لقد أرسل الله سيدنا نوحاً عليه السلام إلى قومه فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ،أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } سورة هود(25ــ27).
إن دعوة سيدنا نوح عليه السلام أو أي رسول من رسل الله الكرام، هي توجيه الناس نحو عبادة الله، خالقنا الذي لا إۤله إلا هو، وتلك كلمة باقية إلى يوم القيامة، وتلك خير ما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين، وتلك هي الغاية التي خلقنا من أجلها. أما الغاية من عبادتنا له، فهي ليس كما يدعي البعض بأن الله يتباهى أمام ملائكته، فسبحانه وتعالى عن مثل هذا الوصف. وإنما الغاية هي تزكية الأنفس، وتطهيرها مما علق بها من الشوائب، ذلك لأن تزكية الأنفس لا تكون إلا بالصلة بالله وبالصلاة، وبعبادتنا لله، التي تعني الطاعة التامة، والاستسلام المطلق لأوامر الله، حيث تكتسب الأنفس المطيعة الثقة برضاء الله عنها، وبتلك الثقة تتوجه الأنفس من غير خجل، أو من غير حجاب يحجبها عنه فتصبغ النفس بإقبالها على الله بصبغة الكمال: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} سورة البقرة(138)، وبذلك الإقبال والصلة بالله والصلاة، تمحى من النفس شوائبها وذنوبها، وتحل محلها الفضائل، وتلك الفضائل التي اكتسبها الإنسان من الله، تصلح سريرته، ويصلح عمله، وإذا صلحت الأنفس، صلحت الأعمال، وبالتالي صلح المجتمع. وإذا صلح المجتمع، فكيف لا يعيش أفراده في سعادة وهناء؟. من أجل ذلك طلب إلينا تعالى أن نتمسك بشريعته، لكي نعيش سعداء في الدنيا والآخرة.
لقد بلَّغ سيدنا نوح عليه السلام ما أوحي إليه من ربه، ولاقى من الذين كفروا من قومه مثل ما لاقى غيره من الرسل فقالوا: {... مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } سورة هود(27). وهذا الإنكار على الرسول، هو الذي يمنع الناس من الإيمان بالله.
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً} سورة الإسراء(94). وهذا الإنكار إنما يرجع إلى عدم رؤية كمال الرسول الكريم لذلك: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} سورة هود(28).
كذلك اعترضت قريش على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الاعتراض: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} سورة الزخرف(31).
والسبب في هذا الاعتراض هو وكما ذكرنا عدم رؤية كمال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما شاهدوا عظمة الرجال بالمال أو الجاه، وبمعنى آخر إن معظم الناس تنظر إلى ظواهر الأمور دون البحث في حقيقتها.
لقد بيَّن سيدنا نوح عليه السلام ما لقيه من قومه من إعراض، بالرغم من دعوته المتواصلة ليل نهار، إسراراً وإعلاناً، ومع ذلك فإن دعوته ما كانت لتلقى آذاناً صاغية من قومه، بل جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأصروا على كفرهم إصراراً، واستكبروا عن سماع الحق استكباراً، فقد بين لهم رسولهم كيف أن الله تعالى خلقهم أطواراً، وكيف خلق الله سبعَ سموات طباقاً، وجعل القمر فيهن نوراً، وجعل الشمس سراجاً، وكيف حثهم على التفكر فيما ذرأ الله في الأرض من كل دابة، وما أنبت من كل زوج بهيج.
ولكنهم وبدلاً من أن يلتفتوا إلى ما دعاهم إليه، راحوا ينظرون إليه نظرة استغراب وتعجب، بل نظرة استهزاء خفي وتكذيب. وما رأوه إلا بشراً مثلهم، نظروا في صورته فلم يروا سمو حقيقته، أعمى قلوبهم حب الدنيا ولم يلتفتوا للموت، فاستحبوا حياة الفناء، وعزفوا عن البقاء الأبدي. وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونفنى وما نحن بمبعوثين، فأنكروا البعث وأشاحوا عن الإۤله، بل إنهم رأوا أنه ما اتبعه إلا الأراذل منهم، الذين ليس لهم قيمة اجتماعية (بنظرهم الأعمى)، ومن أنه عليه السلام فرد، وحيث أنهم لا يستطيعون إنكار شأنه وسيرته العالية ومنطقه، استكبروا وما آمنوا، وما منعهم من الهدى: {... إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً} سورة الإسراء (94).
فإذا لم ينظر الإنسان إلى خلق السموات والأرض، ويسلك طريق التفكير الذاتي حتى يؤمن بالله، وحتى تطهر نفسه من الخبث بالصلة بالله، فلن يعرف الرسول ولن يؤمن به وبدعوته أبداً. ذلك لأن الكمال يظلُّ مستوراً عنه، ولم يبق أمام عينيه إلا صورة الرسول أو شكله، فلا يعرف حقيقته عليه السلام.
