السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته

مقالةٌ لـ الدكتور ميشيل حنّا


إذا كنّا نعاني دائماً من غزو التراب لبيوتنا، واضطرارنا للقيام بعمليات التنظيف المرهقة على فترات متقاربة، فالمفاجأة هي أن الفضاء الذي نتصور أنه مساحة شاسعة من الفراغ به الكثير من التراب هو الآخر، الكون نفسه مليء بالتراب! لن تستطيع الهرب من التراب سواء في الأرض أو في السماء، والإنسان نفسه مخلوق من التراب، فنحن من التراب وإلى التراب سنعود يوماً ما.

يتراوح حجم حبة التراب بين بضعة جزيئات لا ترى بالعين المجردة، إلى نحو 0.1 ملليمتر مكعب، وحبيبات التراب غير منتظمة الشكل، وتتفاوت في الصلابة بين الهشاشة الكبيرة إلى الصلابة العالية. ويصنف التراب في الكون وفقاً لموضعه، فهناك مثلاً تراب بين كوكبي _أي تراب يوجد في الفراغ بين كوكبين، وتراب بين المجرات، وتراب بين النجوم، وتراب يدور حول كوكب معين، وتراب يدور حول نجم في سحابات وهكذا. وتختلف خواص التراب وفقاً لأصله. دائما ما كان التراب أحد مصادر الإزعاج الأزلية للفلكيين، لأنه يجعل الرؤية غير واضحة فلا يمكنهم من تبيان تفاصيل الأجرام التي يراقبونها إذا تصادف وجوده بينهم وبينها. وهناك في الكون سحابات من التراب تبدو كأنها نجمت عن تنفيض سجادة هائلة بمنفضة كونية عملاقة! ويفسر وجود التراب الفضائي بعض الأحداث الكونية، مثل فقدان النجم المحتضر جزءاً من كتلته، كما أنه يساهم في عملية تكوّن النجوم وتكوّن الكواكب، وله دور في ظاهرة ضوء الشفق، والأشعة المضيئة في حلقات زحل،وغيرها.

ودراسة خواص هذا التراب وتأثيراته المختلفة هي عملية معقدة تتداخل فيها الفيزياء الاستاتيكية مع الفيزياء الحرارية وفيزياء الأسطح والنظريات الكهرومغناطيسية وهندسة الكسور وعلم الكيمياء إضافة طبعاً إلى علم الفلك! ويعتبر التراب الكوني مؤشراً مهماً على عمليات إعادة التدوير التي تتم في الكون، وهي عمليات مشابهة لعمليات إعادة تدوير القمامة التي نقوم بها على الأرض! فالمواد التي تتخلف عن النجوم المحتضرة والكويكبات المفتتة والكواكب المدمرة والأنظمة المنهارة يتم إعادة استخدامها لبناء الأنظمة الوليدة الجديدة.

تجميع التراب الثمين!

وتقدر كمية التراب الكوني التي تسقط على الأرض بأربعين طناً يومياً! وتقوم وكالة ناسا بجمع عينات من هذا التراب الكوني عن طريق طائرات خاصة تطير في طبقة الاستراتوسفير، كما نكن جمعه من على الكتل الثلجية في قارة انتراكتيكا المتجمدة، أو من الترسيبات في قاع المحيطات. وفي الفضاء يمكن تجميع التراب الكوني كهدف ثانوي للرحلات الفضائية عن طريق إطلاق ما يمسمى بمجمّعات التراب، وهي أجهزة صغيرة طائرة مصممة لتجميع التراب في الفضاء من المركبات الفضائية التي كانت تحمل مجمعات التراب. وحيث إن التراب الفضائي يدور في مدارات هو الآخر بسرعة تتراوح بين 10 و 40 كيلومتراً في الثانية، فإن عملية تجميعه دون أن يتحطم وتكسّر وهو يتحرك بهذه السرعة الهائلة تمثل مشكلة عويصة.

كيف ندرسه؟!

تتفاعل حبة التراب مع الإشعاع الكهرومغناطيسي بطريقة تعتمد على قطرها، وعلى طول موجة الإشعاع الكهرومغناطيسي، وعلى المادة التي تتكون منها حبة التراب نفسه، والتي تحدد إلى أي مدى ستقوم الحبة بكسر الإشعاع أو عكسه أو امتصاصه أو تشتيته، وعن طريق هذه الخواص التي تتفاعل بها الحبة مع الإشعاع يستطيع العلماء تحديد المواد التي تتكون منها حبة التراب.

وتعرض التراب للتدمير بواسطة عوامل متعددة،هذا خبر سعيد بالنسبة لنا نحن الذين نكره التراب وننظر إليه من وجهة نظر تنظيفية بحتة، لكنه أمر محزن للعلماء الذي يرغبون في جمعه ودراسته. من أكثر العوامل التي تؤثر في التراب الكوني هي الأشعة فوق البنفسجية التي قد تؤدي على انفجار حبة التراب بالمعنى الحرفي للكلمة. وحيث إن التراب يتحرك بسرعة كبيرة كما ذكرنا آنفاً،فإن اصطدام بعضه ببعض أثناء الحركة، وبأي أجسام أخرى، يمكن أن يؤدي على تحرر جزيئات مفردة من حبة التراب وانطلاقها في الفضاء، كما تؤدي التصادمات إلى تفتت الحبة إلى حبيبات أصغر وأصغر باستمرار، بحيث تتحول إلى حبة ميكروسكوبية غير ملحوظة.

تراب النجوم!

ليس هذا تعبيراً أدبياً بل هو تعبير علمي بحت! وتراب النجوم هو التراب الذي تكثف من الغازات المنطلقة من النجوم. وعادة ما يمكن الحصول عليه من داخل النيازك التي تحتفظ به داخلها. ويتكون تراب النجوم من نظائر عنصرية غير مألوفة على الأرض على الإطلاق (حيث أن نظائر العنصر تختلف فيما بينها في عد النيوترونات في الذرة بينما تتماثل في عدد البروتونات). هناك أنواع عديدة من التراب النجمي، غلا أنه عادة ما يتكون من كاربايد السيليكون (جزيء من السيليكون مع جزيء من الكربون)، والجرافيت (نوع من الكربون)، وأكسيد الألومنيوم، ومواد أخرى.

كل التراب النجمي تكون قبل تكون الأرض نفسها بزمن طويل جداً لذا فمن الأمور المثيرة في معامل الفلك دراسة التراب النجمي الذي يفوق عمره بمراحل عمر الكوكب المنشأ عليه المعامل نفسها!.