياتي ليس ملكا أو وزيرا أو عالما فلكيا ، إنه إنسان فقير ،علمني حب الخير ،وحب العمل ،وحب الناس ،علمني بألا يركن الإنسان إلى اليأس مهما كانت شدة إعاقته ...........

الشيـخ سـالـم الأعـمـى

هكذا أسمته قريتنا، لم يتجاوز عمره الأربعون عاما، طويل القامة، نحيل الجسد، أعمى البصر منذ ولادته، هذا ما سمعته عنه من أمي وأبي.
في قلبه كتاب من العلم والمعرفة وقدر كافي من الحكمة والموعظة، فقير الحال رث الثياب، ليس له عائل سوى الناس، ماتت أمه قبل أعوام وسبقها أباه قبل عدة أعوام.
أراه كل يوم في سبلة المسجد من بعد صلاة الفجر حتى بعد صلاة المغرب وقد قسم وقته لثلاثة أقسام، منها ثلاث ساعات للأطفال يعلمهم قراءة القرآن والتجويد ،وساعتان للنساء يعلمهن السيرة الصالحة لأمهات المؤمنين ويفقههن في الدين، وثلاث ساعات للرجال لمن أراد أن يتعلم تفسير القران ، ثم يذهب إلى بيته يقوده طفلا صغيرا يوصله إلى بيته قد أطلق عليه لقب جاري الصغير.
ذات مرة، أخذني الفضول كي أغوص في أعماق قلب ذاك الشيخ، علني أجد منه شيء ينفعني وأكشف سر حياته الغامضة، فقررت في نفسي لقائه اليوم التالي.
نهضت وقت أذان الفجر، ذهبت للمسجد أصلي وأؤدي واجبي تجاه ربي، فبعدما فرغت من الصلاة ،أنتظرت المصلين كي يغادروا المسجد، فذهبت إلى الشيخ سالم كي أسلم عليه وأقوده إلى السبلة ، جلست أمامه فشعر بي، فقال: السلام عليكم ورحمة الله ورددت بمثلها ، قال لي بتواضع : هل تسمح ياابني أن تقودني إلى السبله ؟ قلت له :نعم ياعمي سمعا وطاعة فأخذته إليها وأقعدته في مكانه المفضل الذي تعود أن يجلس فيه كل يوم فهو على موعد مع الصغار بعد نصف ساعة لتعليمهم قراءة القران، لقد حفظ القران وهو أعمى فسبحان الله .
جلست أمامه بعد أن أعددت له متكئا فسألته ؟
أيها الشيخ هل تمنيت يوما أن تكون من الأغنياء ولماذا لم يتركا لك والديك المال رغم انك وحيدهما ؟ولأنني أرى الأغنياء عظام في شأنهم وأنت لديك العلم والمعرفة فلم لاتكملهما بمال؟
بعدها توجست بما يشبه القشعريرة من أعلى رأسي حتى أخمص قدماي ، لقد رأيت أمواج عالية على جبهته من شدة غضبه وانفعاله علي ، أحسست بأنني قد سببت له الم حاد بقلبه فلممت شتات خوفي وانطلقت مني كلمة اعتذار بحقه فقلت له : لم اقصد الإهانه ولم أكن أنويها.
بعد لحظات أحس بصغر عقلي فخمدت البراكين بقلبه واختفت الأمواج من على جبهته فقال يا بني: من العجز أن يزدري الإنسان نفسه فلا يقيم لها وزنا ، وأن ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظر الجبال الشاهقة وبأن الأغنياء بالنسبة له هم العظماء والفقراء نمل يمشي ويكدح لتوفير لقمة العيش ، ثم هز رأسه وكأنه يؤكد لي الشيء بأنني من هؤلاء الناس ،فاستطرد قائلا وأنا منكسا رأسي أسمعه، يابني: إنني أغبط الغني في صفات معينه.
أغبطه إن رأيته يشبع الجائع ويواسي الفقير ويعود المريض ويمسح دمع الطفل اليتيم والفقراء المساكين الذين سلبهم الدهر أباهم ورزقهم فبقوا صفر اليدين يمنعون أنفسهم مد اليدين وسؤال الناس عن عمل فلا يجدوه ، وأنقم عليهم عيشتهم إن رأيتهم يتربصون بالفقير فيدخلون عليه مدخل الظالم الجبار فيسلبونه ماله وعرضه في مصيبة هم أوقعوه فيها، فلا يجد منها مخرجا سواهم ، وأنقم عليهم إن باتوا في بيوتهم متخمين بالأكل فيرمون الباقي وأعين الفقير تراهم فلا يعطونه منه حتى القليل.
وإنني أأسف على حال الفقير إن رأيته يتخذ الغني ربا له فيقيم له وزنا ولماله دينا ويكّبر من شان الغني في عيون أطفاله ، وإنني لأمقته إن رأيته قاعدا في بيته ينعت الحظ ويلعن القدر ويرسل العبرات أمامهم وقد بلغ صغر النفس قلبه على حاله ، فلو علم بأن الأغنياء يتمنون سعادة الفقير لما ندب حظه .
نظرت إليه نظرة إعجاب فوقع بصري على عصاه التي كان يتكئ عليها في جلسته تهتز فعرفت إنه غاضب من شيء لا أعلمه !!!
قلت: ما بك أيها الشيخ هل ما زلت غاضبا مني ؟
