بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد ،،،
الكتاب خير جليس
خير جليس وصديق في هذه الحياة الدنيا هو (الكتاب) الذي يحفظ الصحبة ويمتع صاحبه ويمده بالزاد، وهو المأمون من الغدر والخيانة وهو الذي يرفع من شأن صاحبه قدرا ومكانة وعلوا.
وقد كان للكتاب مكانة هامة عند العرب الأوائل وهم الذين نزل افضل كتاب على وجه الارض (القرآن) بلغتهم وفي ارضهم، والذي تضمن آيات واضحة وصريحة تحث على طلب العلم والامر بالقراءة وترفع من قدر العلماء وتصفهم بأنهم الاكثر خشية ومعرفة بالخالق ومن هنا اندفع العرب وهم الذين نبغوا في قول الشعر نحو القراءة والتأليف والترجمة والاطلاع وانشأوا مدارس فكرية كرست مبدأ الحوار وتداول الرأي البناء الهادف فأبدعوا علوما واخرجوا كنوزا افادت البشرية، فكانت المشعل الذي انار الطريق للحضارات الاخرى بعد ان خمدت الحضارة الاسلامية وانطفأت شعلة العلوم فيها واضاع المسلمون الطريق القويم الذي وضعوا عليه خطواتهم الاولى وأهملوا الكتاب وتركوا القراءة فنعست عقولهم وماتت ملكة الابداع لديهم حتى وصلت بهم الاحوال الى ما وصلت اليه اليوم .
الشباب والكتاب
أخي الشاب العزيز هناك ضرورة ملحة تدفعنا للحديث عن واقع الشباب والكتاب، وهذه الضرورة تكمن في أن الشاب بلا كتاب = الفراغ الفكري والثقافي، مما يجعله عرضةً للارتواء من أي نبعٍ كان!! لذا فإني أرى ضرورة للاحتماء بالكتاب، لمواجهة أي عائق، ولتجاوز أي نوعٍ من السدود، وهذا التأكيد ناشئ من الواقع الذي نعيشه يومياً من خلال ما نلمسه من سلوكيات سلبية تصدر من فئة جيل الشباب.
ومن الأمور المسلَّم بها أن الشاب القارئ، هو شابٌ قادرٌ على أن يعيش عصره، ليبقى منتجاً فعَّالاً، وقبل ذلك نجده ذا شخصية قوية، فالقراءة وكما هو ملاحظ، تُساهم بدرجة كبيرة في صقل شخصية الإنسان، والارتقاء بطريقة تفكيره، ورسم واقعه الاجتماعي، كما أنها تساهم في تنمية الاتجاهات والقيم المرغوب فيها لدى الشباب.
وعندما نوَّد الحديث عن العلاقة المتبادلة بين الشباب والكتاب؛ فأظن بأننا سنخلص إلى كونها علاقة سلبية، تتمثل في رفض الشاب للركون إلى الكتاب الذي عُدَّ يوماً ما كخيرِ جليسٍ للإنسان، ومن أراد أن يتأكد من صحة هذا الادعاء؛ فليسأل أقرب طالبٍ إليه، من الطلبة الذين لا يزالون يدرسون في المرحلة الثانوية أو الجامعية؛ ليسمع الحقيقة المرة بنفسه.
أحوال العرب والمسلمين مقارنة بالغرب
من المؤسف حقاً ما وصل له حال الكتاب في زماننا هذا؛ فالكتاب الذي كان يوماً خير جليس، بات الآن بلا جليس، فما عاد أكثرنا يقدر مكانة الكتاب وسمو شانه فكيف له أن يجالسه؟
وهذا العامل من أهم أسباب التخلف الفكري والحضاري والعلمي والاقتصادي...إلخ، الذي يعاني منه العرب والمسلمون في زماننا هذا.
في حين أن الغرب الذي تشهد صفحات التاريخ بأنه بلا هوية أو تاريخ أو حضارة، نراه -حين اهتم بالكتاب- قد تفوق على من سواه في معظم المجالات، فالغرب اهتم بالكتاب أيما اهتمام وحرص على زرع بذور العلاقة بين الأطفال والكتاب وأسس لتلك العلاقة أساساً جيداً فاجتذبوا عقول الصغار لكتاباتهم التي تحوي أفكارهم ونظرياتهم بغض النظر عن فحواها "فقلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها قبلته" كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام.
