Sun, 27 مارس 2011
الشاعرة الإنجليزية جوان ماكنلي لعمان الثقافي:الاعتصامات السلمية في «ساحة الشعب» جعلتني أفهم الشخصية العمانية
#attachments { display: none; }منذ البدء اتفقت مع سعدي يوسف أن يتركني أتعرف على المكان بدون وساطته
حوار – يحيى الناعبي
الأسبوع الماضي قيضت لي نفسي أن اذهب في رحلة إلى الشرقية، ليومين حيث التغيير وإيجاد جو مختلف، وفي طريقي أبحث عن الخيارات التي سوف أتبعها، ومن بينها رأس الحد ببحره وهدوئه أو الأشخرة التي مرارا ما ذهبت إليها أيضا واستمتعت بأجوائها البحرية خصوصا المنطقة الفاصلة بين رأس الحد والأشخرة والمسماة برأس الدفة والخبة ورأس الرويس التي يصطدم بها موج البحر مع الجبل في هاوية عميقة تقارب الخمسين مترا في مشهد تضاريسي عجيب. قادني كل ذلك إلى أن أصل مخيم ألف ليلة وليلة برمال الشرقية مع الصديق عبدالله الحارثي، وهناك التقيت الشاعرة والأكاديمية البريطانية جوان ماكنلي ، التي أتت لعُمان برفقة الشاعر سعدي يوسف. بين عروق الصحراء، وتأملات السياقات الشعرية كان هذا الحوار مع الشاعرة التي تزور السلطنة للمرة الأولى.
* كيف نبعت فكرة زيارة عمان .. والقرار بالمكوث لفترة أطول ؟
بدأت الفكرة عند حصولي على دعوة من الفنانة نادرة محمود للقدوم برفقة الشاعر سعدي يوسف، ثم اتصلت بي شخصيا بالموافقة على تلبية الدعوة فيما لو رغب الشاعر سعدي يوسف المجيء إلى عمان ، وهناك كان الإتفاق بيني وبينه على أن يكون كل منّا مستقلا ، وبررت له أنها الزيارة الأولى لي في حين أن سعدي له أصدقاءه، بالإضافة إلى أن المكان بالنسبة له معروفا وله زيارات عدة سابقة، تختلف عن تجربتي الأولى، كما أنني تناقشت معه عن اهتمامي بالصحراء ومحاولة الكتابة عنها وعن البادية، وربما ذلك يضطرني للمكوث أكثر فأنا أكاديمية ومهمتي فكرة البحث الدقيق في أعمالي ودراساتي ، بالإضافة إلى أنني شاعرة وأحببت أن أرى مدى تأثير الصحراء في قصائدي.
* ما السبب الرئيسي من الدعوة التي وجهتها الفنانة نادرة محمود لكما؟
كان هناك انقطاع في التواصل بين سعدي يوسف ونادرة محمود استمر فترة طويلة ، وحين قرأت مؤخرا قصيدته " مصر البهية " حول أحداث ثورة مصر والتي كانت على صفحته في الفيس بوك، أعجبتها القصيدة، وعادت للتواصل معه من جديد، وجاءت فكرة دعوتها لنا لزيارة عمان . عموما وصلتنا الدعوة ، قبل اسبوع من موعد الرحلة وكنت حينها في لندن، فكانت هناك فرصة للذهاب إلى مدينتي ( Grimsby ) شمال شرق بريطانيا، حيث تقطن عائلتي وأخبرتهم بقرار سفري إلى الشرق الأوسط ، بدعوة من أحد أصدقاء الشاعر سعدي يوسف وتضمني أيضا، في البداية كانت أمي قلقة حول الموضوع، معتقدة أن الشرق الأوسط خطر بسبب ظروفه الحالية وما يمر به من تغيرات سياسية، وأحداث مصيرية، ولكنني أقنعتها بأن الموضوع جاد وهو بالنسبة لي أمر مهم، وخياري الوحيد هو الذهاب واكتشاف المكان وما زاد اقتناعي بالقرار هو أن المكان محملا بأصدقاء الشاعر سعدي ، والصحراء التي كانت الحلم في رؤيتها، وقد أفهمت أمي بأنني سوف أمكث فترة أطول في حالة أن البلاد أعجبتني، وسأتواصل معكم من هناك باستمرار وسأحدد فترة بقائي فيما لو حدث ذلك.
