ربما كان بيكاسو الفنان الوحيد الذي استطاع تجسيد الفن الحديث في نظر الإنسان العادي، فحتى أولئك الذين لم تقع أبصارهم على نسخة من أعماله المصورة، صاروا يرددون اسمه شاهداً على كل ما يتصف بالجرأة والتحدي في فن العصر الحديث.
ويمكن تعليل الحقيقة الماثلة التي جعلت منه رمزاً لكل ظاهرة فنية جريئة، بكونه الفنان المبدع الذي قلب المفاهيم السائدة في الفن آنذاك رأساً على عقب، و حير جمهور الفن التشكيلي بهذا التغيير المفاجئ المثير في الأسلوب مرة بعد أخرى. عندما أقبل على باريس أول مرة في عام 1900 رسم في المونمارتر، بأسلوب متأنق نوعاً ما، أعمالا أظهرت تأثير فنانين من أمثال تولوز لوتريك وفويلار عليه.
أزرق بارد!!
وبعد سنة من إقامته في باريس بدأ الأزرق البارد يطغى على ملونته، فرسم نساءً باردات حزينات وأطفالاً مرضى ومتسولين مهزولين مسنين. ثم انتقل، بعد ثلاث سنوات، من هذه الفترة الزرقاء إلى الفترة الوردية ليصور لنا فيها المهرجين والبهلوانيين، فيها شيء من المأساة، فنجد هنا وهناك وجوها خانعة وأسارير لا تعرف الابتسامة إليها طريقاً. وقد حل بيكاسو، بعد أن ترك أسبانيا نهائيا، في نزل في "باتو لافوار" المعروف في شارع رافنيان في المونمارتر، وشرع بعدها بقليل تطوير التكعيبية، وألزم نفسه بتحديد نهجه واضحاً في هذا السياق، حتى بدا كأنه لن يستطيع الحياد عنه أبداً. لكنه في عام 1917 بدأ يرسم صوراً شخصية على غرار أسلوب الرسام "أنكر" التقليدي.
كلاسيكية جديدة!!
وفي عام 1921 أخذ بيكاسو يصور النماذج الإنسانية بالأسلوب الكلاسيكي الجديد، نافخاً أجسامها أحياناً بشيء من الوقاحة، ومعيداً في الصور الأخرى بناءها من جديد مستعيناً على ذلك بأشكال من اختراعه. بعد ذلك نبذ "الكلاسيكية الجديدة" ثانية لينصرف إلى أسلوب ذاتي أكثر فأكثر، تبنى فيه أشد النزعات تناقضاً، فهو يتوالي متزناً وممزقا، كيساً ومتوحشاً، ودوداً وشريراً، لكنه يبقى هو نفسه دائماً. هذا التنوع غالباً ما يفسر لدى الفنان المغمور بأنه دليل نقص في قناعته وموقفه، لكن لدى بيكاسو كان دليلاً على الاتساع والغنى والعبقرية، بفضل حيويته المتجددة والنضارة المستمرة والقلق المتواصل.
لقد كان أيضا ثمرة الرغبة المعتملة فيه أبداً للتعبير عن نفسه بحرية تامة، فبيكاسو قد يكون الفنان الوحيد في عصره الذي يفعل بالضبط ما يشاء ومتى يشاء. وفي مجتمع يتطور سريعا نحو تنظيم الحياة وبرمجتها وفق قواعد صارمة و"يمقيس" العقول، فإن موقفاً كموقفه يبدو مروعاً واستفزازياً لا محالة.
ازدراء الجمال!!
ربما كان من هوايات بيكاسو أن يثير قلق المتلقي ويعمل على استفزازه. إن ألوانه تتعارض أكثر مما تنسجم، وتكوينات معظم أعماله مثيرة بسبب ازدرائه "الجمال" وبسبب معالجته الفظة العابرة وهجوميته، فلحظة القدرة على أ ن يمتلك ليونة ماكرة، له القدرة أيضا على أن يكون صلباً مفاجئاً فولاذياً خشناً. بيكاسو، باختصار، تعبيري سن نهجاً، بفضل تجربته التكعيبية، أكثر ثورية من التعبيرية، فعشقه للحرية قادة إلى خوض التجربة مع الشكل، ليرى المدى الذي يستطيع أن يبلغه دون أن ينزلق في هوة الإسراف غير المبرر. وقد ننكر ما تراه أعيننا فندعي: بأنه لم يسقط فعلاً بسبب انغماسه المفرط ذلك، فجزء من فنه نوع من اللعبة دون جدال، إنه قاس تارة ومسل تارة أخرى. لكن هناك عدد لا يحصى من رسومه، في كل مرحلة من مراحله، يدلل على عمق مشاعره وحيوية أفكاره.
اتجاه جديد!!
في عام 1937 برز في فنه اتجاه جديد، وكان دافعه سياساً صرفاً: الحرب الأهلية الأسبانية، فحتى ذلك الحين كان بيكاسو منهمكا بمشكلاته الفنية والشخصية، أما الآن فصار همه شعبا بأكمله، حفزه بالقدر ذاته، وبعد القصف الوحشي الذي تعرضت له البلدة الصغيرة "غرنيكا" بالطائرات الفاشية، رسم ، كصرخة احتجاج، أحد أشد أعماله الفنية إدانة - يمثل أقصى ما أوحى به الرعب الناجم من الدمار في أي مكان. بعد هذا ليس عجباً أن يتخذ بيكاسو موقفا منحازا من الحرب العالمية الثانية، فمنذ ذلك الوقت شرع يرسم سلسلة من النساء الجالسات بوجوه مشوهة بوحشية، تحمل في ملامحها أقسى صنوف العذاب والحزن التي حلت بالبشرية في تلك السنوات المروعة.
حالة خاصة
فن بيكاسو يعبر عن إرادة لا حد لها للقوة، فكل شيء يلمسه يتحول إلى حالة خاصة، مع ذلك هو حين يهدمه فإنه لا يقصد جمع أشلائه من جديد، بل تشييد بناء جديد حيث تمنح الأشياء حياة جديدة أكثر إثارة وأكثر تعبيراً وأكثر استحواذاً من ذي قبل. ولا مناص من الاعتراف أن هناك كبرياء شامخة وراء هذا السلوك، كما أن هناك بالقدر ذاته كبرياء شامخة في إنسان العصر الذي لا يتوقف عن زعزعة النظام الطبيعي، وتكييف العالم إرضاء لرغباته وحاجاته، أكثر فأكثر، بالصورة التي تحلو له. بهذا المنظار، يعكس بيكاسو أحد أقوى النوازع الإنسانية في القرن العشرين، فهو بصراحة تكاد تكون وحشية، يرينا الجانب المتفوق لتلك النزعة، لكنه يجعلنا نحس، عن إقناع، بالقلق الذي توحي به الأسئلة المعذبة التي تواجه الإنسان وهو في عز سطوته وانتصاراته
منقول
تعليق