وهنا أورد إحصائية صغيرة تقول أن عدد الكتب المباعة من أول أربعة أجزاء لسلسلة هاري بوتر القصصية قد بلغ نحو (200) مليون نسخة صدرت بـ(55) لغة ووزعت في (200) دولة، ولك أن تعي -عزيزي القارئ- مدى الاهتمام الذي أولاه الغرب للكتاب. فحق قول الله تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
فوائد القراءة
هذه وقفات عاجلة حول فوائد أو دواعي القراءة:
أولها: أن القراءة تعد وسيلة مهمة لتحصيل العلم الشرعي وإدراكه؛ فقد ذكر عن رسول الله ( ص) أنه قال : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر "، ومن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع. إن هذه النصوص وغيرها والتي تدعو إلى طلب العلم وتحث عليه، وتُفضِّلُ أهل العلم على غيرهم، وتُفضِّلُ الانشغال بالعلم على ما سواه، تدل هي أيضاً على فضل القراءة وأهميتها والحث عليها؛ حين يكون الدافع والمقصد لها تحصيل العلم الشرعي.
ثانياً: القراءة وسيلة لتوسيع المدارك والقدرات؛ لأن المرء حين يقرأ، يقرأ في اللغة وفي الأدب والتفسير والفقه والعقيدة، ويقرأ في ما ألف قديماً وألف حديثاً؛ وذلك مدعاة لتوسيع مداركه وإثراء عقليته، ولعل هذا يفسر لنا التخلف الذريع الذي نعاني منه بين صفوف كثيرٍ من شبابنا، والمسافة غير المتوازنة بين قدراتهم العقلية ابتداءً، وبين ما هم عليه من تفكير وقدرات، ويبدو ذلك حين تطرح مشكلة على بساط البحث أو النقاش، أو حين يتساءل أحدهم أو حين يقف متحدثاً؛ فتلمس من خلال ذلك ضحالة التفكير، وضعف المعالجة وسطحيتها، في حين أن ذكاءه يؤهله لمنزلة أعلى من تلك التي هو عليها.
ثالثاً: القراءة وسيلة لاستثمار الوقت، والمرء محاسب على وقته ومسؤول عنه، وسيسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، ولا يزال الكثير من الشباب يتساءل كثيراً فيم يقضي وقته، ولا يزال الفراغ يمثل هاجساً أمام الشباب يبحثون فيه عما يقضون به أوقاتهم، فتجد أكثر الشباب منهمكين في مشاهدة برامج التلفزيون أو مكثرين من اللعب بألعاب الفيديو المختلفة ويقضون فيها ساعات وساعات للقضاء على وقت الفراغ الكبير الذين يعانون منه ، لكنهم لو كانوا قد اعتادوا على القراءة وصارت دأبا لهم وديدنا لم يعودوا يشكون من هذا الفراغ ، بل لكانوا يبحثون عن الفراغ ويفرحون به ليستثمروه بالقراءة .
رابعاً: القراءة وسيلة للتعويد على البحث، إننا حينما تواجهنا مشكلة أو يطرق بالنا سؤال حول تفسير آية من كلام الله أو حول حديث أيصح أم لا؟ أو البحث عن كلمة غامضة، أو رأي فقهي أو غير ذلك من المسائل، لا يسوغ أن يكون دائماً طريقنا الأول هو السؤال لا غير، فلابد أن يكون لنا وسيلة للبحث والقراءة..
خامساً: القراءة وسيلة للإستفادة من تجارب الآخرين، إنك حين تقرأ وتعتاد على القراءة تعطي لفكرك امتداداً واسعاً على مدى الزمن لا ينتهي إلا حيث بدأ التدوين والكتابة؛ فأنت تقرأ لأولئك الذين تراهم وتعرفهم، وتقرأ لجمع ممن عاصرتهم ولم تتح لك فرصة اللقاء بهم والسماع منهم، وتقرأ لأولئك الذين سبقوك فماتوا قبلك، فالقراءة تعطيك رصيداً هائلاً عمره بالقرون، وتمدك بتجارب أولئك الذين مضوا من أزمنة كثيرة وأماكن متنوعة وثقافات مختلفة ومناهج متباينة، بل يستطيع القارئ الناقد أن يستفيد حتى من تجارب الأعداء ومما كتبوه والحق ضالة المؤمن.