*نعود إلى جوان ماكنلي السوسيوثقافية خصوصا أنك قررت المكوث من أجل البحث عن المكان العماني واكتشاف سحره كما ذكرت في حديث جانبي؟
فعلا أنا ممن يحبون اكتشاف الثقافات الأخرى ، ولا يكفيني عبر الزيارات الخاطفة كما يقوم بها الغالبية، بل أبدأها باللغة وتعلمها بحيث يسهل لي اكتشاف ثقافة الآخر وسلوكه ، صحيح أنني أبدأها في القراءة المرئية عبر المشاهدات بما أراه، ولكن التوق إلى تعلم اللغة أمر مهم بالنسبة لي، وهذا ما حدث أثناء الرحلة إلى برلين الشرقية عام 1988، وذلك عندما كانت خط برلين لا يزال قائما، وقد عشت فيها طويلا، وتعلمت اللغة الألمانية، لذا أعتبر ألمانيا وطني الآخر لغة وثقافة، كما أنني عايشت وضعا سياسيا مختلفا عمّا عهدته في بريطانيا، مما أتاح لي ربط ثقافتين مختلفتين غير منسجمتين في تلك المرحلة ، وكما تعلم حدثت بعد ذلك تحولات سياسية عاصرتها بعد انهيار جدار برلين، اكسبتني تلك التحولات معرفة سوسيولوجية بين مجتمعين مختلفين( غربي أوروبا وشرقيها) في دولة واحدة هي المانيا، أفهمني أكثر ماذا يعني ذلك الجدار في التحولات عند البشر، وقد عملت هناك أكاديمية في إحدى الجامعات أدرّس اللغة الإنجليزية ، وفي المقابل كنت عمّقت ثقافتي مع المجتمع الألماني عبر إتقاني اللغة وقراءتي السوسيوثقافية للمجتمع الألماني آنذاك، حينها اعتبرت أن اللغة الألمانية هي لغتي الثانية بعد اللغة الأم( الإنجليزية)، ومن خلال مكوثي الطويل، كانت لي قصائد حول المكان والتغييرات التي حدثت فيه، وهي تجربة جد رائعة، وعند عودتي إلى بريطانيا أدركت أنني بحاجة إلى اكتشاف ثقافة أخرى تنتمي لهذا العالم، واعتبر ذلك جزء من التحدي الذي فرضته على نفسي في البحث عن ينبوع ثقافي آخر.
*كيف تكونت علاقتك بالصحراء وندائك لها، خصوصا أنك لم ترييها واقعا سوى الآن، من أين رماك سهمها لتشغفين بها؟
فعلا سؤالك له منطق، ولكن من خلال متابعتي للشعر العربي الكلاسيكي المترجم، سواء الجاهلي او ما بعد الإسلام والعهود التي تلته كالأموي والعباسي وغيره، فقد كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي من الشعر الكلاسيكي المترجم، والصورة الشعرية المستوحاة من الصحراء وتلك العلاقة المتبادلة بينها وبين البدوي، هي من أثارتني وكونت لدّي صورة ذهنية ، بل كانت تمثل لي المحفز الكبير لإدراك جماليات الصحراء مبكرا، قبل وصولي إلى عمان وتطأ قدماي الصحراء الحقيقية، وكانت قراءتي تلك قد بدأت عام 2002 ، عندما كنت لا أزال في ألمانيا، كما أنني لاحظت أن الشعر العربي الكلاسيكي يمتاز بتحرره في الكثير من التقاليد، وهي المفاجأة بالنسبة لي، وخصوصا تلك التجربة المتعلقة بالإيروتيكا في بعض جوانبه قياسا إلى الشعر الأوروبي المتزمت، لذا فقد حصنتني تلك القراءة المبكرة عن الشعر العربي من الفكرة المغلوطة عن العرب في الذهنية الغربية، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها الغربية، فأحببت أن أصنع لنفسي صورة أخرى خاصة عن المجتمع العربي، مختلفة عن تلك التي فرضتها الآلة الإعلامية الغربية وخصوصا الإعلام الأمريكي والبريطاني، لكنني في تلك الفترة لم أتعرف بشخص عربي، وفي المقابل كنت ألتقي بمثقفين ألمان ويهود يناقشون القضية الإسرائيلية الفلسطينية، واعتبرت ذلك النقاش من ابعاد زاوية واحدة ، لأنني لم أستمع إليها من الزاوية الأخرى " العربية"، وكانت بالنسبة لفهمي لها ناقصة، ولا تمثّل المعادلة الحقيقية وأصبح الحكم عليها ناقصا، لكنني بعد رحيلي من ألمانيا وزيارتي للمغرب وهي الزيارة الأولى للشرق الأوسط والمدخل إليه، وجاءت ضمن خيارين اليونان والقدس وقد زرتها لاحقا ، وعموما بدأت ابعاد ذلك الصراع تتضح لي من وجهة نظر عربية ، وحفزني ذلك لقراءة أعمق عن العالم العربي ، وتوجهت إلى التركيز حول ثقافته.
