القرصنة
القرصنة أسلوب قديم للارتزاق يلجأ إليه في الغالب من شحّت موارده وقلتّ فرص حصوله على ما يسد رمقه وسط تكاليف الحياة الغالية وأعبائها الشديدة. وكانت القرصنة في وقت متأخر مهنة قد امتهنها الخاص والعام أفراداً وجماعات ودولاً بل كانت القرصنة في وقت من الأوقات واجبا وطنيا لدى بعض الدول الفقيرة تقوم بها للرد على سياسة التهميش التي تتعرض لها من قبل الدول الغنية والقادرة وأحيانا تقوم به الدول الفقيرة للتعبير عن امتعاضها للمعاملات السيئة التي تتعرض لها من قبل تلك الدول .
وفي القديم لجأت إليها غالبية الدول لتحصيل حقوقها وتأكيد سلطانها على مياهها التي تأبى الدول الأخرى الاعتراف لها بذلك، أي أنه أسلوب من أساليب الحياة تلجأ إليه بعض الدول لجباية الضرائب التي ترى أنها مستحقة على الدول التي تعبر مياهها الإقليمية أو الدولية القريبة منها، حاملة عبر سفنها البضائع والمؤن.
كثيراً ما ترضخ تلك الدول لشروط القراصنة وتدفع ما طلب منها لكي تضمن عدم تعرض تجارتها للتوقف، بل إن تلك الدول عملت على إبرام اتفاقيات تكون بموجبها ملزمة بدفع أتاوات سنوية لقاء عدم تعرض سفنها للقرصنة والاستيلاء إلا أنه مع مرور الزمن وتقدم البشرية في فهم متطلبات الآخر، وأنه يجب تأمين مصادر تمويل لتلك الدول حتى تترك التعّيش من وراء القرصنة ورويداً رويداً تلاشت القرصنة وقصصها المرعبة، وحل محلها اتفاقات دولية تراعي الحقوق وتنظر للاستقرار كعامل رئيس يجب أن يسود البحار ما دامت البشرية مازالت تتواصل عبره ولم تستغن عنه بعد.
في الآونة الأخيرة ظهرت على السطح بوادر تنبيء بعودة القرصنة والقراصنة، وكان ذلك جليا في المياه الصومالية التي تطل على شاطئ طويل جدا وخليج عدن مما يجعل لأولئك القراصنة حرية كبيرة على المناورة والحركة والمخادعة. ومنذ أن بدأت عمليات القرصنة في الظهور حتى توجهت أصابع الاتهام إلى الأصولية الإسلامية باعتبارها العباءة المهيأة دائما لإلصاق التهم بها، وأيضا للجماعات الصومالية المسلحة والمتحاربة فيما بينها والتي لجأت إلى أعمال القرصنة تلك لأسباب اقتصادية وأسباب سياسية دعائية .فهناك أسباب تتعلق بتمويل المجهود الحربي لتلك الجماعات المناوئة للسلطات لديها والتي لاتعترف بشرعيتها، مما يضطرها لقتالها وخوض غمار الكفاح المسلح ضدها بغية الاستيلاء على السلطة بدلها أو تأليب باقي القوى عليها، أي أن الهدف من وراء ذلك هو تجييش الأنصار وترهيب المناوئين والذي تعول عليه الجماعات التي تقوم بالقرصنة كثيرا، فهو يتعلق بطلب الحرية السياسية وتسليط الأضواء على مشكلاتها التي لم يهتم بها المجتمع الدولي وأدار ظهره لها بعد أن كان سبباً جوهرياً في نشوء تلك الأوضاع من وجهة نظر القراصنة.
اللجوء إلى القرصنة في وقت المخاض العالمي لولادة نظام جديد يعتبر ضرباً من الجنون ودخولا في أتون المجهول من حيث التوقيت غير الملائم للقيام بمثل هذه المغامرات إذا جاز الوصف، إذ العالم كله في حالة من الترقب بعد تدخلات حربية من قبل الدول العظمى المهيمنة على مقدرات العالم، وصراعات فيما بينها على مراكز نفوذ جديدة لها توفر لها الأمن والحماية. وظهور مثل هذه العمليات القرصنية سيوحّد العالم عليها ويجعلها هدفاً لكل القوى التي تريد التعبير عن نفسها بمحاربة الظواهر التي يتضرر منها الجميع. ولقد كان ذلك واضحا من خلال التصريحات التي أدلت بها الحكومة الصومالية من عدم ممانعتها القيام بعمليات حربية ضد القراصنة الصوماليين والأجانب، إذ أنها تشير بأصابع الاتهام إلى قوى أجنبية ودخيلة تعمل على إشعال فتيل الحرب وتأزيم الأوضاع، وقطع الطرق التجارية أمام العالم مما يعني وبصورة أوضح أن الحكومة الصومالية تدعو العالم إلى حماية قوافله التجارية بنفسه، وهي دعوة قد يكون مظهرها بريئاً إلا أنها تحمل دعوة لدخول الأساطيل الأجنبية هذه المنطقة من العالم وبصورة دائمة بحجة حماية التجارة الدولية، وهو ما يعني أيضاً بقاءها في المنطقة وبالقرب من ممرات التجارة العالمية، الأمر الذي يوقع المنطقة برمتها تحت الاحتلال المبّطن بذريعة محاربة القراصنة مما يجعل المكان يدخل حالة عدم الاستقرار، فالقوى كافة ستجتمع لحماية سفنها وبالتالي من يضمن عدم الصدام فيما بينها أو حتى اتفاقها على تقاسمها كمراكز نفوذ لها مما يستدعي مواجهتها وبالتالي اشتعال المنطقة وانفجارها.
