هل للقانون معنى؟
نعم للقانون معنى، بل إن للقانون أكثر من معنى فأيهما تقصد؟ إذ لا يمكن تصور مجتمع منظم بغير قواعد قانونية تحكمه، ذلك أن فكرة النظام هي نفسها جوهر القانون .
القانون بالمعنى الفلسفي يعني أن مقدمات معينةً تنتج بالضرورة نتائج معينة.
أنت إذا وضعت الماء على النار فإنه يصل إلى الغليان عند درجة مائة.
وأنت إذا تركت جسمًا في الفضاء سقط على الأرض بحكم قانون الجاذبية،
وأنت إذا لم تشرب لمدة طويلة يصيبك المرض وقد يلحقك الموت لو طالت فترة العطش.
كل هذه قوانين طبيعية أو قوانين بالمعنى الفلسفي وليس إلى هذا المعنى نقصد هنا.
إننا نقصد إلى معنى القانون الذي ينظم العلاقات بين الناس في مجتمع منظم.
والمجتمعات البشرية انتقلت من المرحلة البدائية إلى المرحلة المنظمة عبر سنوات طويلة وبعد هذه السنوات تكونت القواعد العرفية للقانون التي تنظم علاقات الناس بعضهم بعضًا.
ولعل من أقدم هذه القواعد العرفية التي عرفتها البشرية في تطور تاريخها الطويل قاعدة تحكم العلاقات المدنية وقاعدة تحكم الأمور الجنائية.
أما القاعدة التي تحكم العلاقات المدنية فهي التي تقضي بضرورة احترام التعهدات.
وأما القاعدة التي تحكم الأمور الجنائية فتلك التي تقول إن السن بالسن والعين بالعين.
والقانون بهذا المعنى ارتبط، كما قلنا، بوجود مجتمعات يسودها قدر من النظام، والنظام في أي مجتمع من المجتمعات - ومن ثم القانون - مرتبط بوجود سلطة على نحو ما في ذلك المجتمع. ومجتمع بغير سلطة هو مجتمعٌ بغير نظام أو قل هو مجتمعٌ بغير قانون.
والمجتمعات الأولى عندما انتقلت من مرحلة التجمعات التي لا يربطها رابط إلى مرحلة المجتمعات المنظمة عرفت أثناء ذلك بذور ظاهرة السلطة. نجد هذه البذور الأولى لظاهرة السلطة عند الساحر، ثم عند الكاهن ثم عند شيخ القبيلة بعد تطور طويل. كل هؤلاء كان المجتمع من حولهم يدين لهم بقدر من الطاعة، أي يسلم لهم بقدر من السلطة. لماذا السلطة ثم ما مظاهر تلك السلطة؟
أما لماذا فقد كان الناس - بل ومازال بعضهم في أدغال إفريقيا - يدين للساحر بقدر من الطاعة ثم انتقلت تلك الطاعة في مرحلة متقدمة إلى الكاهن أو رجل الدين بصفة عامة ثم استقرت بعد ذلك في شيخ القبيلة ذلك لأن الناس العاديين كانوا يشعرون بأن هؤلاء يقدرون على ما لا يقدر عليه غيرهم، أو كانوا يدعون ذلك على الأقل، ويلقى ادعاؤهم تصديق الآخرين. كان الناس يخافون ظواهر الطبيعة من رعد وبرق وسيول وزلازل، وكان الساحر أو الكاهن يوحي إليهم بأنه قادر دون غيره على أن يتوسط لدى الآلهة - وكانوا في البداية متعددين - لكي ترفع غضبها ونقمتها عن الناس. وكثيرًا ما كان يطلب من هؤلاء تقديم القرابين حتى ترضى الآلهة. ولم يكن هؤلاء الناس يتصورون أنه يمكن أن يكون لهم صلة مباشرة بآلهتهم. إن تلك الصلة لا بد أن تمر عبر الساحر أو الكاهن. من هنا وجد لهؤلاء قدر من السلطة وأقر الآخرون لهم بقدر من الطاعة. وبعد التطور الطويل انتقل ذلك تدريجيا إلى شيخ القبيلة ثم إلى الدولة صاحبة السلطة التي لا تعلوها سلطة أخرى.