* لك أن تحدثيني عن مشاهداتك لحياة البدو في الفترة القصيرة الماضية ؟
الحقيقة انني لم أكوّن بعد فكرة واضحة عن طبيعة العلاقة بين البدو والصحراء ربما بسبب أنني لا أملك لغة التواصل وخصوصا أن الجميع غرباء على ثقافتي وأيضا الدهشة الأولى تضبب الوصل إلى أعماق الشيء، ولكن هذا الفقدان التواصلي منحني فرصة ومساحة كبيرة لفهم تلك العلاقة عبر لغة الجسد والإشارة، بمعنى آخر أن أشاهد تقاسيم وجه البدوي يعطيني إحساسا بقسوة الصحراء، ولكن طيبته وكرمه يحوّل المشهد على كرمها ولطفها، إذن الصورة المرئية تبدو لي، دوما متفاوتة وقراءاتها مختلفة، ولكن في مجملها تمثّل لي الدهشة كما ذكرت وهي مهمة لي في كتابة القصيدة أكثر من البحث حول المكان في الوضع الحالي.
* بالطبع أن المناخ الصحراوي أو بمجمله في شبه الجزيرة العربية مختلف عما هو في الغرب ، كيف تصفين شعورك بذلك؟
الآن وهذه الفترة التي نجلس فيها معا ونحن في مارس ، يبدو لي مثل أحد أفضل الأصياف البريطانية، رغم أننا بين الشتاء والربيع، ولكن المدهش فعلا في الصحراء هو تلك التغييرات السريعة التي يلاحظها المرء بشدة في تحولات الطقس بين النهار والليل وبين يوم وآخر ، لذا اضطرني ذلك إلى أن أعود نفسي على الانضباط اليومي في مشاهدة شروق الشمس وغروبها، مثل باقي السيّاح وهو مشهد آسر جدا، وتغيره اليومي يجعلك تشعر أن مناخ الصحراء يجب التعامل معه بحذر دقيق، فهو لا يمثل الروتين العام بل كل لحظة ولها جوها الخاص ليس من الضروري أن يتكرر، بل توقع المغاير، اعني مثلا شدني مشهد هبوب "الكوس" عند الغروب، وهي تحمل جيشا جرّرا من حبيبات الرمل في منظر مهيب ، بنسماتها الباردة، ثم تنقطع بعد فترة وتسكن، كما لو أنها استراحة المحارب، فأتساءل، أين ذهبت تلك الرياح، وما هذا السكون المطبق، وأسئلة أخرى وأخرى .. وما يمتعني أكثر هو المشي فوق صفحة الرمل الناعمة الوثيرة وصعود التلال الرملية لمشاهدة الشمس وهي تطوي صفحة النهار في غروب آسر لم أعش متعته من قبل، والسماء بصفائها تجد نفسك واقفا تتأمل زرقة السماء المائلة إلى الاحمرار والذهب الأرضي المائل البرتقالي ، ذلك على خلاف أوروبا التي تكون غالبا غائمة .
*عود إلى الشعر وكيف هي علاقتك به وخصوصا أوجه سؤال الان إلى الشعر العربي المعاصر وأسمائه الكبرى كنزار قباني والسياب ومحمود درويش وغيرهم.. هل كان لهم نصيب في مخزونك الثقافي؟
حقيقة لم أركز إلى الشعر العربي المعاصر، بالشكل الأكاديمي أو المركّز ولكن كان لي إطّلاع حوله في بعض ما ترجم لاسيما القصائد المنشورة في مجلة بانيبال أو تلك المترجمة هنا وهناك.
