حكاية صرخة
قبل بضعة أيام في مثل هذا الشهر من عام ألف وتسعمئة وثمانية وتسعين (1998)، سُمِعَتْ في أروقة مبنى تكنولوجيا التعليم بجامعة قطر صرخة مدوية.
لم يعرف من تجمهر من الموظفين والطلبة حول السُلـّم الرئيسي من المبنى هوية صاحب الصرخة أو سببها. وكلّ ما سمعوه مني – إذ كنتُ حاضراً الواقعة – أن هذه الجامعة مليئة بالمجانين!
تزامن ذلك اليوم مع سحبي أوراق انتمائي للجامعة. وهو القرار الذي أنفقت في التفكير فيه عدة أشهر، بعدما أقفلت في وجهي كل أبواب التخرج، رغم مرور سبع سنوات على انضمامي للجامعة.كان تخصصي في قسم اللغة الإنجليزية، التابع رسمياً لكلية الإنسانيات والدراسات الاجتماعية. لكنني كنت أنتمي إلى كلية التربية رغماً عني، إذ كان الغرض من القسم تخريج مدرسي لغة إنجليزية لا لغويين أو أدباء!
لم أبال كثيراً بطبيعة الشهادة. ذلك أنني لم أنتو أصلاً الدخول في سلك التدريس. فقد كان النظام التعليمي منذ سني عمري الأولى جرحاً نازفاً بالنسبة لي. وكنت – ولا زلت – أراه سبباً للمعاناة أكثر منه وسيلة للتحصيل العلمي.
بيد أن تلك اللامبالاة كانت قاصرة على الاختبارات والدرجات، ولم تشمل حبي للعلم. وقد عُرف عني أنني كنت أحضر بعض المواد مستمعاً لأنني راغب في تحصيل الفائدة، حيث لا تشمل خطة تخصصي الدراسية تلك المواد.
لذلك، كانت سنوات الجامعة خليطاً عجيباً بين المعاناة والمتعة.
سبب المعاناة كون الدراسة تقليدية جداً رغم توفر الوسائل الحديثة، وتطور أساليب وتقنيات التعليم. ناهيك طبعاً عن الظلم الذي كثيراً ما لحق بي (وبغيري) بسبب الأنظمة واللوائح، أو تخوف بعض المدرسين من رؤساء أقسامهم، أو جهالة بعضهم أحيانا.
أما المتعة فلأنها كانت سنوات الاعتماد على الذات والقدرة على إبداء الرأي بشجاعة أكبر مما يتوافر للتلميذ في المراحل الدراسية السابقة. ذلك أنك حالما تتحول من تلميذ مدرسة إلى طالب جامعي، فإنك تحصل تلقائياً على شيء من الاحترام لك ولرأيك، باعتبارك راشداً.
لكن ذلك كله، لم يمنع من أن تتحول المؤسسة المفترض فيها أن تخرج أشخاصاً على درجة من الوعي والقدرة على التحصيل والبحث العلمي والتمكن من أدوات التفكير الأساسية، لتصبح كياناً أكاديمياً آلياً، أقصى ما يعمل لأجله هو حصول الخريج على شهادة تثبت انتهاءه من الساعات المقررة عليه.
ولأنني شهدت هذا الأمر بواقع تجربة مريرة، أخّرَتْ تخرجي من الجامعة سنتين متلاحقتين، فإنني لم أستطع تقبل فكرة أن أنضم إلى جموع الخريجين من الجامعة. فقد خبرت بنفسي بعضاً من هؤلاء الذين لا يمتلكون أياً من متطلبات التخرج الجامعي سوى ورقة رسمية مصدقة وموقعة تشهد لهم بذلك. وصادفت عدة مرات من يجهل منهم معلومات ومهارات هي من مبادئ تخصصه الذي درسه.
عندما عرضت على من أثق في آرائهم نيتي الاستقالة من الجامعة، قال لي بعضهم إنني سأفقد ثمرة هذا الجهد الذي بذلته فيها دون طائل. ذلك أن الشهادة تعني الكثير في سوق العمل الذي أنا مقبل عليه. ومن غيرها فإن القطاعين العام والخاص لن يكترثا كثيراً لمعارفي ومهاراتي، إذا لم تكن مصحوبة بشهادة جامعية.
