الــفــــرجــــة!!
د.سعيد حارب .. كاتب إماراتي
من زار بعض المدن الأوروبية لابد أنه لاحظ أن الناس يجلسون في بعض المقاهي على شكل صفوف متراصة مقابلة للشارع العام الذي يقع فيه المقهى، وقد سألت صاحبي يوماً عن هذه الظاهرة فقال: يعيش معظم الناس هنا حالة فردية، أي يأتي الإنسان بمفرده إلى المقهى وربما جاء معه صديق أو اثنان، وهم بذلك لا يحتاجون إلى الجلوس متقابلين، لذلك يجلسون إلى جانب بعضهم البعض، لا كما هي الحال في مجتمعاتنا، حيث العلاقات الاجتماعية تستدعي أن يجتمع الناس على طاولة دائرية أو مربعة حتى يستطيعوا أن يتحدثوا ويروا بعضهم بعضا، فسألته: لكن لماذا ينظرون جميعا إلى الشارع، فضحك وقال: إنهم يعيشون حالة «الفرجة» أي يتفرجون على الناس، وهم يتحركون ذهابا وإيابا إلى الشارع، فهنا «الفرجة» متعة، ألا تراهم يجلسون صامتين يحتسون القهوة أو الشاي دون أن ينطقوا بكلمة؟ فطلبت منه أن نجرب هذه المتعة، وقد شعرت بهدوء عام على الرغم من ضجيج الشارع، ولكن بعد دقيقتين التفتُّ إلى صاحبي متحدثاً، فإذا به يبتسم قائلاً: أعلم أنك لن تصمد فنحن العرب لا نعرف «الصمت» ولا «الفرجة»!!
وأذكر أني سافرت مع صديق أديب له عدد من الإنتاجات الأدبية والثقافية، وسألته عن سر انقطاعه عن العمل الإبداعي، حيث لم يصدر له أي إنتاج منذ سنوات، فقال لي: إنني أعيش مرحلة «الفرجة» فالظروف المحيطة لا تشجع على الإبداع أو الإنتاج!!
ويبدو أن حالة الفرجة ليست حالة فردية في مجتمعاتنا، فالكثير منا يعيش هذه الحالة بإرادته أو بدونها، فهو «يتفرج» على ما يدور حوله من أحداث دون أن يكون له دور في تحريكها أو تغييرها أو تطويرها، وهو بذلك «كم» معطل عن الأداء، فقد يختار البعض أن يعيش على هامش الأحداث فينزوي عن الحياة العامة فهو محدود العلاقات قليل المشاركة لا يشغله سوى يومه ولقمة عيشه، تمر عليه الأحداث الجسام في وطنه وأمته فلا تهز في بدنه شعره ولا يتحرك له جفن، وشعاره ذلك المثل الخليجي «إن سلمت أنا وناقتي ما على من رفاقتي (رفاقي)»، ومثل هذا يعيش في حالة عزلة وخوف اختياري، فهو لا يقوم بأي دور اجتماعي، لأنه خائف من أن «يحسب» ذلك عليه، أو يفهمه أحدهم «خطأً»، ولذلك آثر السلامة والدعة والعزلة، وهو خائف من النجاح، لأنه يخشى الفشل، وخائف من البداية لأنه يخشى النهاية، وخائف من الحياة، لأنه يخشى الموت، وخائف من العمل لأنه يخشى التقصير، وخائف من المشاركة، لأنه يخشى النقد، وهو خائف من ذاته لأنه لا يعرف ماذا يريد، ولذلك فإنه يؤثر السلامة ويعيش حالة «الفرجة» وينطبق على مثله قول العقاد: «إذا لم تزد في الدنيا شيئا فأنت زائد عليها»!!