رد علي بصوت ممزوج بغضب مع حزن: لقد سألتني لماذا لم يتركا لك والديك المال وأنت وحيدهما سأخبرك بقصتي عسى أن تنفعك.
عندما كنت صغيرا كنت أسمع بكاء أمي وأسمعها تقول لماذا أيها البشر ؟ أردنا الحياة فلم نجد طعام يومنا، عملنا لأجلها فجعلتموها ضدنا، خلقنا نأكل من رزق الأرض فجعلتم العذاب يأكلنا، هل خلقت الأرض لكم لتحكمونا بالظلم أم هذا هو قدرنا؟
لم أكن افهم معنى هذه الكلمات حتى كبرت فسألت أمي عنها فلم تجاوبني بشيء حتى لا تبث بقلبي اليأس والحزن عليها، وأبي رجل مشلول لا يقوى على العمل هو أيضا لم يخبرني عنها، حتى جاء يوما أخبرني رجل من القرية عاصر أبي وأمي في ذاك الزمان ،بأن أبي كان كريما ومخلصا بعمله فقد كان يعمل مزارع عند رجل ثري ظالم، قضى معظم شبابه في خدمته إلى أن جاء يوم كان أبن ذاك الثري يتسلق النخلة ولم يستطع النزول منها فتسلق أبي لينزله ، لكن الطفل سقط قبل أن يصل إليه أبي فامسك به ليسقطا معا على الأرض ليضل ساكنا ممدا طوال عمره بعد أن كسر ظهره ،فكافئ الثري أبي بطرده من العمل بعد أن حمله المسؤولية الكاملة لتبدأ معاناة أمي في البحث عن عمل كخادمة بأحد منازل الأثرياء حتى وجدت ضالتها .
لقد عانت من المر سنوات في ذلك البيت فعشقت العذاب تلو العذاب ولم يعد للسعادة مكان بقلبها ولم تعد تشتاق للراحة كشوقها لي ولأبي حينما كنا من المنسيين في تلك البلاد إلا على المتصدقين وذوي القلوب الرحيمة.
أمرأة زادت قسوة الدنيا عليها وزادها القدر بمصيبتين، زوج مشلول وأبن أعمى لا يقويان على شيء سوى زيادة الحمل عليها وزيادة معاناتها كل يوم.
عندها فهمت معنى كلماتها وصدق معانيها المؤلمة التي باح به قلبها لعينيها اللتان لم تجدا سوى البكاء لتخفيف حزنهما معا.
سالت أمي وأبي يوما عن الحياة ؟
قالت أمي :هي قاسية على الفقراء حنونة على الأغنياء .
قال أبي: إنها تغني لمن يسمعها وترقص لمن يغني لها.
فرددت عليهما والغضب قد فجر مابداخلي : إن الحياة تعطي من يعطيها وتقتل من يفر منها .
فقالت أمي: يا بني لقد منّ الله عليك بنعمة العمى حتى لا ترانا نقاسى وحتى لا ترانا نبكي فتحزن علينا، ثم أمسكت بيدي فوضعتها على خدها وقالت تحسس فماذا ترى ؟
ساد صمت مخيف بيننا وأمي تنظر إلي فترى معالم الحزن قد ارتسمت على وجهي لأول مرة بحياتها ، فأنزلت كفي من على خدها ووضعتها على ظهر يدها وقلت لها : لقد لعبت قسوة الدهر بوجنتيك وحفر الزمن عليهما نقوش من التعب لأجلنا ، لقد حان وقت راحتك وحان وقتي لأبحر في هذه الحياة فإما أن اقتل قسوتها فأعيش كريما أو أن تقتلني بقسوتها فأعيش ذليلا.
لقد رأت أمي بوجهي الأمل ورأى أبي شبابه بداخلي ، لقد قادني الأمل إلى الحكمة وقادتني العزيمة إلى السمو في العلم فأصبحت أبحث عن العلم في كل مكان حتى وجدته فسقيت به نفسي وحفظته بداخلي لأهلي وناسي وقريتي ، فأصبحت شابا يفوح العلم من فمي مسكا أعطر به مجالس الناس وأسقي من ينابيع علمي أبناء الفقراء الذين لم يتخلوا عني بأوقات العناء ،فلا الفقر يخجل الإنسان ولا المال يشرفه ولا يعيب الإنسان إلا خطيئة يناوب عليها أو فعل مشين يداوم عليه .
لقد ضللت أجمع شمل الناس فنسيت جمع شملي حتى جاءتني أمي يوما تطلب مني جمع شملي بأمرأه تكمل معي مشوار حياتي بعد أن من الله عليها وجزاها على صبرها الطويل الذي عاشته لتنشئني وتربيني على طاعته، ولتلبية رغبة أبي الذي لم يكمل معنا المشوار.
وافقت على رغبتها لكن النساء رفضن رغبتي بسبب بصري فبقيت بدونه حتى نبت على راسي الشيب .
قال لي: يا بني عشت فقيرا لكنني غني بحب الله والناس، ثم رفع رأسه للأعلى فقال:هي الأقدار تفعل ماتشاء ويبقى وجه ربك ذا الجلال والإكرام ، أخذ يكرر هذه العبارة حتى دخل أطفال القرية السبله وامتلأت بهم، فبدءوا يرددون القراءة خلفه.

(صمتي الم )

ارجو بان لاتبخلو علي بانتقادكم لاني اشق طريقي نحو الابداع