كيف ننمي حب القراءة في أنفسنا ؟
ربما راودت البعض منَّا الرغبة في تنمية حُبه للقراءة، والتهامه للكتب، إلاَّ أننا -ربما- لم نهتدِ بعدُ للطريقة المثلى لتحقيق هذا المطلب، وإليك -عزيزي الشاب-، جملة من النقاط التي قد تكون كفيلة بمساعدتك في أن تصبح قارئاً نهماً، ومنها:
أولاً: وعي أهمية القراءة : فـ"الناسُ أعداءُ ما جهلُوا"، -كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)-؛ فمن يدرك هذا الأمر ويعي فوائد القراءة وأهميتها في الارتقاء بفكره وسلوكه وحياته ومجتمعه؛ فإنه سيلجأ للكتاب دوماً، وسيأخذه بقوَّة ليضعه بين يديه؛ مقلباً أوراقه. إذ علينا أن نقرأ، وأن نتمسك بالكتاب حتى لا يفاجئنا الطوفان كل يوم.
ثانياً: إزالة النفور من القراءة: عن طريق تخصيص الوقت الملائم لها، إضافة للتدرُّج في ممارستها، عبر اختيارك للكتب الصغيرة الحجم في البدء، باعتبار أن "قليلٌ تدُومُ عليه أرجى من كثيرٍ مملولٍ منهُ"؛ فمن السهل أن تقرأ كُتيب لا تتراوح عدد صفحاته (50) صفحة.. لكن، من الصعوبة أن تقرأ كتاباً من (500) صفحة في خطواتك الأولى.. أليس كذلك؟
ولتحصيل الرغبة في ممارسة القراءة، يُحبذ أن نصطحب معنا كتاباً ونحن ننتظر في المستشفى -مثلاً-، أو في الأماكن التي نضطرُّ فيها للانتظار -عادةً-، وسنرى أنفسَنا مندفعين في قراءته.
ثالثاً: القراءة الموجَّهة: لتحقيق طموحات الإنسان وتطلعُّاته؛ فمن يرغب في كسب الأصدقاء مثلاً؛ فإنه سيعمد لقراءة كتب في مبادئ العلاقات الإنسانية والاجتماعية، ومن يرغب في تطوير تجارته فسيعمد للقراءة فيما يخصُّه من أمور، ومن يرغب في تربية أولاده فسيعمد لقراءة كتب في التربية ... الخ.
رابعاً: انتقاء الكتب المناسبة: ويتم هذا الأمر بزيارة دورية للمكتبات التجارية، ومعارض الكتب، ففيها سيجد القارئ ما يشبع احتياجاته، ويتناغم مع ميوله، ويمكنك أخذ النصيحة بما يناسبك من كتب ممن تثق به.
خامساً: وضع الكتب وعرضها بشكلٍ لافت للنظر في البيت، ولتكن في متناول الأيدي دوماً.
سادساً: محاورة العلماء والمثقَّفين؛ فمجالستهم قد تجعلك قارئاً نهماً، أوليس من جالس العلماء أصبح عالماً!
سابعاً: حرر صحيفة منزلية؛ لتكتب فيها مع باقي أفراد الأسرة.
ثامناً: تحبيب القراءة والكتاب إلى النفس، حتى تلزمها وتألفها فـ"أفضل الأعمال ما أكرهت نفسَك عليه"، وعليك بالتنويع في قراءتك، ويفضل أن تنتقل من موضوع لآخر، فمثلاً، إذا كنت تقرأ كتاباً عميقاً من الحجم الكبير، فبإمكانك تركه جانباً للحظات لتقرأ قصيدة من ديوان، أو قصة من كتاب، لتسلي نفسك قليلاً وحتى لا تشعر بالملل من القراءة، جاء في الأثر: "إنَّ هذه القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدانُ؛ فابتغوا لها طرائف الحِكم".
تاسعاً: التقليل من جلسات الديوانية الطويلة مع الأصدقاء، والاستعاضة عنها بقراءة في كتاب. بل يمكن الاستفادة من هذه المجالس في القراءة بصورة جماعية مع الأصدقاء والمعارف والزملاء، فكما يمكن المذاكرة مع زملاء المدرسة والصف بالنسبة للكتب والمقررات الدراسية كذلك يمكن تشكيل حلقات للقراءة الجماعية في مجالات المعرفة والثقافة العامة بنفس الطريقة والكيفية. ولو اعتاد طلاب الثانوية -مثلاً- على هذا النمط من القراءة لأصبحت لديهم عادة في أيام الجامعة "ومن شبَّ على شيءٍ شاب عليه" كما يقال. والخير عادة كما يقول علماء التربية والأخلاق.
