السلام عليكم
البعد الثقافي والتشخيص في الطب النفسي
البعد الثقافي والتشخيص في الطب النفسي
هناك إجماع عام أن للبيئة الثقافية والوضع الاجتماعي دور مؤثر، لا فقط في تنوع مظاهر الاضطرابات النفسية من علامات وأعراض والطريقة التي تبرز فيها إلى السطح. ولكن أيضا ن وكما هو معروف، في تواجد اضطرابات محددة، تكاد تكون خاصة ومحددة بمناطق جغرافية معينة وحسب.
ومعلوم أن المظاهر الثقافية الخاصة، المغايرة في اضطراب نفسي ما، يجعله - لا نمطيا، من وجهة الإكلينيكية. وقد يبدو مغايرا في أعين المعالج ومربكا إلى حد قد يجعله يتخذ في شأنه قرارا ضالا بهذا القدر أو ذاك، سواء في التشخيص أو المقاربة العلاجية عموما .
ولكن إلى أي حد يذهب هذا التنوع الثقافي ، الجغرافي أو الاجتماعي ؟ وهل المظاهر المتنوعة لاضطراب ما يفترض أنه واحد، هي اختلافات ثقافية فعلا، أم هي مظاهر مرتبطة بالتباين العرقي مثلا وما يتبعه من تنوع جيني مثلا؟ لا يبدو أن هذه المسألة محسومة تماما ، في بعض الجوانب على الأقل. ولهذا فهي ما زالت حقلا خصبا للنقاش والبحث وبعض جوانبها ربما لم يظهر، أو يقتحم بعد. لعل أحد الأسباب لتغليب العامل الثقافي في هذا التباين هو عدم معرفتنا غالبا لسببية مرضية - ايثولوجي- بيولوجية محددة، فغياب هذه الباثولجيا ، ولو بفعل عامل خارجي ، ايكولوجي – ومن هنا استخدام مصطلح اضطرابات – لا أمراض نفسية. . وثمة سبب آخر لا يقل أهمية للإصرار على الخلفية الثقافية، هو أن هذا التلون في الأعراض قد يكون أيضا بين أفراد من جنس /عرق واحد ويعيشون في رقعة جغرافية واحدة، ولكن توجد بينهم فروق تتعلق بالمستوى التعليمي أو نمط المهنة والمستوى المعيشي الاجتماعى، وما إلى هنالك من فسيفساء الخلفية الثقافية للطب النفسي
Sociocultural and community psychiatry
لكن ليس في العلم أبواب مغلقة أو أحكاما قاطعة إلا نادرا، والأبحاث مركزة كثيرا على الجوانب التقنية- البيولوجية، عسى أن تأتي بجديد، وهو أمر لا يعجب كثيرا كاتب المقالة التي سنتناولها.
وقد رأيت أن أخصص هذه الصفحة – محـاور- من الموقع للقضايا النقاشيه، ومنها هذا الجانب والذي يعرف بالطب النفسي الثقافي أو عبر-الثقافي
transcultural psychiatry
وهو الفرع المعني بدراسة التأثيرات الثقافية على نوعية وتواتر الاضطرابات النفسية وطرق التناول معها. وقريب من هذا التعبير أيضا
و cross-cultural
comparative psychiatry
الطبنفس المقارن.
وكان قد لفت نظري مؤخرا مقال في إحدى المجلات الطبية الصادرة في المملكة المتحدة سيكون فاتحة عرضنا لهذه الآراء. كاتب المقالة استشاري في الطب النفسي للطفولة في أحد المراكز في المملكة المتحدة. ورغم أن عنوان المقالة قد لا يوحي بامتداد ما يتطرق إليه من مسائل، إلا إنه في الواقع يناقش أكثر من قضية في هذا الطب النفسي الثقافي وينتقد بعض الممارسات الشائعة وبعض ما يعتبره الكثير من المسلمات. اسم الكاتب والمقالة
Sami Timimi : The politics of Prescribing Psychotropic Medication to Children and Adolescents, PGD vol.28, No. 6 Nov.-Dec. 2002 والعنوان، كما أسلفت، يشير إلى ممارسات الوصف الدوائي للعقاقير النفسية عند الأطفال، ولكن الكاتب يتناول هذه المسألة أساسا عبر منظور ثقافي واجتماعي وليس من منطلق طبي أو تقني بحت، مما يجعلها مقالة في الطبنفس الثقافي عدا عن غرضها الإكلينيكي (السريري) الموجه للمارسين
ويجدر بنا قبل استعراض آراء الكاتب، أن نلقي نظرة عامة سريعة عن الاتجاهات الرئيسة الانثروبولجيه الضالعة في هذا الميدان. وكانت الآثار المحتملة للثقافة على المرض النفسي قد لفت انتباه العديد من أوائل الكتاب من الأطباء النفسيين ولكنهم عبروا عن آراء غير واقعية في نظرتهم إلى الحياة البدائية. فقد كان اسكيرول و مودسلي وغيرهما يعتقدون بأن المرض النفسي هو ثمن مقابل التقدم، حتى إن البعض ذهب به الاعتقاد بعدم وجود المرض العقلي بين القبائل الإفريقية، لأن الرحالة الأوربيون لم يأتوا على ذكره.