كان رَدّي على تلك الملاحظة أنني لم أدخل الجامعة لأجل الشهادة أصلاً. وإذا كانت تلك الورقة هي همّ الخريجين ومن يوظفهم، فإن هذا يضيف لي سبباً آخر للاطمئنان إلى صواب ما انتويته. ذلك أن المجتمع (رسمياً وشعبياً) إذا جعل من العلم قيمة لا يبلغها الإنسان إلا بشهادة تخرج، فإنه بحاجة إلى زلزال يحرك ذلك الركود الذي أصابه في تفكيره وشل قدرته على تحديد أولوياته كما ينبغي. لأننا ننتهي إلى تخريج جموع من الجهلة الذين لا يرون في العلم سوى اختبارات ينبغي اجتيازها بأي وسيلة، بغض النظر عن تمكنهم من المعارف والمهارات والقيم الملازمة له.
* * *
بعدما تم توقيع الأوراق الرسمية لانسحابي من الجامعة، توجهت إلى مبنى تكنولوجيا التعليم، حيث تقع كلية التربية التي أنتمي إليها، وفي رفقتي اثنين الطلبة الجدد. طلبت منهم أن يتحروا عدم وجود أحد في الجوار، لضمان أن يكونا الشاهدين الوحيدين على تلك المغامرة.
أما أنا فتوجهت إلى الطابق العلوي من السلم الرئيسي، وملأت رئتي بنفس عميق... وصرخت!
ورغم أن الذهول طبع نفسه على وجه زميليّ، فإنها لم يكونا واثقين تماماً من إجابتهما عندما سألتهما أثناء نزولي السلم عما إذا كانا يعرفان هوية الذي صرخ. بدأ الناس في شتى أنحاء المبنى في التجمهر حول هذين الواقفين بصمت، بينما أنا أسائلهما عن ذلك المجنون الذي يصرخ في مبنى أكاديمي.
مر عليّ بعدها أسبوعان من أسعد أيام حياتي. ذلك أن الابتسامة لم تكن تفارقني منذ الاستيقاظ وحتى أخلد للنوم. والضحكة الصافية التي فارقتني في أيامي الأخيرة من الدراسة عادت على أشدها فيما أنا خارج من دهاليز الجامعة، مخلفاً ورائي كل معاناتي فيها.
* * *
كان السؤال الذي بقي معي مذ ذاك، هل يعقل أن يحصل كل هذا في أمةٍ، أول ما نزل إليها من وحي السماء قوله تعالى {اِقرَأ}؟
قبل بضعة أيام في مثل هذا الشهر من عام ألف وتسعمئة وثمانية وتسعين (1998)، سُمِعَتْ في أروقة مبنى تكنولوجيا التعليم بجامعة قطر صرخة مدوية.
لم يعرف من تجمهر من الموظفين والطلبة حول السُلـّم الرئيسي من المبنى هوية صاحب الصرخة أو سببها. وكلّ ما سمعوه مني – إذ كنتُ حاضراً الواقعة – أن هذه الجامعة مليئة بالمجانين!
تزامن ذلك اليوم مع سحبي أوراق انتمائي للجامعة. وهو القرار الذي أنفقت في التفكير فيه عدة أشهر، بعدما أقفلت في وجهي كل أبواب التخرج، رغم مرور سبع سنوات على انضمامي للجامعة.كان تخصصي في قسم اللغة الإنجليزية، التابع رسمياً لكلية الإنسانيات والدراسات الاجتماعية. لكنني كنت أنتمي إلى كلية التربية رغماً عني، إذ كان الغرض من القسم تخريج مدرسي لغة إنجليزية لا لغويين أو أدباء!
لم أبال كثيراً بطبيعة الشهادة. ذلك أنني لم أنتو أصلاً الدخول في سلك التدريس. فقد كان النظام التعليمي منذ سني عمري الأولى جرحاً نازفاً بالنسبة لي. وكنت – ولا زلت – أراه سبباً للمعاناة أكثر منه وسيلة للتحصيل العلمي.
بيد أن تلك اللامبالاة كانت قاصرة على الاختبارات والدرجات، ولم تشمل حبي للعلم. وقد عُرف عني أنني كنت أحضر بعض المواد مستمعاً لأنني راغب في تحصيل الفائدة، حيث لا تشمل خطة تخصصي الدراسية تلك المواد.
لذلك، كانت سنوات الجامعة خليطاً عجيباً بين المعاناة والمتعة.
سبب المعاناة كون الدراسة تقليدية جداً رغم توفر الوسائل الحديثة، وتطور أساليب وتقنيات التعليم. ناهيك طبعاً عن الظلم الذي كثيراً ما لحق بي (وبغيري) بسبب الأنظمة واللوائح، أو تخوف بعض المدرسين من رؤساء أقسامهم، أو جهالة بعضهم أحيانا.