*بانيبال مجلة قدمت المشهد الثقافي في الشعر والرواية والقصد في بلد عربي معين سواء بمثال المغرب أو مصر أو الخليج العربي، هل صادفت أحد أعدادها يطرح مشهدا معينا؟
لا، في الحقيقة لست متابعة لكل الأعداد التي أصدرتها المجلة، ولكن ما أجده أقرأه ، فثقافتي لم أركزها في الأدب فقط، بل يشمل الثقافة العامة بمختلف أجناسها، لأنك عندما توجه نفسك لثقافة معينة، يجب عليك أن توزع برنامجك المعرفي لكافة أشكاله لتلك الثقافة، ومن هنا ما يقع بين يدي ويشكّل إحدى قنوات الثقافة العربية كنت أتابعه بشغف، واعتقد أنني إثر هذه الزيارة سأقيم علاقة أوثق في الثقافة العربية بشكل عام، ولا تنسى أنني أبدأها من الصحراء، حيث النبتة الأولى لهذه الثقافة، والمعين الأول الذي انطلقت منه.
* ما هو مخططك الحالي في الزيارة لعمان، هل تنوين زيارة مناطق أخرى غير الصحراء؟
طبعا، ولكن حاليا أريد ان أكوّن صورة عامة للمشهد، ولكن ما أريد قوله أنني بعد أيام من وصولي عمان ، أخذت حقيقة بالمكان والناس، لذا عرفت بمجرد وصولي واحتكاكي بهما أنني سأبقى طويلا في هذه البلاد، حيث أن ارتياحي لأهلها دفعني إلى أن أكمل مشروعي في قراءة المكان العماني، واكتشاف مكنوناته الجمالية، وقد ذهبت بعد خروجي من مسقط مع بعض الأصدقاء إلى نزوى والجبل الأخضر وحمرا العبريين بداخل عمان، كما توجهنا إلى جنوب الشرقية في صور وزرت شاطىء السلاحف في رأس الجنز وطيوي والمناطق التي لا أذكر أسماءها، وهنا أريد أن أخصك بشيء وهو أنني رأيت تلك الجبال العاتية حقيقة والممتدة إلى السماء والمجردة من كل شيء في مشهد مختلف عمّا عهدته في جبال أوروبا المغطى بالغابات فكوّن لي معرفة مغايرة عن السائد لدي، ثم توجهت إلى الساحل وهناك ألتقي بالبحر وسطحه الأزرق بجماله الهادىء والخلاب فتغيرت نفسيتي لصورة أخرى عن تلك التي تكونت وأنا بداخل عمان ، وهاأناذا الآن في صحراء رمال وهيبة والصورة التي ذكرتها سابقا، تخيّل كم أني أصبحت أحمل بين طيّات نفسي من تحولات في رقعة واحدة ، لذا أقول لك أنني أمام تحدي آخر لدراسة هذا المكان، ومن المؤكد أنني سألتقي بإنسان هذا المكان والتحول الثقافي باختلاف جغرافيته.ثم أضفت لها بأن هناك الجنوب والمشهد الآخر أيضا الذي يمثل خصوصيته أيضا.
*حين وصلت عمان، توافقت زيارتك مع بدء الاعتصام، وكما لاحظت ذلك التجاوب السلمي بين المعتصمين والحكومة، والتجاوب السريع من السلطات للإصلاح على خلاف بعض الدول العربية. ما هو تعليقك؟
في الخامس من مارس ذهبت بنفسي إلى اعتصام ساحة الشعب، أمام مجلس الشورى وجلست مع النساء المعتصمات، وما لاحظته أنه اعتصام سلمي واضح للعيان وفهم الناس في مطالباتهم لما يريدون من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية للتحسين الأمثل والأفضل، وبالتالي فإن ذلك الرقي في طريقع الى التعامل مع الموضوع والوسيلة في التعبير عن المطالب دون أن يؤدي إلى إيذاء الآخر جعلني أفهم الشخصية العمانية، وسلوك الإنسان العماني المسالم والراغب نحو التغيير بطريقة المتفردة والمغايرة عمّا شاهدته لبعض الدول العربية، وهذه الخصوصية هي ما تميّز الإنسان العماني ، واكتشفت خلالها أن التجاوب من قبل السلطات للمطالب هي أنهما على وفاق تام، وهي تفهم وتدرك سلوك وثقافة أبناء جلدتها بطريقة محترمة بين الطرفين، وبالنسبة لي كمراقبة من الخارج أجد أن العمانيّين خلّاقون ويتمتعون بروح الحوار المسالم في الجدال والمناقشة، وهذا ما ينعكس على السياسة العمانية في احترام الآخر وفي السلام الذي تنشده دوما للعالم الخارجي.