وفي فترة لاحقة انتشر – حتى لا نقول ساد- في ميداني الأنثروبولوجيا – ومن ثم علم النفس والطب النفسي- الاتجاه القائل بأن الثقافة الأوربية الغربية هي قمة الحضارة البشرية وإن الإنسان الأوربي هو منتهى التطور البشري، وكذا عدا كيانه التشريحي فشخصيته ونموه النفسي أكثر رقيا من حيث التطور، وإن أفراد ما يسمى بالثقافات البدائية غير قادرين إلا على إبداء مظاهر من السلوك الأكثر بدائية بيولوجيا فيما يتعلق بأداء الوظائف العقلية، وافترضوا بالتالي بأن العديد من أشكال التفكير عند هؤلاء البدائيين، لا تظهر عند الإنسان الحديث إلا على شكل انحرافات مرضية. وليس منذ عهد بعيد سرت قناعة
بوجود أنماط للمرض النفسي خاصة، متفردة ذات ارتباط ثقافي، حيث أن التشخيص في الطب النفسي الحديث مرتبط ثقافيا يشكل كامل. وأخذ ممثلو كلي من الاتجاهين : الاتجاه المنطلق من مفهوم التخلف العنصري، وذاك المبني على النسبية الثقافية ، بالتنقيب في الأدبيات الأنثروبولوجية بحثا عن أمثلة من الاضطرابات المرتبطة بالثقافة
بيد أن هناك رأي ثالث مختلف تماما، ينطلق من وجهة النظر القائلة بشمولية الأداء النفسي ومن ثم شمولية النتائج المترتبة على النمو النفسي والجنسي. وأن ما يبدو لنا اضطرابا عقليا ذي ارتباط ثقافي، إنما هو مجرد تنوع ضمن نمط ثقافي مغاير السلوك، وليس مظهرا في اختلاف حقيقي في أسس البنية النفسية. وقد نناقش المزيد من هذه الآراء وغيرها مستقبلا، ولكنن الآن نعود إلى رأى الدكتور تيميمي عن الموضوع
يبدأ المقال بالتشكيك في جدوى تطبيق مفاهيم الطب النفسي الغربي -الحديث على المجتمعات غير غربية الثقافة وينفي الزعم بأن < الطي النفسي قد اكتشف الصور الكليانية الإلزامية للمرض النفسي، وإن المفاهيم تسري صلاحيتها على نطاق عالمي>. وبعد أن يذكرنا بأن الطب النفسي عجز عن إيجاد أسباب باثولوجية -عضوية تفسر الاضطرابات النفسية على خلفية آفات دماغيه أو عصبية أو غيرها، يستعرض نشأة الطب النفسي < بوصفه حقلا معرفيا ولد كنتاج لحركة التنوير الأوربية > أسقطت عليه من ثم، مفاهيمها الفلسفية الاجتماعية التي برزت في الطب النفسي – الغربي نظرية وممارسة بما يتفق وحدود نظرة تلك المفاهيم لا يجوز الأخذ بها سوى في
< سياق جذورها السياسية والثقافية والاجتماعية >
كما يستعرض الدكتور تيميمي بشكل نقدي لتاريخ الطفولة الغربية أي تاريخ التنظير والتفسير لمرحلة الطفولة والتربية في البلدان الغربية من أيام
Lockeلوك
Rousseau وروسو
إلى آخر القرن العشرين بما وفر من وسائل تقنية تتيح للطفل ولوج عالم المعلومات الخاص بالراشدين، موضحا انه رغم تبدل وتطور المفاهيم والأساليب فالتربوية والنظرة نحو الطفولة إلا أنها ظلت دوما مطبوعة بثقافة الطبقة السائدة وسيطرة الدولة المطلقة على جهاز التعليم العام، منتجة، من ثم مفاهيم وممارسات تعكس إسقاطا اجتماعيا، طبقيا مثلا. وأخيرا فإن سيطرة وسائل الإعلام الحديثة المتناقض مع القوانين السلطوية التي تتدخل حتى في تحديد نوع السلوك – المطلوب- من المدرسين بل والآباء تحو بنيهم قد لعب دورا ملحوظا في التشوش والاضطراب الذي يتعرض له المربون في موقفهم من الأطفال والطفولة على العموم.
