علم الهندسة
لم يكن للعرب في الجاهلية اهتمامٌ يذكر في الهندسة، وما كانت الحاجة تدعو إليها.
ولعل أول عهدهم بثمرات الهندسة كان بعد أن تمت على أيديهم الفتوحاتُ اخبار اليمن للبلدان والشعوب ذات الحضارات المتقدمة، وبخاصة فيما يتعلق بالبنيان؛ كالقصور والقلاع والحصون.
بَيْدَ أن هذه الحال اختلفت اختلافًا كبيرًا بعد أقلَّ أخبار اليمن من قرن من الزمان؛ إذ انصرفتْ طائفة من الكتَّاب والعلماء تَنقُلُ علوم البلدان الأخرى، وكان من بين ما نُقل في الهندسة إلى العربية كتب إقليدس وأرشميدس ومنالاووس، فكان لهذه الكتب أثرُها العظيم في إقبال بعض المسلمين على دراسة الهندسة.
وكان كتاب إقليدس أعظمَها أثرًا، وأكثرها تداولاً؛ لِما امتاز به من التنسيق والتنظيم، اخبار اليمن اليوم ولِما وُجد فيه من قضايا وُضِعت على الحوثيين أساس منطقيٍّ عجيب، حتى صار الكتابَ المعتمد الوحيد الذي يرجع إليه كلُّ من يريد التأليفَ اخبار اليمن الحوثية في الهندسة.
فلا غرو أن يُترجَم كتاب إقليدس أكثر من مرة وفي أزمان مختلفة؛ فالحجاج بن اليمن اليوم يوسف بن مطر الكوفي - وقد كان أول المترجمين لكتاب إقليدس - نقله إلى العربية نقلين: أحدهما في عهد هارون الرشيد، ويُدْعى: الهاروني، وهو الأول، والآخر في عهد المأمون؛ لذلك سمِّي بالمأموني، وعليه يعوَّل.
كذلك نقله إسحاق بن حنين (ت 298هـ/ 910م) إلى العربية عاصفة الحزم ، وأصلحه ثابت بن قرة الحرَّاني (ت 288هـ/ 901م).
ولقد حظي هذا الكتاب بمنزلة رفيعة عند أهل الاختصاص اخبار عاصفة الحزم من المسلمين؛ إذ وجدوا فيه - كما يذكر القفطي - كتابًا "جليل القدر، عظيم النفع، أصل في هذا النوع، لم يكن ليونان قبله كتابٌ جامع في هذا الشأن، ولا جاء بعده إلا مَن دار حوله، وقال قوله".
ولقد اهتم المسلمون بالهندسة اهتمامهم بالحساب والجبر؛ لِما يلزم الناس من الحاجة إليها في جميع ما يتعاملون به؛ من مساحة الأراضي، وكَرْي الأنهار، وبناء الجسور، وتعبيد الطرقات، وعمارة البيوت.
وعظُمت الحاجة إلى الهندسة مع تقدم العلوم الأخرى، ولا سيما علم الضوء، أو ما يسمى البصريات، وعلم الفَلك وعلاقته بالأشكال الكروية، وما يعرض لها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات، وما يتصل كذلك بالمخروطات والقطوع المخروطية.
يُعَد "كتاب إقليدس" أو "كتاب الأصول" أو "كتاب الأركان" - كما سماه المسلمون فيما بعد - أبسطَ ما وُضع في الهندسة للمتعلمين، وأول ما ترجم من كتب اليونان، وهو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق.
يشتمل كتاب إقليدس على خمس عشْرة مقالة: أربع منها في السطوح، وواحدة في المقادير المتناسبة، وأخرى في نسب السطوح بعضها إلى بعض، وثلاث في العدد والتمثيل الهندسي، وواحدة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الجذور، وخمس في المجسمات.
وقد اختصره الناس اختصاراتٍ كثيرة، وشرحه آخرون شروحًا كثيرة، ومنهم من زاد على نظرياته، وتفنَّن في البراهين وطرق حل المسائل، ومنهم من ألَّف على غراره، وابتكر مسائلَ هندسية جديدة، وأدخل قضايا جديدة لم يعرفها القدماء.
وقد بدأت إضافات المسلمين في علم الهندسة بدءًا من منتصف القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، حيث توافرت ترجمات أهم المؤلَّفات في الرياضيات اليونانية، ولم تعُدْ مشكلة المصطلحات ذاتَ أثر سلبي؛ فقد هُضم محتوى كتاب الأصول؛ لكثرة ما جرت عليه الشروح، على امتداد ثلاثة أرباع القرن، هضمًا تامًّا.