أخيرا .. كيف تنظرين إلى الشخصية العمانية؟
ذكرت لك في جوابي للسؤال الماضي، ولكن لا يمنع فعندي إضافات أخرى يجب أن أذكرها فباختصار يلمس المرء أن لدى العمانيين ذلك الحس العالي بالكرامة، والحقيقة أنني ذهبت مع الفنانة نادرة محمود إلى مهرجان مسقط الأخير وتجولت بصحبتها في " القرية التراثية"، وتكونت لدي مشاهدات عدة من أهمها مثلا اللبس العماني عند النساء بألوانها الزاهية والمعبّرة عن نفسية المرأة العمانية، كذلك كنت أراقب الناس وهم يطوفون في ممشى الحديقة بتجمع يشكّل لوحة في منتهى الروعة وأيضا مشهد العائلات في تجمعها والذي نفتقده كثيرا عندنا في الغرب، يمثل ألفة مميزة أثارت لدي الكثير من العناوين في تلك المشاهد عن الإنسان العماني والمنتمي على العربي أيضا، وسوف أسجّل كل مشاهداتي وأحاول أن لا أترك جزئية صغيرة عن ذلك .
الشاعرة الإنجليزية جوان ماكنلي لعمان الثقافي:الاعتصامات السلمية في «ساحة الشعب» جعلتني أفهم الشخصية العمانية
#attachments { display: none; }منذ البدء اتفقت مع سعدي يوسف أن يتركني أتعرف على المكان بدون وساطته
حوار – يحيى الناعبي
الأسبوع الماضي قيضت لي نفسي أن اذهب في رحلة إلى الشرقية، ليومين حيث التغيير وإيجاد جو مختلف، وفي طريقي أبحث عن الخيارات التي سوف أتبعها، ومن بينها رأس الحد ببحره وهدوئه أو الأشخرة التي مرارا ما ذهبت إليها أيضا واستمتعت بأجوائها البحرية خصوصا المنطقة الفاصلة بين رأس الحد والأشخرة والمسماة برأس الدفة والخبة ورأس الرويس التي يصطدم بها موج البحر مع الجبل في هاوية عميقة تقارب الخمسين مترا في مشهد تضاريسي عجيب. قادني كل ذلك إلى أن أصل مخيم ألف ليلة وليلة برمال الشرقية مع الصديق عبدالله الحارثي، وهناك التقيت الشاعرة والأكاديمية البريطانية جوان ماكنلي ، التي أتت لعُمان برفقة الشاعر سعدي يوسف. بين عروق الصحراء، وتأملات السياقات الشعرية كان هذا الحوار مع الشاعرة التي تزور السلطنة للمرة الأولى.
* كيف نبعت فكرة زيارة عمان .. والقرار بالمكوث لفترة أطول ؟
بدأت الفكرة عند حصولي على دعوة من الفنانة نادرة محمود للقدوم برفقة الشاعر سعدي يوسف، ثم اتصلت بي شخصيا بالموافقة على تلبية الدعوة فيما لو رغب الشاعر سعدي يوسف المجيء إلى عمان ، وهناك كان الإتفاق بيني وبينه على أن يكون كل منّا مستقلا ، وبررت له أنها الزيارة الأولى لي في حين أن سعدي له أصدقاءه، بالإضافة إلى أن المكان بالنسبة له معروفا وله زيارات عدة سابقة، تختلف عن تجربتي الأولى، كما أنني تناقشت معه عن اهتمامي بالصحراء ومحاولة الكتابة عنها وعن البادية، وربما ذلك يضطرني للمكوث أكثر فأنا أكاديمية ومهمتي فكرة البحث الدقيق في أعمالي ودراساتي ، بالإضافة إلى أنني شاعرة وأحببت أن أرى مدى تأثير الصحراء في قصائدي.