أما المتعة فلأنها كانت سنوات الاعتماد على الذات والقدرة على إبداء الرأي بشجاعة أكبر مما يتوافر للتلميذ في المراحل الدراسية السابقة. ذلك أنك حالما تتحول من تلميذ مدرسة إلى طالب جامعي، فإنك تحصل تلقائياً على شيء من الاحترام لك ولرأيك، باعتبارك راشداً.
لكن ذلك كله، لم يمنع من أن تتحول المؤسسة المفترض فيها أن تخرج أشخاصاً على درجة من الوعي والقدرة على التحصيل والبحث العلمي والتمكن من أدوات التفكير الأساسية، لتصبح كياناً أكاديمياً آلياً، أقصى ما يعمل لأجله هو حصول الخريج على شهادة تثبت انتهاءه من الساعات المقررة عليه.
ولأنني شهدت هذا الأمر بواقع تجربة مريرة، أخّرَتْ تخرجي من الجامعة سنتين متلاحقتين، فإنني لم أستطع تقبل فكرة أن أنضم إلى جموع الخريجين من الجامعة. فقد خبرت بنفسي بعضاً من هؤلاء الذين لا يمتلكون أياً من متطلبات التخرج الجامعي سوى ورقة رسمية مصدقة وموقعة تشهد لهم بذلك. وصادفت عدة مرات من يجهل منهم معلومات ومهارات هي من مبادئ تخصصه الذي درسه.
عندما عرضت على من أثق في آرائهم نيتي الاستقالة من الجامعة، قال لي بعضهم إنني سأفقد ثمرة هذا الجهد الذي بذلته فيها دون طائل. ذلك أن الشهادة تعني الكثير في سوق العمل الذي أنا مقبل عليه. ومن غيرها فإن القطاعين العام والخاص لن يكترثا كثيراً لمعارفي ومهاراتي، إذا لم تكن مصحوبة بشهادة جامعية.
كان رَدّي على تلك الملاحظة أنني لم أدخل الجامعة لأجل الشهادة أصلاً. وإذا كانت تلك الورقة هي همّ الخريجين ومن يوظفهم، فإن هذا يضيف لي سبباً آخر للاطمئنان إلى صواب ما انتويته. ذلك أن المجتمع (رسمياً وشعبياً) إذا جعل من العلم قيمة لا يبلغها الإنسان إلا بشهادة تخرج، فإنه بحاجة إلى زلزال يحرك ذلك الركود الذي أصابه في تفكيره وشل قدرته على تحديد أولوياته كما ينبغي. لأننا ننتهي إلى تخريج جموع من الجهلة الذين لا يرون في العلم سوى اختبارات ينبغي اجتيازها بأي وسيلة، بغض النظر عن تمكنهم من المعارف والمهارات والقيم الملازمة له.
* * *
بعدما تم توقيع الأوراق الرسمية لانسحابي من الجامعة، توجهت إلى مبنى تكنولوجيا التعليم، حيث تقع كلية التربية التي أنتمي إليها، وفي رفقتي اثنين الطلبة الجدد. طلبت منهم أن يتحروا عدم وجود أحد في الجوار، لضمان أن يكونا الشاهدين الوحيدين على تلك المغامرة.
أما أنا فتوجهت إلى الطابق العلوي من السلم الرئيسي، وملأت رئتي بنفس عميق... وصرخت!
ورغم أن الذهول طبع نفسه على وجه زميليّ، فإنها لم يكونا واثقين تماماً من إجابتهما عندما سألتهما أثناء نزولي السلم عما إذا كانا يعرفان هوية الذي صرخ. بدأ الناس في شتى أنحاء المبنى في التجمهر حول هذين الواقفين بصمت، بينما أنا أسائلهما عن ذلك المجنون الذي يصرخ في مبنى أكاديمي.
مر عليّ بعدها أسبوعان من أسعد أيام حياتي. ذلك أن الابتسامة لم تكن تفارقني منذ الاستيقاظ وحتى أخلد للنوم. والضحكة الصافية التي فارقتني في أيامي الأخيرة من الدراسة عادت على أشدها فيما أنا خارج من دهاليز الجامعة، مخلفاً ورائي كل معاناتي فيها.
* * *
كان السؤال الذي بقي معي مذ ذاك، هل يعقل أن يحصل كل هذا في أمةٍ، أول ما نزل إليها من وحي السماء قوله تعالى {اِقرَأ}؟
كاتب المقال: خالد المحمود
طبعا هذه ليست دعوة للخروج أو الإنسحاب من الجامعة ولكن يجب عليكم كطلاب جامعة الإرتقاء بمستوى الطالب الجامعي وأعتقد هذا أقل واجب تقدموه لدينكم ووطنكم
تحياتي،،،،
تحياتي،،،،
تعليق