قال تعالى: {...وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} سورة الأعراف(198): حقيقتك.
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} سورة الفرقان(7): يتخيل تخيلات، نظرهم للدنيا، وظنوا أن المال والأملاك خير للإنسان ودليل عظمته ورضى الله عليه.
ولذلك، فلا عجب إذا لبث سيدنا نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ولم يؤمن معه إلا قليل.
ولو بقي فيهم إلى يوم يبعثون، ما كانوا ليؤمنوا، إلا إذا سلكوا القوانين التي رسمها تعالى لهداية الناس، عندها يفتّح الله بصائرهم بالتقوى، فيستنيروا ويَسعَدوا ويُسعِدوا البشرية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان الله عز وجل : {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة الأنعام(114ـ115).
تلك سنن وقوانين، إذ لا يمكن لنفس أن تؤمن إلا بسلوكها التفكير الذاتي المقرون بنيَّة البحث عن الحقيقة واكتشاف وجود الإۤله المسير المربي الخالق من ثنايا صنعه تعالى، فإن لم يؤمنوا بالله ويعملوا صالحاً، فلن يؤتوا الكتاب، الذي هو صبغة الله التي تصبغ الأنفس بالحق والكمال، ولن يكون القرآن، أو أي كتاب أُنزل على رسله آيات بينات في صدورهم، بل يظل عليهم عمى، وتظل أعمالهم السيئة حائلاً دون فقهه، ولن تنفعهم لغتهم كذلك، ولا قربهم الزماني من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن هذا القرآن كتاب مكنون في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، قصة سيدنا نوح ولا يمسُّ معانيه الرفيعة إلا المطهرون، المطهرة قلوبهم عن أدران الدنيا الدنيّة ومعاصيها المهلكة.
لقد لبث سيدنا نوح عليه السلام في قومه ذلك الدهر الطويل، ولكن وبالرغم من طول هذه الفترة التي قضاها بينهم، لم يؤمن معه من قومه إلاَّ القليل، فأنذرهم إن ظلوا معرضين من عذاب أليم سيحل بهم، فأجابه الذين كفروا من قومه: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} سورة هود(32):إن كنت صادقاً فلينزل البلاء علينا، لا نريد ترك ما نحن فيه.
لقد تألم عليهم، وتألموا منه، وناح عليهم وسخروا منه، وأنذرهم بالهلاك فاستهزأوا به، وبين لهم سخف معتقدهم فمكروا به. عندئذ دعا ربه: {...أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} سورة القمر(10)، أي: ربِّ أيدني بحجج أُخرى مقنعة علّهم يغيروا ما بأنفسهم فيهتدي بها قومي، فبيّن له تعالى أنه لا فائدة تُرجى منهم، وأن كؤوس نفوسهم قد أترعت بالفساد، ولن يطلبوا الهدى ولن يؤمنوا، فلا فائدة ترجى منهم، وكانوا قوماً بوراً، وأوحى إليه أن يصنع الفلك بوحي منه، لأن القوم قد استحقوا الهلاك، ولم يبق أي أمل يرتجى من إيمانهم، وقد أصبحوا ولا خير فيهم.
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا} سورة نوح(25).
وقبل أن نختم الكلام عن قوم سيدنا نوح عليه السلام نريد أن نلفت النظر إلى ناحية هامة، وهي أنهم قالوا أن سيدنا نوحاً عليه السلام دعا على قومه بالهلاك، بسبب سخريتهم منه وأنها خطيئة، والحقيقة هي أن سيدنا نوحاً عليه السلام، لم يدع على قومه بقوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} سورة نوح(26). إلا من بعد أن أوحى إليه ربه بأنه لن يؤمن معه إلا من قد آمن. فمن حنانه عليه السلام لما أخبره تعالى أنهم لا يمكن أن يؤمنوا، طلب لهم الهلاك، كرجل له قريب عزيز مريض يتألم لا يمكن شفاؤه يتطلب له الموت كي يخلص من آلامه، وكذلك سيدنا نوح عليه السلام طلب لهم الهلاك بعد وحي الله له أنهم لن يؤمنوا ليقلَّ شقاؤهم، حيث أنهم لن يزدادوا إلا ضلالاً وكفراً وعناداً، فالموت إيقاف لشرورهم التي تكويهم بنارها في الآخرة.
قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ... }: لما طلبوا الهلاك: {...أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ... }: لا جدوى لهم: {... فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}: لا تحزن ولا تتألم من عدم اهتدائهم: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا... } : نراك ونلهمك. {...وَوَحْيِنَا...}:دلالتنا: {...وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ... }:لا تتوسط في دفع البلاء عنهم ولا تترجى فيهم . بعد أن دعاهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً , لما امتنعوا عن الإيمان والطاعة، حقّ عليهم الهلاك ، لكن سيدنا نوحاً عليه السلام رغم معارضاتهم له، كان يتمنى هدايتهم: {...إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} سورة هود(36ــ37): لا بدَّ منها.