وهنا أذكر هذا البيت من الشعر:
نعم الأنيس إذا خلوت كتابُ تلهو به إن ملك الأحبابُ
لا مفشياً سراً إذا استودعتهُ وتنال منهُ حكمة وصوابُ
كونوا نقاد الكلام
وأخيرا أخي الشاب العزيز لابد لي أن أنبه على شئ مهم جدا .. فهذه المقولة وهي : "كونوا نقاد الكلام " نقلت عن نبي الله عيسى بن مريم (ع) ، في كلام نسب إليه .
وهي عبارة عن ثلاث كلمات موجزة ، لكنها تحمل في طياتها معنىً حضارياً راقياً ؛ فعندما نقرأها بشيء من التمعن ، نجد في ثناياها دعوةً واضحةً إلى الإنسان بأن يكون ذا حسٍ نقدي لا نقلي ! ، بمعنى أن يستمع إلى الرسالة الموجهة إليه ( شفهية كانت أم كتابية ) ، ومن ثم يقوم بنقدها فإن وجد ما استمع إليه صحيحاً أخذ به وتبناه ، وإن رآه خاطئاً رفضه وما ابتغاه .
وهناك دعوات قرآنية كثيرة بهذا الخصوص تدعم هذه الفكرة ، منها قوله تعالى : > فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب < .
فالقرآن يوجه لنا دعوة مفتوحة للاستماع والقراءة ؛ فالقول قد يكون ملفوظاً وقد يكون مكتوباً ؛ والذي أفهمه من هذه الآية الكريمة أنها توجهنا إلى الاستماع والقراءة إلى كل من هو صاحب ( فكرة ) بمعنى أن نكون منفتحين على الثقافات ، وعالم الأفكار من حولنا ، ولكن بقيدٍ ضروري حتى نحافظ على توازننا فلا نقع في حفرٍ عميقة ! .
والقيد الذي أقصده هو تحليل الفكرة ومحاولة نقدها لا أخذها على عواهنها ، كما يفعل البعض ! خصوصاً عندما يفتقدون الموجه الذي يوجههم .
وهنا أنقل حادثة تاريخية تدل على مدى النضج والوعي الذي تحلى به علماؤنا المسلمون .
فقد حدث أبو عبدالله المروزي بمكة في المسجد الحرام ـ كما نقل صاحب " العقد الفريد " مج 7 ، ص 14/15 ـ قال : حدثنا حسان وسويد صاحبا ابن المبارك ، قالا : لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطاً خرجنا معه ، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا في كل يوم ، التفت إلينا فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها ، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر ، وتركنا ههنا أبواب الجنة مفتوحة! قال : فبينما هو يمشي ونحن معه في أزقة المصيصة ، إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني :
أذلني الهــوى فأنا الذليلُ وليس إلى الذي أهوى سبيلُ
فأخرج برنامجاً من كمه ، فكتب البيت ؛ فقلنا له : أتكتب بيت شعر سمعته من سكران ؟ قال : أما سمعتم المثل : رُبّ جوهرة في مزبلة ! .
نعم ، رُبّ جوهرة في مزبلة !.. لكن ، من يعي هذه الحقيقة في هذا الزمان ؟
ومن يعي الكلمات المأثورة التي توجهنا إلى معانٍ دقيقة للغاية ، من قبيل الرائعة التي تقول : ( خذ الحكمة ولو من أهل النفاق ! ) أو ( خذ الحكمة من أي وعاء خرجت ! ) .
وأخيراً : إذا علمنا بأن أبرز صفات العقل : هي التمييز والفرز ، نعلم حينها ضرورة ممارسة العمل النقدي في حياتنا وبالخصوص الثقافية والفكرية منها .. لكن بطريقة حسنة كما هي دعوة القرآن ؛ فنغربل كل ما نسمع أو نقرأ ، ووفقا لقول السيد المسيح (ع) : " خذ الحق من أهل الباطل ، ولا تأخذ الباطل من أهل الحق " .
* * *
وقال ابن سينا : ( من تعود أن يصّدق بغير دليل ، فقد انخلع من كسوة الإنسانية ) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا تنسو التقييم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد ،،،
الكتاب خير جليس
خير جليس وصديق في هذه الحياة الدنيا هو (الكتاب) الذي يحفظ الصحبة ويمتع صاحبه ويمده بالزاد، وهو المأمون من الغدر والخيانة وهو الذي يرفع من شأن صاحبه قدرا ومكانة وعلوا.
