طفل من القدس
الساعة السادسة صباحاً في مدينة القدس الشريف، استيقظت أم ساجد مذعورة على دقات الساعة قائلة: يا إلهي!! ربنا يستر..
- ماذا حدث؟ سألها زوجها.
- كابوس!!
- الحمد لله أنك كنت نائمة، لا تقلقلي.. اذهبي وأيقظي الأولاد: رد عليها زوجها مهدئاً من روعها.
كانت أم ساجد قلقلة للغاية، سارت إلى حجرة أبنائها وهي تهمس بعبارات غير مفهومة.. أيقظت أبناءها ساجد وعماد للذهاب إلى المدرسة.
قام ساجد نشيطاً في هذا اليوم، متهلل الوجه.. وبعد أن تناول الأخوين فطورهما سلما على أبويهما كالعادة، ثم انطلقا مسرعين للمدرسة.. أوصل ساجد أخاه الأصغر عماد، ثم تابع سيره إلى مدرسته الإعدادية التي يفصلها عن البيت حاجزين للاحتلال الإسرائيلي.. عليه أن يجتازهما كل يوم.
عندما اقترب ساجد من الحاجز الأول.. شعر بدقات قلبه تتسارع، للمرة الأولى يشعر بهذا الشيء..رأى الناس كباراً وصغاراً مصطفين بانتظار دورهم للعبور.
بدأ يشعر بالقلق من جديد، لم يتبق على موعد المدرسة إلا دقائق معدودة.
- أووف.. متى يأتي دوري؟ أخذ يهمس لنفسه.
وفجأة وبينما يتحدث مع نفسه متذمراً مما يحدث له ولأهل مدينته كل يوم..
صرخ أحد الجنود الإسرائيليين: عودوا جميعا لن نفتح الحاجز في هذا الوقت.
صرخ الناس جميعاً، وتدافعوا يريدون الدخول بقوة.. لكن طلقات النيران سرعان ما صوبت تجاههم..فهرعوا عائدين للخلف، داعين بأن ينتقم الله لهم.
كبقية الناس..لم يكن أمام ساجد إلا العودة إلى بيته.
- لم كل هذا العذاب؟ وإلى متى؟ دروسي تضيع..ماذا سأفعل يوم الامتحان؟! علامات استفهام وغضب كثيرة تدور في ذهن ساجد..
سار إلى بيته.. يحمل حقيبته تارة على كتفيه، وأخرى بيده..وبينما هو غارق في التفكير بما حدث معه.. سمع أصوات تكبير تتدافع كلها نحو أذنيه.
- لا بد أن شيئاً ما حدث!! ربما أسر الجنود أحد الشباب كعادتهم: همس لنفسه.
أخذ يسرع الخطى ويلهث.. شعر بثقل الحقيبة.. أنزلها من على كتفيه ووضعها عند محل بقالة.
أسرع وكاد أن يقع أكثر من مرة.. اقترب من البيت، زاد الصراخ والتكبير.. لم يتحمل أكثر من ذلك سأل أحد الرجال القادمين من شارع بيته: ماذا حدث يا عمي؟
- رد عليه وهو يهز برأسه: لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
أنفاس ساجد بدأت تتقطع..قفز من على الحائط المجاور لبيته..شعر بأن رأسه يدور..بصعوبة التقط أنفاسه ليسأل.. لكنه صدم بقوة..
رأى نفسه محاطاً بركام.. نظر حوله لم ير أحدا.. وجد جرافة ضخمة تقترب منه كادت أن تهدم عليه ركام البيت..وضع كفيه على عينيه
- لا ..لا : صرخ بأنفاسه المتقطعة.
انتبه الناس المتجمهرون إلى مصدر الصوت.. أخذوا يبحثون هنا وهناك .. وجدوه أخيرا.. أمسكه أحد الشباب ودفعه بعيداً عن بقايا الجدر المتهالكة.
- اتركوني.. لن أتحرك من هنا.
- لا تدعوه يكفي أبيه!! قال أحد الرجال.
كلمة أبيه رنت في أذنيه..شعر بأن الدنيا تظلم في عينيه.. حمله أحد الشباب بقوة، وأخرجوه أمام البيت.
رأى ساجد حشودا من الناس.. أطفالاً ونساءً، رجالاً وشيوخاً..كلهم تدافعوا لإنقاذ البيت..
لم يدر ما يفعل..سرعان ما اخترق صفوف الناس..
- أبي، أمي .. أين أنتم؟!
لا أحد يجيبه..لم يسمع منهم سوى: لا حول ولا قوة إلا بالله.
عينه باتجاه بيته الذي يتهاوى..وعينه الأخرى تبحث عن أحب الناس إليه..
بقي على حالته دقائق.. لم يجرؤ أحد من الناس أن يخبره بما حدث.
قرر أخيراً أن يسأل أحد الأطفال من جيرانه..
- أين أبي وأمي؟ ولم يسأله عن البيت.
- أبوك.. الله يرحمه وقع عليه البيت: قالها الطفل بنبرة حزينة.
ترك ساجد المكان بمجرد سماعه الخبر.. انطلق سريعاً باتجاه المستشفى
لم ينتظر أحد ولم يسأل أحد.. اتجه نحو ثلاجة الموتى، الأطباء يمنعونه بقوة..
- أبي، أبي.. أريد أن أراه فقط..لا تقلقوا أنا شجاع.
سمحوا له أخيرا.. نظر ساجد إلى أبيه بعينين دامعتين.. مسح بيده على جبينه: قسماً يا أبي لأنتقم للقدس، وسأبني البيت من جديد..
ذرفت عيناه بالدموع.. أبعده الأطباء.. حاولوا إخراجه من المكان.. التفت باتجاه جثمان أبيه قبل أن يغادر: إلى الملتقى يا أبي في الجنة!!

للمزيد