* ما السبب الرئيسي من الدعوة التي وجهتها الفنانة نادرة محمود لكما؟
كان هناك انقطاع في التواصل بين سعدي يوسف ونادرة محمود استمر فترة طويلة ، وحين قرأت مؤخرا قصيدته " مصر البهية " حول أحداث ثورة مصر والتي كانت على صفحته في الفيس بوك، أعجبتها القصيدة، وعادت للتواصل معه من جديد، وجاءت فكرة دعوتها لنا لزيارة عمان . عموما وصلتنا الدعوة ، قبل اسبوع من موعد الرحلة وكنت حينها في لندن، فكانت هناك فرصة للذهاب إلى مدينتي ( Grimsby ) شمال شرق بريطانيا، حيث تقطن عائلتي وأخبرتهم بقرار سفري إلى الشرق الأوسط ، بدعوة من أحد أصدقاء الشاعر سعدي يوسف وتضمني أيضا، في البداية كانت أمي قلقة حول الموضوع، معتقدة أن الشرق الأوسط خطر بسبب ظروفه الحالية وما يمر به من تغيرات سياسية، وأحداث مصيرية، ولكنني أقنعتها بأن الموضوع جاد وهو بالنسبة لي أمر مهم، وخياري الوحيد هو الذهاب واكتشاف المكان وما زاد اقتناعي بالقرار هو أن المكان محملا بأصدقاء الشاعر سعدي ، والصحراء التي كانت الحلم في رؤيتها، وقد أفهمت أمي بأنني سوف أمكث فترة أطول في حالة أن البلاد أعجبتني، وسأتواصل معكم من هناك باستمرار وسأحدد فترة بقائي فيما لو حدث ذلك.
*نعود إلى جوان ماكنلي السوسيوثقافية خصوصا أنك قررت المكوث من أجل البحث عن المكان العماني واكتشاف سحره كما ذكرت في حديث جانبي؟
فعلا أنا ممن يحبون اكتشاف الثقافات الأخرى ، ولا يكفيني عبر الزيارات الخاطفة كما يقوم بها الغالبية، بل أبدأها باللغة وتعلمها بحيث يسهل لي اكتشاف ثقافة الآخر وسلوكه ، صحيح أنني أبدأها في القراءة المرئية عبر المشاهدات بما أراه، ولكن التوق إلى تعلم اللغة أمر مهم بالنسبة لي، وهذا ما حدث أثناء الرحلة إلى برلين الشرقية عام 1988، وذلك عندما كانت خط برلين لا يزال قائما، وقد عشت فيها طويلا، وتعلمت اللغة الألمانية، لذا أعتبر ألمانيا وطني الآخر لغة وثقافة، كما أنني عايشت وضعا سياسيا مختلفا عمّا عهدته في بريطانيا، مما أتاح لي ربط ثقافتين مختلفتين غير منسجمتين في تلك المرحلة ، وكما تعلم حدثت بعد ذلك تحولات سياسية عاصرتها بعد انهيار جدار برلين، اكسبتني تلك التحولات معرفة سوسيولوجية بين مجتمعين مختلفين( غربي أوروبا وشرقيها) في دولة واحدة هي المانيا، أفهمني أكثر ماذا يعني ذلك الجدار في التحولات عند البشر، وقد عملت هناك أكاديمية في إحدى الجامعات أدرّس اللغة الإنجليزية ، وفي المقابل كنت عمّقت ثقافتي مع المجتمع الألماني عبر إتقاني اللغة وقراءتي السوسيوثقافية للمجتمع الألماني آنذاك، حينها اعتبرت أن اللغة الألمانية هي لغتي الثانية بعد اللغة الأم( الإنجليزية)، ومن خلال مكوثي الطويل، كانت لي قصائد حول المكان والتغييرات التي حدثت فيه، وهي تجربة جد رائعة، وعند عودتي إلى بريطانيا أدركت أنني بحاجة إلى اكتشاف ثقافة أخرى تنتمي لهذا العالم، واعتبر ذلك جزء من التحدي الذي فرضته على نفسي في البحث عن ينبوع ثقافي آخر.