وقد كان للكتاب مكانة هامة عند العرب الأوائل وهم الذين نزل افضل كتاب على وجه الارض (القرآن) بلغتهم وفي ارضهم، والذي تضمن آيات واضحة وصريحة تحث على طلب العلم والامر بالقراءة وترفع من قدر العلماء وتصفهم بأنهم الاكثر خشية ومعرفة بالخالق ومن هنا اندفع العرب وهم الذين نبغوا في قول الشعر نحو القراءة والتأليف والترجمة والاطلاع وانشأوا مدارس فكرية كرست مبدأ الحوار وتداول الرأي البناء الهادف فأبدعوا علوما واخرجوا كنوزا افادت البشرية، فكانت المشعل الذي انار الطريق للحضارات الاخرى بعد ان خمدت الحضارة الاسلامية وانطفأت شعلة العلوم فيها واضاع المسلمون الطريق القويم الذي وضعوا عليه خطواتهم الاولى وأهملوا الكتاب وتركوا القراءة فنعست عقولهم وماتت ملكة الابداع لديهم حتى وصلت بهم الاحوال الى ما وصلت اليه اليوم .
الشباب والكتاب
أخي الشاب العزيز هناك ضرورة ملحة تدفعنا للحديث عن واقع الشباب والكتاب، وهذه الضرورة تكمن في أن الشاب بلا كتاب = الفراغ الفكري والثقافي، مما يجعله عرضةً للارتواء من أي نبعٍ كان!! لذا فإني أرى ضرورة للاحتماء بالكتاب، لمواجهة أي عائق، ولتجاوز أي نوعٍ من السدود، وهذا التأكيد ناشئ من الواقع الذي نعيشه يومياً من خلال ما نلمسه من سلوكيات سلبية تصدر من فئة جيل الشباب.
ومن الأمور المسلَّم بها أن الشاب القارئ، هو شابٌ قادرٌ على أن يعيش عصره، ليبقى منتجاً فعَّالاً، وقبل ذلك نجده ذا شخصية قوية، فالقراءة وكما هو ملاحظ، تُساهم بدرجة كبيرة في صقل شخصية الإنسان، والارتقاء بطريقة تفكيره، ورسم واقعه الاجتماعي، كما أنها تساهم في تنمية الاتجاهات والقيم المرغوب فيها لدى الشباب.
وعندما نوَّد الحديث عن العلاقة المتبادلة بين الشباب والكتاب؛ فأظن بأننا سنخلص إلى كونها علاقة سلبية، تتمثل في رفض الشاب للركون إلى الكتاب الذي عُدَّ يوماً ما كخيرِ جليسٍ للإنسان، ومن أراد أن يتأكد من صحة هذا الادعاء؛ فليسأل أقرب طالبٍ إليه، من الطلبة الذين لا يزالون يدرسون في المرحلة الثانوية أو الجامعية؛ ليسمع الحقيقة المرة بنفسه.
أحوال العرب والمسلمين مقارنة بالغرب
من المؤسف حقاً ما وصل له حال الكتاب في زماننا هذا؛ فالكتاب الذي كان يوماً خير جليس، بات الآن بلا جليس، فما عاد أكثرنا يقدر مكانة الكتاب وسمو شانه فكيف له أن يجالسه؟
وهذا العامل من أهم أسباب التخلف الفكري والحضاري والعلمي والاقتصادي...إلخ، الذي يعاني منه العرب والمسلمون في زماننا هذا.
في حين أن الغرب الذي تشهد صفحات التاريخ بأنه بلا هوية أو تاريخ أو حضارة، نراه -حين اهتم بالكتاب- قد تفوق على من سواه في معظم المجالات، فالغرب اهتم بالكتاب أيما اهتمام وحرص على زرع بذور العلاقة بين الأطفال والكتاب وأسس لتلك العلاقة أساساً جيداً فاجتذبوا عقول الصغار لكتاباتهم التي تحوي أفكارهم ونظرياتهم بغض النظر عن فحواها "فقلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها قبلته" كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام.