وهناك من لم يختر «الفرجة»، وإنما فرضت عليه لأسباب كثيرة، فقد يعود بعضها لاختلافه في الرأي مع صاحب القرار، فقرر صاحب القرار أن يضعه في زاوية «الفرجة»، ومنهم من يقع في هذه الزاوية بسبب أصله وفصله الذي لا يعطيه مساحة أكثر من الزاوية التي «تناسبه»، ومنهم من كان سبب ذلك راجعاً لاختلافه في المذهب أو اللون أو المكانة الاجتماعية أو الموقع الجغرافي أو المالي، ولذلك فهو محصور في زاوية ضيقة لا عليه أن يخرج منها، وليس له دور في الحياة سوى أن يكون مؤديا «صغيرا» في لعبة كبيرة، وبعد ذلك عليه أن يجلس في مقاعد المتفرجين ويترك الساحة للاعبين «الكبار»، وهكذا تتعدد صور المتفرجين الذين لن يبقى لأحدهم دور سوى أن يتفرج، وتقتصر الساحة بعد ذلك على «النخبة» التي آمنت أن الفرجة ليست مكانها وإنما هي في وسط الساحة!!
إن مجتمعاً يكثر فيه المتفرجون هو مجتمع مختل التوازن معطل الإنتاج غير قادر على التقدم، وإن بدا سليم البدن! وقديماً قال الشاعر «وليس من عافية أن يكبر الورم» فالقوى المعطلة -في الغالب- هي من قوى الحراك الاجتماعي، ومن الذين يشعرون بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية، ويعملون على أن يصبح وطنهم نقياً من آفات التخلف، ويسعون لتقدمه ورقيه، وهم بذلك يختلفون رأيا وفكرا وعملا مع الآخرين، لكن اختلافهم لا يعني سوى العمل على تطوير الآراء والأفكار التي تلتقي مع غيرها في رأي للصواب هو أقرب منه للخطأ، ولذا فإن اختلاف آرائهم إنما هو اختلاف تنوعٍ لا اختلاف تضاد، والمجتمعات المتقدمة هي التي تتنوع فيها الآراء والأفكار والأساليب، لكنها تصب جميعا في مصلحة واحدة هي مصلحة الوطن والمجتمع، ويكمن النجاح في القدرة على صهر هذه الآراء في بوتقة واحدة متنوعة وموحدة في آن واحد، ولا يفعل ذلك إلا القادة القادرون على فهم التطور الطبيعي في حياة الشعوب واستيعاب ما يدور في العالم من تحولات جعلت منه قرية صغيرة.
إن من السهل أن تتم عملية قذف الناس إلى زاوية «الفرجة» بإرادتهم أو بدون إرادة، لكن من الصعب أن تجعل فرجتهم عملا وإنتاجا، لقد بقي عنترة بن شداد في زاوية الفرجة ينظر إلى قبيلته، وهي تتحطم تحت سيوف القبائل الأخرى، لكن كلمة واحدة نقلته من الفرجة إلى العمل حين قيل له والقبائل تشتت قبيلته «كر»، فقال «إنما أنا عبد لا أعرف الكر وإنما أعرف الحلب والصر!!» فقيل له «كر وأنت حر» فكان بهذه الكلمة «عنترة الذي يتغنى به العرب!!»، فالمجتمعات السليمة هي التي يبنيها الأحرار، أما المتفرج والخائف فإنه لا يعرف الكر في الحياة، وإنما هو «يمشي جنب الحيط ويقول يا ساتر» والخائف لا يبني وطناً ولا يحميه، ويبدو أن كثيراً من العرب يعيش حالة الفرجة لا على المستوى الفردي أو المجتمعي، بل على مستوى الأمة، إذ الملاحظ أن الأمة استمرأت «الفرجة» على الآخرين، فهي تتفرج على التقدم العلمي عند الآخرين، وتتفرج على صناعتهم وإنتاجهم، وتجارتهم، ونجاحاتهم واختراعاتهم، وحرياتهم، وديمقراطيتهم، وأدوارهم السياسية إقليميا ودوليا وتفوقهم العسكري والاستراتيجي، وهي لا تحرك ساكنا إذا مس أحدهم طرفا منها أو همّ بحرقه، بل تطلب من الآخرين أن يتدخلوا ليحلوا مشكلاتها الداخلية والخارجية، وتتفرج على بعض أبنائها يتصارعون ويقتتلون، وتطلب من الغريب أن يتدخل لينصفهم، وتتفرج على ذلك مثلما تتفرج على أفلامهم السينمائية ومسلسلاتهم التلفزيونية، وهي تستمتع بهذه «الفرجة» لأنها تجد فيها تسلية ومتعة كتسلية أولئك الجالسين على مقاهي المدن الأوروبية!!