*كيف تكونت علاقتك بالصحراء وندائك لها، خصوصا أنك لم ترييها واقعا سوى الآن، من أين رماك سهمها لتشغفين بها؟
فعلا سؤالك له منطق، ولكن من خلال متابعتي للشعر العربي الكلاسيكي المترجم، سواء الجاهلي او ما بعد الإسلام والعهود التي تلته كالأموي والعباسي وغيره، فقد كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي من الشعر الكلاسيكي المترجم، والصورة الشعرية المستوحاة من الصحراء وتلك العلاقة المتبادلة بينها وبين البدوي، هي من أثارتني وكونت لدّي صورة ذهنية ، بل كانت تمثل لي المحفز الكبير لإدراك جماليات الصحراء مبكرا، قبل وصولي إلى عمان وتطأ قدماي الصحراء الحقيقية، وكانت قراءتي تلك قد بدأت عام 2002 ، عندما كنت لا أزال في ألمانيا، كما أنني لاحظت أن الشعر العربي الكلاسيكي يمتاز بتحرره في الكثير من التقاليد، وهي المفاجأة بالنسبة لي، وخصوصا تلك التجربة المتعلقة بالإيروتيكا في بعض جوانبه قياسا إلى الشعر الأوروبي المتزمت، لذا فقد حصنتني تلك القراءة المبكرة عن الشعر العربي من الفكرة المغلوطة عن العرب في الذهنية الغربية، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها الغربية، فأحببت أن أصنع لنفسي صورة أخرى خاصة عن المجتمع العربي، مختلفة عن تلك التي فرضتها الآلة الإعلامية الغربية وخصوصا الإعلام الأمريكي والبريطاني، لكنني في تلك الفترة لم أتعرف بشخص عربي، وفي المقابل كنت ألتقي بمثقفين ألمان ويهود يناقشون القضية الإسرائيلية الفلسطينية، واعتبرت ذلك النقاش من ابعاد زاوية واحدة ، لأنني لم أستمع إليها من الزاوية الأخرى " العربية"، وكانت بالنسبة لفهمي لها ناقصة، ولا تمثّل المعادلة الحقيقية وأصبح الحكم عليها ناقصا، لكنني بعد رحيلي من ألمانيا وزيارتي للمغرب وهي الزيارة الأولى للشرق الأوسط والمدخل إليه، وجاءت ضمن خيارين اليونان والقدس وقد زرتها لاحقا ، وعموما بدأت ابعاد ذلك الصراع تتضح لي من وجهة نظر عربية ، وحفزني ذلك لقراءة أعمق عن العالم العربي ، وتوجهت إلى التركيز حول ثقافته.
* لك أن تحدثيني عن مشاهداتك لحياة البدو في الفترة القصيرة الماضية ؟
الحقيقة انني لم أكوّن بعد فكرة واضحة عن طبيعة العلاقة بين البدو والصحراء ربما بسبب أنني لا أملك لغة التواصل وخصوصا أن الجميع غرباء على ثقافتي وأيضا الدهشة الأولى تضبب الوصل إلى أعماق الشيء، ولكن هذا الفقدان التواصلي منحني فرصة ومساحة كبيرة لفهم تلك العلاقة عبر لغة الجسد والإشارة، بمعنى آخر أن أشاهد تقاسيم وجه البدوي يعطيني إحساسا بقسوة الصحراء، ولكن طيبته وكرمه يحوّل المشهد على كرمها ولطفها، إذن الصورة المرئية تبدو لي، دوما متفاوتة وقراءاتها مختلفة، ولكن في مجملها تمثّل لي الدهشة كما ذكرت وهي مهمة لي في كتابة القصيدة أكثر من البحث حول المكان في الوضع الحالي.