وهنا أورد إحصائية صغيرة تقول أن عدد الكتب المباعة من أول أربعة أجزاء لسلسلة هاري بوتر القصصية قد بلغ نحو (200) مليون نسخة صدرت بـ(55) لغة ووزعت في (200) دولة، ولك أن تعي -عزيزي القارئ- مدى الاهتمام الذي أولاه الغرب للكتاب. فحق قول الله تعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
فوائد القراءة
هذه وقفات عاجلة حول فوائد أو دواعي القراءة:
أولها: أن القراءة تعد وسيلة مهمة لتحصيل العلم الشرعي وإدراكه؛ فقد ذكر عن رسول الله ( ص) أنه قال : "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر "، ومن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع. إن هذه النصوص وغيرها والتي تدعو إلى طلب العلم وتحث عليه، وتُفضِّلُ أهل العلم على غيرهم، وتُفضِّلُ الانشغال بالعلم على ما سواه، تدل هي أيضاً على فضل القراءة وأهميتها والحث عليها؛ حين يكون الدافع والمقصد لها تحصيل العلم الشرعي.
ثانياً: القراءة وسيلة لتوسيع المدارك والقدرات؛ لأن المرء حين يقرأ، يقرأ في اللغة وفي الأدب والتفسير والفقه والعقيدة، ويقرأ في ما ألف قديماً وألف حديثاً؛ وذلك مدعاة لتوسيع مداركه وإثراء عقليته، ولعل هذا يفسر لنا التخلف الذريع الذي نعاني منه بين صفوف كثيرٍ من شبابنا، والمسافة غير المتوازنة بين قدراتهم العقلية ابتداءً، وبين ما هم عليه من تفكير وقدرات، ويبدو ذلك حين تطرح مشكلة على بساط البحث أو النقاش، أو حين يتساءل أحدهم أو حين يقف متحدثاً؛ فتلمس من خلال ذلك ضحالة التفكير، وضعف المعالجة وسطحيتها، في حين أن ذكاءه يؤهله لمنزلة أعلى من تلك التي هو عليها.
ثالثاً: القراءة وسيلة لاستثمار الوقت، والمرء محاسب على وقته ومسؤول عنه، وسيسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، ولا يزال الكثير من الشباب يتساءل كثيراً فيم يقضي وقته، ولا يزال الفراغ يمثل هاجساً أمام الشباب يبحثون فيه عما يقضون به أوقاتهم، فتجد أكثر الشباب منهمكين في مشاهدة برامج التلفزيون أو مكثرين من اللعب بألعاب الفيديو المختلفة ويقضون فيها ساعات وساعات للقضاء على وقت الفراغ الكبير الذين يعانون منه ، لكنهم لو كانوا قد اعتادوا على القراءة وصارت دأبا لهم وديدنا لم يعودوا يشكون من هذا الفراغ ، بل لكانوا يبحثون عن الفراغ ويفرحون به ليستثمروه بالقراءة .
رابعاً: القراءة وسيلة للتعويد على البحث، إننا حينما تواجهنا مشكلة أو يطرق بالنا سؤال حول تفسير آية من كلام الله أو حول حديث أيصح أم لا؟ أو البحث عن كلمة غامضة، أو رأي فقهي أو غير ذلك من المسائل، لا يسوغ أن يكون دائماً طريقنا الأول هو السؤال لا غير، فلابد أن يكون لنا وسيلة للبحث والقراءة..
خامساً: القراءة وسيلة للإستفادة من تجارب الآخرين، إنك حين تقرأ وتعتاد على القراءة تعطي لفكرك امتداداً واسعاً على مدى الزمن لا ينتهي إلا حيث بدأ التدوين والكتابة؛ فأنت تقرأ لأولئك الذين تراهم وتعرفهم، وتقرأ لجمع ممن عاصرتهم ولم تتح لك فرصة اللقاء بهم والسماع منهم، وتقرأ لأولئك الذين سبقوك فماتوا قبلك، فالقراءة تعطيك رصيداً هائلاً عمره بالقرون، وتمدك بتجارب أولئك الذين مضوا من أزمنة كثيرة وأماكن متنوعة وثقافات مختلفة ومناهج متباينة، بل يستطيع القارئ الناقد أن يستفيد حتى من تجارب الأعداء ومما كتبوه والحق ضالة المؤمن.
