شاءت الأقدار أن أنتقل من البيت الذي أقطنه إلى بيتٍ آخر، أصغر في الحجم وأظرف في الشكل والمحتوى، وقد أبدع فيه الفنان قيس البلوشي في رسم جدرانه وأسقفه، فحينما تدخله تشعر أنك تشق طريقاً إلى الغابات والأدغال، وبمجرد ولوجك إلى غرفة الأطفال تجد الشخصيات الكرتونية ماثلة أمامك، لا ينقصها شيءٌ سوى الحركة والحديث.
ذلكم البيت الصغير الجميل، لا يتسع لجميع أثاث المنزل القديم المستأجر، الذي بدا لاتساعه كملعبٍ، يشعرك «بالدفاشة» كل صباحٍ ومساء، فما كان مني إلا أن قررت التخلص من بعض الأثاث وبيعه، فكانت الضحية هي كراسي الصالة الفارهة، فحثثتُ الخطى صحبة الصديق «مالك شاحنة النقل» فيمننا وجهنا قِبَلَ «حلة السد» حيث يقبع سوق بيع الأثاث المستعمل، وما أن تصله سرعان ما تتراءى لك مشاهد البيع والشراء، والمماطلة، والحركة المكتظة بالبائعين والشارين، ولا تجد سوى ابتسامة العمالة الآسيوية، وحزن وكآبة البائعين الذين يضربون أخماساً بأسداس.
حينما التقيت أول بائعٍ في المحل الأول، والذي تقمص دور الأسد المشتري، سألني عن سعر الكراسي «المسكينة» المعروضة للبيع، فكنتُ صادقاً معه وأخبرته أن ثمنها سبعمائة ريال، وقد رافقتني طوال سنةٍ وثمانية أشهر، اعتنيتُ بها كثيراً، ولم تتعرض لنتفاتٍ ولا كدماتٍ ولا تغيّرات، ولا تزال «عروسا» إلى اليوم، فهز رأسه بالطريقة التقليدية المعهودة، وهو يظهر ابتسامةً تعلوها السخرية وقال: «أرباب، هذا قيمة مال هازا سامان عشرين ريال... اذا بيع أنا أشتري... واحد ريال زيادة أنا ما في يعطي».
ذلك المشهد تكرر مع الجميع، إلا أن الثاني بدأ يزداد فضاضةً في التعامل، والثالث لا يسأل عن قيمتها الأصلية، والرابع لا ينظر إليها ولا يكلمها، والخامس يلوح من بعيد بورقة العشرين ريالا، فلم أصدِّق ما أشاهد، فسألت أحدهم عن سعر «تلبيس» الكراسي بلبسةٍ جديدة، فقال بوجهٍ متطلِِّقٍ باسم: «ثمانين ريال بس» فيا سبحان الله كل الكراسي الفخمة لا تساوي ربع قيمة قماشٍ يلبس عليها.
بعد تلك الجولة المشحونة بالأعصاب، اضطررت لبيع الكراسي بالورقة الخضراء، والتي تحمل رقما كتابياً (20) حيث أن قيمة إرجاعها إلى المنطقة التي جاءت منها تصل إلى ثلاثين ريالاً في الحالة الطبيعية، وإلى سبعين ريالاً ساعة عناد صاحب الشاحنة، وهو يعلم «بتورطك» في الموضوع...
عجيبٌ هو أمر سوق الأدوات المستعملة، يأخذ منك كل شيء بعشرين ريالا فقط؛ فيتساوى الذي سعره ألف، وعشرة آلاف، وخمسمائة، ومائة ريال، فثمن الجميع هو عشرون ريالا.
أفلا يمكننا أن نفكر في طريقةٍ نحفظ بها حق المضطرين في البيع، خصوصاً من تعوزهم الحياة، ولا يجدون أمامهم سوى بيع أغراضهم، أفنترك بعض العمالة الآسيوية تستغل حاجة الناس، خصوصاً حينما يرونها محملةً فوق الشاحنة، وهم يعلمون علم يقين أنها لن ترجع أبداً إلى محضنها السابق، علام لا نفكر في استصدار قانونٍ صارم يلزم الجميع ألا يشتروا أثاثاً لا يقل سعره عن ثلاثين في المئة من سعره الأساسي، شريطة أن يكون بحالةٍ جيدة، وألا يكون هنالك ضررٌ ولا ضرار!.
تعليق