ومعلوم أن المظاهر الثقافية الخاصة، المغايرة في اضطراب نفسي ما، يجعله - لا نمطيا، من وجهة الإكلينيكية. وقد يبدو مغايرا في أعين المعالج ومربكا إلى حد قد يجعله يتخذ في شأنه قرارا ضالا بهذا القدر أو ذاك، سواء في التشخيص أو المقاربة العلاجية عموما .
ولكن إلى أي حد يذهب هذا التنوع الثقافي ، الجغرافي أو الاجتماعي ؟ وهل المظاهر المتنوعة لاضطراب ما يفترض أنه واحد، هي اختلافات ثقافية فعلا، أم هي مظاهر مرتبطة بالتباين العرقي مثلا وما يتبعه من تنوع جيني مثلا؟ لا يبدو أن هذه المسألة محسومة تماما ، في بعض الجوانب على الأقل. ولهذا فهي ما زالت حقلا خصبا للنقاش والبحث وبعض جوانبها ربما لم يظهر، أو يقتحم بعد. لعل أحد الأسباب لتغليب العامل الثقافي في هذا التباين هو عدم معرفتنا غالبا لسببية مرضية - ايثولوجي- بيولوجية محددة، فغياب هذه الباثولجيا ، ولو بفعل عامل خارجي ، ايكولوجي – ومن هنا استخدام مصطلح اضطرابات – لا أمراض نفسية. . وثمة سبب آخر لا يقل أهمية للإصرار على الخلفية الثقافية، هو أن هذا التلون في الأعراض قد يكون أيضا بين أفراد من جنس /عرق واحد ويعيشون في رقعة جغرافية واحدة، ولكن توجد بينهم فروق تتعلق بالمستوى التعليمي أو نمط المهنة والمستوى المعيشي الاجتماعى، وما إلى هنالك من فسيفساء الخلفية الثقافية للطب النفسي
Sociocultural and community psychiatry
لكن ليس في العلم أبواب مغلقة أو أحكاما قاطعة إلا نادرا، والأبحاث مركزة كثيرا على الجوانب التقنية- البيولوجية، عسى أن تأتي بجديد، وهو أمر لا يعجب كثيرا كاتب المقالة التي سنتناولها.
وقد رأيت أن أخصص هذه الصفحة – محـاور- من الموقع للقضايا النقاشيه، ومنها هذا الجانب والذي يعرف بالطب النفسي الثقافي أو عبر-الثقافي
transcultural psychiatry
وهو الفرع المعني بدراسة التأثيرات الثقافية على نوعية وتواتر الاضطرابات النفسية وطرق التناول معها. وقريب من هذا التعبير أيضا
و cross-cultural
comparative psychiatry
الطبنفس المقارن.
وكان قد لفت نظري مؤخرا مقال في إحدى المجلات الطبية الصادرة في المملكة المتحدة سيكون فاتحة عرضنا لهذه الآراء. كاتب المقالة استشاري في الطب النفسي للطفولة في أحد المراكز في المملكة المتحدة. ورغم أن عنوان المقالة قد لا يوحي بامتداد ما يتطرق إليه من مسائل، إلا إنه في الواقع يناقش أكثر من قضية في هذا الطب النفسي الثقافي وينتقد بعض الممارسات الشائعة وبعض ما يعتبره الكثير من المسلمات. اسم الكاتب والمقالة
Sami Timimi : The politics of Prescribing Psychotropic Medication to Children and Adolescents, PGD vol.28, No. 6 Nov.-Dec. 2002 والعنوان، كما أسلفت، يشير إلى ممارسات الوصف الدوائي للعقاقير النفسية عند الأطفال، ولكن الكاتب يتناول هذه المسألة أساسا عبر منظور ثقافي واجتماعي وليس من منطلق طبي أو تقني بحت، مما يجعلها مقالة في الطبنفس الثقافي عدا عن غرضها الإكلينيكي (السريري) الموجه للمارسين
ويجدر بنا قبل استعراض آراء الكاتب، أن نلقي نظرة عامة سريعة عن الاتجاهات الرئيسة الانثروبولجيه الضالعة في هذا الميدان. وكانت الآثار المحتملة للثقافة على المرض النفسي قد لفت انتباه العديد من أوائل الكتاب من الأطباء النفسيين ولكنهم عبروا عن آراء غير واقعية في نظرتهم إلى الحياة البدائية. فقد كان اسكيرول و مودسلي وغيرهما يعتقدون بأن المرض النفسي هو ثمن مقابل التقدم، حتى إن البعض ذهب به الاعتقاد بعدم وجود المرض العقلي بين القبائل الإفريقية، لأن الرحالة الأوربيون لم يأتوا على ذكره.