كيف ننمي حب القراءة في أنفسنا ؟
ربما راودت البعض منَّا الرغبة في تنمية حُبه للقراءة، والتهامه للكتب، إلاَّ أننا -ربما- لم نهتدِ بعدُ للطريقة المثلى لتحقيق هذا المطلب، وإليك -عزيزي الشاب-، جملة من النقاط التي قد تكون كفيلة بمساعدتك في أن تصبح قارئاً نهماً، ومنها:
أولاً: وعي أهمية القراءة : فـ"الناسُ أعداءُ ما جهلُوا"، -كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)-؛ فمن يدرك هذا الأمر ويعي فوائد القراءة وأهميتها في الارتقاء بفكره وسلوكه وحياته ومجتمعه؛ فإنه سيلجأ للكتاب دوماً، وسيأخذه بقوَّة ليضعه بين يديه؛ مقلباً أوراقه. إذ علينا أن نقرأ، وأن نتمسك بالكتاب حتى لا يفاجئنا الطوفان كل يوم.
ثانياً: إزالة النفور من القراءة: عن طريق تخصيص الوقت الملائم لها، إضافة للتدرُّج في ممارستها، عبر اختيارك للكتب الصغيرة الحجم في البدء، باعتبار أن "قليلٌ تدُومُ عليه أرجى من كثيرٍ مملولٍ منهُ"؛ فمن السهل أن تقرأ كُتيب لا تتراوح عدد صفحاته (50) صفحة.. لكن، من الصعوبة أن تقرأ كتاباً من (500) صفحة في خطواتك الأولى.. أليس كذلك؟
ولتحصيل الرغبة في ممارسة القراءة، يُحبذ أن نصطحب معنا كتاباً ونحن ننتظر في المستشفى -مثلاً-، أو في الأماكن التي نضطرُّ فيها للانتظار -عادةً-، وسنرى أنفسَنا مندفعين في قراءته.
ثالثاً: القراءة الموجَّهة: لتحقيق طموحات الإنسان وتطلعُّاته؛ فمن يرغب في كسب الأصدقاء مثلاً؛ فإنه سيعمد لقراءة كتب في مبادئ العلاقات الإنسانية والاجتماعية، ومن يرغب في تطوير تجارته فسيعمد للقراءة فيما يخصُّه من أمور، ومن يرغب في تربية أولاده فسيعمد لقراءة كتب في التربية ... الخ.
رابعاً: انتقاء الكتب المناسبة: ويتم هذا الأمر بزيارة دورية للمكتبات التجارية، ومعارض الكتب، ففيها سيجد القارئ ما يشبع احتياجاته، ويتناغم مع ميوله، ويمكنك أخذ النصيحة بما يناسبك من كتب ممن تثق به.
خامساً: وضع الكتب وعرضها بشكلٍ لافت للنظر في البيت، ولتكن في متناول الأيدي دوماً.
سادساً: محاورة العلماء والمثقَّفين؛ فمجالستهم قد تجعلك قارئاً نهماً، أوليس من جالس العلماء أصبح عالماً!
سابعاً: حرر صحيفة منزلية؛ لتكتب فيها مع باقي أفراد الأسرة.
ثامناً: تحبيب القراءة والكتاب إلى النفس، حتى تلزمها وتألفها فـ"أفضل الأعمال ما أكرهت نفسَك عليه"، وعليك بالتنويع في قراءتك، ويفضل أن تنتقل من موضوع لآخر، فمثلاً، إذا كنت تقرأ كتاباً عميقاً من الحجم الكبير، فبإمكانك تركه جانباً للحظات لتقرأ قصيدة من ديوان، أو قصة من كتاب، لتسلي نفسك قليلاً وحتى لا تشعر بالملل من القراءة، جاء في الأثر: "إنَّ هذه القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدانُ؛ فابتغوا لها طرائف الحِكم".
تاسعاً: التقليل من جلسات الديوانية الطويلة مع الأصدقاء، والاستعاضة عنها بقراءة في كتاب. بل يمكن الاستفادة من هذه المجالس في القراءة بصورة جماعية مع الأصدقاء والمعارف والزملاء، فكما يمكن المذاكرة مع زملاء المدرسة والصف بالنسبة للكتب والمقررات الدراسية كذلك يمكن تشكيل حلقات للقراءة الجماعية في مجالات المعرفة والثقافة العامة بنفس الطريقة والكيفية. ولو اعتاد طلاب الثانوية -مثلاً- على هذا النمط من القراءة لأصبحت لديهم عادة في أيام الجامعة "ومن شبَّ على شيءٍ شاب عليه" كما يقال. والخير عادة كما يقول علماء التربية والأخلاق.