وقد عرف تاريخ البشرية ظاهرة الدولة منذ بضعة آلاف من السنين فقط قد لا تمتد إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، ذلك على حين أن الإنسان وجد على ظهر الأرض في صورة مجتمعات بدائية ثم مجتمعات على قدر بسيط من التنظيم منذ العديد من آلاف السنين. والراجح أن ظاهرة الدولة وجدت أول ما وجدت في بلاد الصين وفي مصر على ضفاف وادي النيل، وقد ارتبط ظهور الدولة بتأكد ظاهرة السلطة واستقرارها والتسليم بها لشخص معين أو أشخاص معينين لهم حق الأمر وعلى غيرهم حق الطاعة، بحسبان أن ذلك هو الذي يحقق النظام في مجتمع من المجتمعات ويحقق مصالح الكثرة من الناس، ويحول بينهم وبين أن تسود بينهم شريعة الغاب أي شريعة القوة والبغي.
وفي فقه القانون نظريات عديدة حول نشأة ظاهرة السلطة وأساس وجودها وأفضل شيء هنا ألا نأتي على ذكر شيء من ذلك وأن نتركه للمتخصصين ونكتفي بهذا القدر الذي قلناه. وقد نكون بذلك أجبنا عن تساؤلنا الأول لماذا السلطة؟
أما عن تساؤلنا الثاني الذي هو عن مظاهر تلك السلطة!، فإننا نقول إن القانون يأتي في مقدمة تلك المظاهر بل هو أهمها. والقانون هو وسيلة السلطة من أجل تنظيم العلاقات الاجتماعية، ولا شبهة أن فكرة القانون قد بلغت غاية نضجها في ظل ظاهرة الدولة وإن كانت قد وجدت في ظل السلطات "الجنينية" التي شاهدها المجتمع الإنساني في مراحل تطوره المختلفة على نحو ما أسلفنا من قبل.
أنا الدولة
الدولة القديمة في الصين ومصر وغيرهما كانت تدين للملك أو الإمبراطور بكل السلطة، بل وبعد مصر القديمة والصين بآلاف السنين قال لويس الرابع عشر في فرنسا - منذ أقل من أربعة قرون - أنا الدولة. وكان يقصد بذلك أن سلطة الدولة هي سلطته وأن مال الدولة هو ماله وأن العدوان عليه عدوان على الدولة ذاتها ذلك أنه هو المشخص للدولة. وفي تلك العصور كانت كلمة الحاكم ملكًا أو أميرًا أو إمبراطورًا هي القانون النافذ الذي لا يرد. كان الملك هو المشرع، وكان هو القاضي، وكان هو قائد الجيش، وهو جابي الضرائب، أو كان هؤلاء جميعًا من عماله الذين يتصرفون باسمه وتجب عليهم طاعته ولا يخالفون له رأيًا.
وبدأ التطور بطيئًا بطيئًا على نحو ما يقال له سلطة الشعوب وتقسيم السلطات إلى أن وصل أخيرًا إلى ما يقال له دولة المؤسسات.
وفي دولة المؤسسات تتولى التشريع السلطة التشريعية وفقًا لما تحدده القواعد الأساسية التي تحكم دولةٌ من الدول، تلك القواعد التي يسميها أهل القانون القواعد الدستورية.
والسلطة التشريعية التي تسن قواعد القانون هي جزء من الدولة الحديثة ومظهر من مظاهر السلطة فيها ولكن مظاهر الدولة الحديثة لا تقتصر على ذلك وإنما هي تمتد إلى احتكار الدولة وحدها كل وسائل القمع. فالدولة وحدها هي التي تملك البوليس وقوات الأمن، والدولة وحدها هي التي تملك المحاكم وفيها قضاة ينفذون حكم القانون ، والدولة وحدها هي التي تملك السجون تضع فيها المخالفين والخارجين على حكم القانون .
وهذه كلها من مظاهر السلطة - سلطة الدولة - التي ترتبط بفكرة القانون وأساسه أوثق ارتباط.
ولعلنا بذلك نكون قد أجبنا عن التساؤلين: لماذا السلطة، وما أهم مظاهرها.