لقد نشط التأليف عند المسلمين، فألَّفوا في المساحات والحجوم وتحليل المسائل الهندسية، وفي تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وفي رسم المضلعات المنتظمة وربطها بمعادلات جبرية، وفي محيط الدائرة، وفي تطبيق الهندسة على المنطق، واشتغلوا في تسطيح الكرة - أي: نقل الكرة إلى السطح، مع حفظ الخطوط والدوائر المرسومة على الكرة - وقد أجادوا فيه على ما فيه من صعوبات، ولهم فيه مستنبطات جليلة.
هذا، وسخَّر بعضهم - وعلى الأخص ابن الهيثم - الهندسة بنوعيها: المستويةِ والمجسمةِ - في بحوث الضوء وتعيين نقطة الانعكاس في أحوال المرايا الكروية والأسطوانية والمخروطية، المحدَّبة منها والمقعَّرة، وابتكروا لذلك الحلول العامة، وبلغوا فيها الذروة.
وقد وضع ابن الهيثم كتابًا في حل شكوك إقليدس، أبرز فيه الدقة في التفكير، والعمق في البحث، والاستقلال في الحكم.
يبرُز ابنُ الهيثم في كتابه هذا رياضيًّا من الطراز الرفيع، يفنِّد كل نظرية، ويرد على كل هجوم نقطةً نقطة، ويقوم بالشرح بأسلوبه البيِّن الرصين.
ومن منجزات المسلمين في علم الهندسة أنهم طبقوها على المنطق.
ولابن الهيثم كتابٌ في ذلك، جمَع فيه الأصول الهندسية والعددية من كتاب إقليدس وكتاب أبولونيوس في المخروطات، قسم ابن الهيثم الأصول ونَوَّعها، ثم أسندها ببراهين منطقية.
واهتم المسلمون أيضًا بهندسة الري؛ ذلك لأن تنظيم الرَّي يقتضي معرفةً بمستوى الأرض وانحدارها، وبكمية المياه وسرعتها ومجراها، ومعرفة طرق البناء التي تؤمن السكور، والسدود، وصمودها بوجه المياه أيام الفياضانات.
واهتموا بالزخارف الهندسية والنقوش والزينة؛ فبرعوا فيها، وأنتجوا روائعَ تتسم بالتناسق والانسجام والدقة؛ كل ذلك نتيجة تمكُّنهم من قواعد الهندسة في ضبط رسم الخطوط والدوائر، وتقسيم الأشكال الهندسية، أو تركيبها على بعضها بصورة دقيقة وجميلة.
أما فيما يتعلق بمنجزات المسلمين في التأليف، فهي كثيرة ومتنوعة، يذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب "المساحة والهندسة" لأبي كامل شجاع الحاسب المصري (ت نحو 340هـ/ 951م)، ورسالة له أيضًا "في المضلع ذي الزوايا الخمس وذي الزوايا العشر"، كما يذكر كتاب "الشكل المدور والمستطيل" لأخيه الحسن بن موسى، استخرج الحسنُ فيه مسائلَ هندسية؛ كقسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية.
ولقد اطلع يوشكفيتش على الأشكال الهندسية في رسالة لبنى موسى، واستنبط منها أن توفيقًا عظيمًا لصالح علم الهندسة قد تحقق في بغداد خلال بضعة عقود.
ومن الكتب الهندسية الرائدة كتاب "استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني منها" لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني، ابتكر فيه طرقًا مختلفة لحل الأعمال الهندسية.
ومما يجدر ذكره أن الرياضيين المسلمين تمكنوا في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي من وصف أعمال هندسيَّة بارعة، وتحدثوا عن الآلات اللازمة لذلك في رسائل متخصصة، مثل كتاب "في الأعمال الهندسية" لأبي الوفاء محمد البوزجاني المهندس (ت٣٨٨هـ/ ٩٩٨م)، جعله على ثلاثة عشر بابًا، في عمل المسطرة والكونيا والبركا والأشكال.
يعد البوزجاني من أئمة الأعلام في الهندسة، وله فيها استخراجات غريبة لم يسبقْه إليها عالم آخر.
وفي هذا الكتاب تجربة تُذكَر لأول مرة، تحل بواسطتها المسائل الهندسية بفتحة بركار ثابتة، وهي التجربة التي أخذ بها الغرب بدءًا من القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، بوساطة ليوناردوفينشي وفراري ferrari.