وهنا أذكر هذا البيت من الشعر:
نعم الأنيس إذا خلوت كتابُ تلهو به إن ملك الأحبابُ
لا مفشياً سراً إذا استودعتهُ وتنال منهُ حكمة وصوابُ
كونوا نقاد الكلام
وأخيرا أخي الشاب العزيز لابد لي أن أنبه على شئ مهم جدا .. فهذه المقولة وهي : "كونوا نقاد الكلام " نقلت عن نبي الله عيسى بن مريم (ع) ، في كلام نسب إليه .
وهي عبارة عن ثلاث كلمات موجزة ، لكنها تحمل في طياتها معنىً حضارياً راقياً ؛ فعندما نقرأها بشيء من التمعن ، نجد في ثناياها دعوةً واضحةً إلى الإنسان بأن يكون ذا حسٍ نقدي لا نقلي ! ، بمعنى أن يستمع إلى الرسالة الموجهة إليه ( شفهية كانت أم كتابية ) ، ومن ثم يقوم بنقدها فإن وجد ما استمع إليه صحيحاً أخذ به وتبناه ، وإن رآه خاطئاً رفضه وما ابتغاه .
وهناك دعوات قرآنية كثيرة بهذا الخصوص تدعم هذه الفكرة ، منها قوله تعالى : > فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب < .
فالقرآن يوجه لنا دعوة مفتوحة للاستماع والقراءة ؛ فالقول قد يكون ملفوظاً وقد يكون مكتوباً ؛ والذي أفهمه من هذه الآية الكريمة أنها توجهنا إلى الاستماع والقراءة إلى كل من هو صاحب ( فكرة ) بمعنى أن نكون منفتحين على الثقافات ، وعالم الأفكار من حولنا ، ولكن بقيدٍ ضروري حتى نحافظ على توازننا فلا نقع في حفرٍ عميقة ! .
والقيد الذي أقصده هو تحليل الفكرة ومحاولة نقدها لا أخذها على عواهنها ، كما يفعل البعض ! خصوصاً عندما يفتقدون الموجه الذي يوجههم .
وهنا أنقل حادثة تاريخية تدل على مدى النضج والوعي الذي تحلى به علماؤنا المسلمون .
فقد حدث أبو عبدالله المروزي بمكة في المسجد الحرام ـ كما نقل صاحب " العقد الفريد " مج 7 ، ص 14/15 ـ قال : حدثنا حسان وسويد صاحبا ابن المبارك ، قالا : لما خرج ابن المبارك إلى الشام مرابطاً خرجنا معه ، فلما نظر إلى ما فيه القوم من التعبد والغزو والسرايا في كل يوم ، التفت إلينا فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها ، وأيام وليال قد قطعناها في علم الشعر ، وتركنا ههنا أبواب الجنة مفتوحة! قال : فبينما هو يمشي ونحن معه في أزقة المصيصة ، إذا نحن بسكران قد رفع صوته يغني :
أذلني الهــوى فأنا الذليلُ وليس إلى الذي أهوى سبيلُ
فأخرج برنامجاً من كمه ، فكتب البيت ؛ فقلنا له : أتكتب بيت شعر سمعته من سكران ؟ قال : أما سمعتم المثل : رُبّ جوهرة في مزبلة ! .
نعم ، رُبّ جوهرة في مزبلة !.. لكن ، من يعي هذه الحقيقة في هذا الزمان ؟
ومن يعي الكلمات المأثورة التي توجهنا إلى معانٍ دقيقة للغاية ، من قبيل الرائعة التي تقول : ( خذ الحكمة ولو من أهل النفاق ! ) أو ( خذ الحكمة من أي وعاء خرجت ! ) .
وأخيراً : إذا علمنا بأن أبرز صفات العقل : هي التمييز والفرز ، نعلم حينها ضرورة ممارسة العمل النقدي في حياتنا وبالخصوص الثقافية والفكرية منها .. لكن بطريقة حسنة كما هي دعوة القرآن ؛ فنغربل كل ما نسمع أو نقرأ ، ووفقا لقول السيد المسيح (ع) : " خذ الحق من أهل الباطل ، ولا تأخذ الباطل من أهل الحق " .
* * *
وقال ابن سينا : ( من تعود أن يصّدق بغير دليل ، فقد انخلع من كسوة الإنسانية ) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا تنسو التقييم
تعليق