م
ن
ق
و
ل
د.سعيد حارب .. كاتب إماراتي
من زار بعض المدن الأوروبية لابد أنه لاحظ أن الناس يجلسون في بعض المقاهي على شكل صفوف متراصة مقابلة للشارع العام الذي يقع فيه المقهى، وقد سألت صاحبي يوماً عن هذه الظاهرة فقال: يعيش معظم الناس هنا حالة فردية، أي يأتي الإنسان بمفرده إلى المقهى وربما جاء معه صديق أو اثنان، وهم بذلك لا يحتاجون إلى الجلوس متقابلين، لذلك يجلسون إلى جانب بعضهم البعض، لا كما هي الحال في مجتمعاتنا، حيث العلاقات الاجتماعية تستدعي أن يجتمع الناس على طاولة دائرية أو مربعة حتى يستطيعوا أن يتحدثوا ويروا بعضهم بعضا، فسألته: لكن لماذا ينظرون جميعا إلى الشارع، فضحك وقال: إنهم يعيشون حالة «الفرجة» أي يتفرجون على الناس، وهم يتحركون ذهابا وإيابا إلى الشارع، فهنا «الفرجة» متعة، ألا تراهم يجلسون صامتين يحتسون القهوة أو الشاي دون أن ينطقوا بكلمة؟ فطلبت منه أن نجرب هذه المتعة، وقد شعرت بهدوء عام على الرغم من ضجيج الشارع، ولكن بعد دقيقتين التفتُّ إلى صاحبي متحدثاً، فإذا به يبتسم قائلاً: أعلم أنك لن تصمد فنحن العرب لا نعرف «الصمت» ولا «الفرجة»!!
وأذكر أني سافرت مع صديق أديب له عدد من الإنتاجات الأدبية والثقافية، وسألته عن سر انقطاعه عن العمل الإبداعي، حيث لم يصدر له أي إنتاج منذ سنوات، فقال لي: إنني أعيش مرحلة «الفرجة» فالظروف المحيطة لا تشجع على الإبداع أو الإنتاج!!
ويبدو أن حالة الفرجة ليست حالة فردية في مجتمعاتنا، فالكثير منا يعيش هذه الحالة بإرادته أو بدونها، فهو «يتفرج» على ما يدور حوله من أحداث دون أن يكون له دور في تحريكها أو تغييرها أو تطويرها، وهو بذلك «كم» معطل عن الأداء، فقد يختار البعض أن يعيش على هامش الأحداث فينزوي عن الحياة العامة فهو محدود العلاقات قليل المشاركة لا يشغله سوى يومه ولقمة عيشه، تمر عليه الأحداث الجسام في وطنه وأمته فلا تهز في بدنه شعره ولا يتحرك له جفن، وشعاره ذلك المثل الخليجي «إن سلمت أنا وناقتي ما على من رفاقتي (رفاقي)»، ومثل هذا يعيش في حالة عزلة وخوف اختياري، فهو لا يقوم بأي دور اجتماعي، لأنه خائف من أن «يحسب» ذلك عليه، أو يفهمه أحدهم «خطأً»، ولذلك آثر السلامة والدعة والعزلة، وهو خائف من النجاح، لأنه يخشى الفشل، وخائف من البداية لأنه يخشى النهاية، وخائف من الحياة، لأنه يخشى الموت، وخائف من العمل لأنه يخشى التقصير، وخائف من المشاركة، لأنه يخشى النقد، وهو خائف من ذاته لأنه لا يعرف ماذا يريد، ولذلك فإنه يؤثر السلامة ويعيش حالة «الفرجة» وينطبق على مثله قول العقاد: «إذا لم تزد في الدنيا شيئا فأنت زائد عليها»!!