وإذا كان القانون في معناه الحديث هو من أهم مظاهر السلطة وهو التعبير المباشر عن الدولة ممثلة في سلطتها التشريعية فماذا يعني القانون في الدولة الحديثة؟.
القانون والمعيار
القانون في الدولة الحديثة لا يختلف في جوهره عن القانون في الماضي.
القانون هو نوع من المعيار الذي تقاس على أساسه التصرفات. هو تحديدٌ للأطر التي تتم داخلها علاقات الأفراد في علاقاتهم الخاصة وضمان لإنفاذ الإرادة ما لم تصدم بنص قانوني آمر يخالفها. وهذا هو القانون الخاص. القانون الذي ينظم العلاقات بين أفراد متساوين أمام القانون .
مثال ذلك علاقات البيع والشراء وإقامة الشركات واستثمار الأموال وكل ما يتعلق بالتجارة وتبادل السلع وحقوق الملكية التي هي أساس ذلك كله. ولكن للقانون فرعًا عامًا هو الذي تتبدى فيه سلطة الدولة أكثر من غيره.
فما هو ذلك القانون العام؟
القانون العام هو الذي ينظم سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية ويبين كيف تتكون تلك السلطات، وما اختصاصاتها، وكيف تباشر تلك الاختصاصات، وما هي علاقة كل سلطة بالأخرى، وما علاقاتها بالأفراد أو ما حقوق الأفراد في مواجهة تلك السلطات.
والجزء من القانون العام الذي ينظم ذلك كله هو القانون الدستوري وقانون السلطات العامة وقانون حقوق الأفراد وحرياتهم وضمانات تلك الحقوق والحريات.
ويأتي القانون الجنائي ضمن القانون العام. والقانون الجنائي هو الذي يحدد الجرائم والعقوبات.
هكذا تتجلى سلطة الدولة بأوضح مظاهرها.
ولكن إذا كان من مظاهر سلطة الدولة في الماضي أنها سلطةٌ مطلقةٌ فليس الحال كذلك في العصر الحديث. إن سلطة الدولة مقيدة غير مطلقة. والقانون الذي هو تعبيرٌ عن إرادة الدولة هو ذاته الذي يقيد سلطة الدولة.
إن الدولة الحديثة لا تباشر سلطتها من فراغ وإنما تباشرها في إطار القانون . القانون هو الذي يرسم حدود السلطة وكيفية ممارستها وعندما تتصرف الدولة في حدود القانون يكون تصرفها مشروعًا، وعندما تخرج الدولة في تصرفها عن حدود القانون - ومن المتصور أن يحدث ذلك - فإن تصرفها يكون غير مشروع.
وهذا هو ما يعبر عنه بعبارة "سيادة القانون " التي كثيرًا ما تتردد في كتب الفقهاء وعلى ألسنة الناس وفي ردهات المحاكم.
فما الذي تعنيه سيادة القانون ؟
تعني أن القاعدة القانونية التي صدرت ممن يملك حق إصدارها تحكم الناس جميعًا حاكمين ومحكومين، هي فوق الإرادات جميعًا وهذا هو الفارق الأساسي بين سلطة الدولة
في الحاضر - السلطة المفيدة بالقانون - وسلطة الدولة في الماضي حيث لم يكن يقيدها قيدٌ إلا إرادة الحاكمين وحسن نواياهم وخشيتهم من الله في الدنيا والآخرة.
تحول الأمر الآن إلى سلطة في إطار القانون ،
إلى سلطة يسودها ويحكمها القانون .
والقواعد القانونية تتدرج بحيث يلتزم أدناها بأعلاها.
وتأتي قواعد القانون الدستوري فوق القواعد القانونية جميعًا.
ومن هنا قيل بسمو القواعد الدستورية على ما عداها.
ووجدت قاعدةٌ دستورية القوانين بمعنى اتفاق القوانين مع الدستور
فإن هي خرجت عليه كانت غير دستورية وفقدت أساس مشروعيتها.
رحلة طويلة قطعتها البشرية مع القانون وفي ظله،
وبقي القانون دائمًا هو "المنظم" وهو المعيار.
تعليق