الإعلان عن إنشاء قوة أوروبية لمكافحة القرصنة في خليج عدن، وقيام الدول الأوروبية بحشد إمكاناتها لتطوير هذه القوات لتعمل في مختلف الظروف، بحجة حماية ممرات التجارة الدولية وتأمينها، هو في حقيقته إعلان عن دخول القراصنة المتخمين على خط القراصنة الجوعى الذين لايحصدون جراء عملياتهم سوى الفتات، فغالبية الحشود التي يتكون منها القراصنة هم من المسرحيّن من الجيش الصومالي السابق والقاطنين على السواحل، وامتهنوا القرصنة لأجل العيش وتأمين الذات ولن يكون بمقدورهم وبما يملكون من زوارق بسيطة وبدائية من التأثير على الأوضاع في المنطقة أو تغيير الأنظمة السائدة، خاصة إذا توفرت لدى دول المنطقة القدرات والأدوات التي توفر الحماية وتردع القراصنة دون الحاجة إلى تجييش المنطقة وجلب القوات الأجنبية التي لن تكون سوى مجموعة من القراصنة القادرين المتخمين .
إن الظروف التي خلقت القراصنة وجعلتهم يطفون على السطح هي ظروف مختلقة أوجدتها السياسات الغربية الطامعة والمهيمنة والتي أدخلت المنطقة في ألعابها السياسية والعسكرية بحيث جعلت بعض القوى تتفوق على أخرى لإنجاح سياساتها مما نتج عن ذلك نشوء قوى مناهضة وجدت نفسها وقد ظلمت وحرمت مضطرة للرد على تلك السياسات المنحازة والممزقة والتي لاتخدم سوى أجندتها ولاتحقق سوى أهدافها حتى وإن كانت تلك الردود سلبية وتعود بالضرر على الجميع، فهي قد وجدت نفسها في معترك حروب ومنازعات استعرت في بلادها بسبب التدخل الأجنبي ودسائسه .
إن الحلول الغربية دائما نجدها لاتتحدث إلا بلغة التهديد والوعيد، وبالتالي فتلك الحلول التي تعتمد على القوات والبوارج، أو اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية لتتولى أمر القراصنة لن تكون ذات جدوى، ولن يكون بمقدورها حل المشاكل العالقة سواء في هذه المنطقة أو غيرها من المناطق لأنها دوماً ستجد من يناهضها ويعاديها لحيادها عن الصواب ومجانبتها للحلول الحقيقية، ولمس المشاكل في عمقها. فالمنطقة التي يظهر بها القراصنة ليست في حاجة إلى ظهور البوارج الحاملة للصواريخ العابرة للقارات ولاصاحبة المدافع العملاقة التي جهزّت لحروب القرن الواحد والعشرين فالقراصنة مجموعة من المغامرين الذين لايطمحون لشىء سوى تأمين لقمة العيش والحياة بأمن وسلام في بلادهم وهذا بالإمكان تحقيقه دون جلب لتلك القوات وبدون الحاجة إلى فرامانات غربية لتكوين فرق الاقتحام والسطو.
فالجائع والخائف لن يثنيه عن التوقف في كل مايقوم به إلا تأمين احتياجاته واحترام إرادته، فالمجتمع الغربي المتخم وقد وجد ضالته في القراصنة ليبرر وجوده واستمرار تحكمّه وتسلطه يحاول وبكل الطرق إفهامنا أنه يقوم بواجبه، وهو فهم لن تستوعبه العقول بدون أن يتم التطرق إلى جوهر ولبّ المشكلة وإيجاد حل لها ،فالصومال يعيش دوامة العنف والحروب العبثية، تغذيها سياسات غربية يهمها بقاء المنطقة في تقاتل وتناحر لتظل الحاجة دائما اليها وإلى تدخلها.
لاتخفى المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق العرب في هذه القضية باعتبارهم جزءا مهما ومحوريا في المنطقة المقصودة وخاصة في خليج عدن وبحر العرب، وبالتالي الواجب يحتم عليهم إيجاد حلول داخلية وذاتية فيما بينهم لإنقاذ وعلاج الموقف دون الحاجة إلى قوات أجنبية، و ألا نغفل كون مشكلة القرصنة مشكلة دولية تتطلب تضافر الجهود من المجتمع الدولي ككل لحلها جذرياً، ولكن بدون أن تكون ذريعة للوجود والاحتلال.
__________________________________________
ما كل ما يتمناه المرء يدركه
تعليق