وفي فترة لاحقة انتشر – حتى لا نقول ساد- في ميداني الأنثروبولوجيا – ومن ثم علم النفس والطب النفسي- الاتجاه القائل بأن الثقافة الأوربية الغربية هي قمة الحضارة البشرية وإن الإنسان الأوربي هو منتهى التطور البشري، وكذا عدا كيانه التشريحي فشخصيته ونموه النفسي أكثر رقيا من حيث التطور، وإن أفراد ما يسمى بالثقافات البدائية غير قادرين إلا على إبداء مظاهر من السلوك الأكثر بدائية بيولوجيا فيما يتعلق بأداء الوظائف العقلية، وافترضوا بالتالي بأن العديد من أشكال التفكير عند هؤلاء البدائيين، لا تظهر عند الإنسان الحديث إلا على شكل انحرافات مرضية. وليس منذ عهد بعيد سرت قناعة
بوجود أنماط للمرض النفسي خاصة، متفردة ذات ارتباط ثقافي، حيث أن التشخيص في الطب النفسي الحديث مرتبط ثقافيا يشكل كامل. وأخذ ممثلو كلي من الاتجاهين : الاتجاه المنطلق من مفهوم التخلف العنصري، وذاك المبني على النسبية الثقافية ، بالتنقيب في الأدبيات الأنثروبولوجية بحثا عن أمثلة من الاضطرابات المرتبطة بالثقافة
بيد أن هناك رأي ثالث مختلف تماما، ينطلق من وجهة النظر القائلة بشمولية الأداء النفسي ومن ثم شمولية النتائج المترتبة على النمو النفسي والجنسي. وأن ما يبدو لنا اضطرابا عقليا ذي ارتباط ثقافي، إنما هو مجرد تنوع ضمن نمط ثقافي مغاير السلوك، وليس مظهرا في اختلاف حقيقي في أسس البنية النفسية. وقد نناقش المزيد من هذه الآراء وغيرها مستقبلا، ولكنن الآن نعود إلى رأى الدكتور تيميمي عن الموضوع
يبدأ المقال بالتشكيك في جدوى تطبيق مفاهيم الطب النفسي الغربي -الحديث على المجتمعات غير غربية الثقافة وينفي الزعم بأن < الطي النفسي قد اكتشف الصور الكليانية الإلزامية للمرض النفسي، وإن المفاهيم تسري صلاحيتها على نطاق عالمي>. وبعد أن يذكرنا بأن الطب النفسي عجز عن إيجاد أسباب باثولوجية -عضوية تفسر الاضطرابات النفسية على خلفية آفات دماغيه أو عصبية أو غيرها، يستعرض نشأة الطب النفسي < بوصفه حقلا معرفيا ولد كنتاج لحركة التنوير الأوربية > أسقطت عليه من ثم، مفاهيمها الفلسفية الاجتماعية التي برزت في الطب النفسي – الغربي نظرية وممارسة بما يتفق وحدود نظرة تلك المفاهيم لا يجوز الأخذ بها سوى في
< سياق جذورها السياسية والثقافية والاجتماعية >
كما يستعرض الدكتور تيميمي بشكل نقدي لتاريخ الطفولة الغربية أي تاريخ التنظير والتفسير لمرحلة الطفولة والتربية في البلدان الغربية من أيام
Lockeلوك
Rousseau وروسو
إلى آخر القرن العشرين بما وفر من وسائل تقنية تتيح للطفل ولوج عالم المعلومات الخاص بالراشدين، موضحا انه رغم تبدل وتطور المفاهيم والأساليب فالتربوية والنظرة نحو الطفولة إلا أنها ظلت دوما مطبوعة بثقافة الطبقة السائدة وسيطرة الدولة المطلقة على جهاز التعليم العام، منتجة، من ثم مفاهيم وممارسات تعكس إسقاطا اجتماعيا، طبقيا مثلا. وأخيرا فإن سيطرة وسائل الإعلام الحديثة المتناقض مع القوانين السلطوية التي تتدخل حتى في تحديد نوع السلوك – المطلوب- من المدرسين بل والآباء تحو بنيهم قد لعب دورا ملحوظا في التشوش والاضطراب الذي يتعرض له المربون في موقفهم من الأطفال والطفولة على العموم.
يتــــــــابع ,,,,,
تعليق