وهناك من لم يختر «الفرجة»، وإنما فرضت عليه لأسباب كثيرة، فقد يعود بعضها لاختلافه في الرأي مع صاحب القرار، فقرر صاحب القرار أن يضعه في زاوية «الفرجة»، ومنهم من يقع في هذه الزاوية بسبب أصله وفصله الذي لا يعطيه مساحة أكثر من الزاوية التي «تناسبه»، ومنهم من كان سبب ذلك راجعاً لاختلافه في المذهب أو اللون أو المكانة الاجتماعية أو الموقع الجغرافي أو المالي، ولذلك فهو محصور في زاوية ضيقة لا عليه أن يخرج منها، وليس له دور في الحياة سوى أن يكون مؤديا «صغيرا» في لعبة كبيرة، وبعد ذلك عليه أن يجلس في مقاعد المتفرجين ويترك الساحة للاعبين «الكبار»، وهكذا تتعدد صور المتفرجين الذين لن يبقى لأحدهم دور سوى أن يتفرج، وتقتصر الساحة بعد ذلك على «النخبة» التي آمنت أن الفرجة ليست مكانها وإنما هي في وسط الساحة!!
إن مجتمعاً يكثر فيه المتفرجون هو مجتمع مختل التوازن معطل الإنتاج غير قادر على التقدم، وإن بدا سليم البدن! وقديماً قال الشاعر «وليس من عافية أن يكبر الورم» فالقوى المعطلة -في الغالب- هي من قوى الحراك الاجتماعي، ومن الذين يشعرون بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية، ويعملون على أن يصبح وطنهم نقياً من آفات التخلف، ويسعون لتقدمه ورقيه، وهم بذلك يختلفون رأيا وفكرا وعملا مع الآخرين، لكن اختلافهم لا يعني سوى العمل على تطوير الآراء والأفكار التي تلتقي مع غيرها في رأي للصواب هو أقرب منه للخطأ، ولذا فإن اختلاف آرائهم إنما هو اختلاف تنوعٍ لا اختلاف تضاد، والمجتمعات المتقدمة هي التي تتنوع فيها الآراء والأفكار والأساليب، لكنها تصب جميعا في مصلحة واحدة هي مصلحة الوطن والمجتمع، ويكمن النجاح في القدرة على صهر هذه الآراء في بوتقة واحدة متنوعة وموحدة في آن واحد، ولا يفعل ذلك إلا القادة القادرون على فهم التطور الطبيعي في حياة الشعوب واستيعاب ما يدور في العالم من تحولات جعلت منه قرية صغيرة.
إن من السهل أن تتم عملية قذف الناس إلى زاوية «الفرجة» بإرادتهم أو بدون إرادة، لكن من الصعب أن تجعل فرجتهم عملا وإنتاجا، لقد بقي عنترة بن شداد في زاوية الفرجة ينظر إلى قبيلته، وهي تتحطم تحت سيوف القبائل الأخرى، لكن كلمة واحدة نقلته من الفرجة إلى العمل حين قيل له والقبائل تشتت قبيلته «كر»، فقال «إنما أنا عبد لا أعرف الكر وإنما أعرف الحلب والصر!!» فقيل له «كر وأنت حر» فكان بهذه الكلمة «عنترة الذي يتغنى به العرب!!»، فالمجتمعات السليمة هي التي يبنيها الأحرار، أما المتفرج والخائف فإنه لا يعرف الكر في الحياة، وإنما هو «يمشي جنب الحيط ويقول يا ساتر» والخائف لا يبني وطناً ولا يحميه، ويبدو أن كثيراً من العرب يعيش حالة الفرجة لا على المستوى الفردي أو المجتمعي، بل على مستوى الأمة، إذ الملاحظ أن الأمة استمرأت «الفرجة» على الآخرين، فهي تتفرج على التقدم العلمي عند الآخرين، وتتفرج على صناعتهم وإنتاجهم، وتجارتهم، ونجاحاتهم واختراعاتهم، وحرياتهم، وديمقراطيتهم، وأدوارهم السياسية إقليميا ودوليا وتفوقهم العسكري والاستراتيجي، وهي لا تحرك ساكنا إذا مس أحدهم طرفا منها أو همّ بحرقه، بل تطلب من الآخرين أن يتدخلوا ليحلوا مشكلاتها الداخلية والخارجية، وتتفرج على بعض أبنائها يتصارعون ويقتتلون، وتطلب من الغريب أن يتدخل لينصفهم، وتتفرج على ذلك مثلما تتفرج على أفلامهم السينمائية ومسلسلاتهم التلفزيونية، وهي تستمتع بهذه «الفرجة» لأنها تجد فيها تسلية ومتعة كتسلية أولئك الجالسين على مقاهي المدن الأوروبية!!
م
ن
ق
و
ل
تعليق