* بالطبع أن المناخ الصحراوي أو بمجمله في شبه الجزيرة العربية مختلف عما هو في الغرب ، كيف تصفين شعورك بذلك؟
الآن وهذه الفترة التي نجلس فيها معا ونحن في مارس ، يبدو لي مثل أحد أفضل الأصياف البريطانية، رغم أننا بين الشتاء والربيع، ولكن المدهش فعلا في الصحراء هو تلك التغييرات السريعة التي يلاحظها المرء بشدة في تحولات الطقس بين النهار والليل وبين يوم وآخر ، لذا اضطرني ذلك إلى أن أعود نفسي على الانضباط اليومي في مشاهدة شروق الشمس وغروبها، مثل باقي السيّاح وهو مشهد آسر جدا، وتغيره اليومي يجعلك تشعر أن مناخ الصحراء يجب التعامل معه بحذر دقيق، فهو لا يمثل الروتين العام بل كل لحظة ولها جوها الخاص ليس من الضروري أن يتكرر، بل توقع المغاير، اعني مثلا شدني مشهد هبوب "الكوس" عند الغروب، وهي تحمل جيشا جرّرا من حبيبات الرمل في منظر مهيب ، بنسماتها الباردة، ثم تنقطع بعد فترة وتسكن، كما لو أنها استراحة المحارب، فأتساءل، أين ذهبت تلك الرياح، وما هذا السكون المطبق، وأسئلة أخرى وأخرى .. وما يمتعني أكثر هو المشي فوق صفحة الرمل الناعمة الوثيرة وصعود التلال الرملية لمشاهدة الشمس وهي تطوي صفحة النهار في غروب آسر لم أعش متعته من قبل، والسماء بصفائها تجد نفسك واقفا تتأمل زرقة السماء المائلة إلى الاحمرار والذهب الأرضي المائل البرتقالي ، ذلك على خلاف أوروبا التي تكون غالبا غائمة .
*عود إلى الشعر وكيف هي علاقتك به وخصوصا أوجه سؤال الان إلى الشعر العربي المعاصر وأسمائه الكبرى كنزار قباني والسياب ومحمود درويش وغيرهم.. هل كان لهم نصيب في مخزونك الثقافي؟
حقيقة لم أركز إلى الشعر العربي المعاصر، بالشكل الأكاديمي أو المركّز ولكن كان لي إطّلاع حوله في بعض ما ترجم لاسيما القصائد المنشورة في مجلة بانيبال أو تلك المترجمة هنا وهناك.
*بانيبال مجلة قدمت المشهد الثقافي في الشعر والرواية والقصد في بلد عربي معين سواء بمثال المغرب أو مصر أو الخليج العربي، هل صادفت أحد أعدادها يطرح مشهدا معينا؟
لا، في الحقيقة لست متابعة لكل الأعداد التي أصدرتها المجلة، ولكن ما أجده أقرأه ، فثقافتي لم أركزها في الأدب فقط، بل يشمل الثقافة العامة بمختلف أجناسها، لأنك عندما توجه نفسك لثقافة معينة، يجب عليك أن توزع برنامجك المعرفي لكافة أشكاله لتلك الثقافة، ومن هنا ما يقع بين يدي ويشكّل إحدى قنوات الثقافة العربية كنت أتابعه بشغف، واعتقد أنني إثر هذه الزيارة سأقيم علاقة أوثق في الثقافة العربية بشكل عام، ولا تنسى أنني أبدأها من الصحراء، حيث النبتة الأولى لهذه الثقافة، والمعين الأول الذي انطلقت منه.
* ما هو مخططك الحالي في الزيارة لعمان، هل تنوين زيارة مناطق أخرى غير الصحراء؟
طبعا، ولكن حاليا أريد ان أكوّن صورة عامة للمشهد، ولكن ما أريد قوله أنني بعد أيام من وصولي عمان ، أخذت حقيقة بالمكان والناس، لذا عرفت بمجرد وصولي واحتكاكي بهما أنني سأبقى طويلا في هذه البلاد، حيث أن ارتياحي لأهلها دفعني إلى أن أكمل مشروعي في قراءة المكان العماني، واكتشاف مكنوناته الجمالية، وقد ذهبت بعد خروجي من مسقط مع بعض الأصدقاء إلى نزوى والجبل الأخضر وحمرا العبريين بداخل عمان، كما توجهنا إلى جنوب الشرقية في صور وزرت شاطىء السلاحف في رأس الجنز وطيوي والمناطق التي لا أذكر أسماءها، وهنا أريد أن أخصك بشيء وهو أنني رأيت تلك الجبال العاتية حقيقة والممتدة إلى السماء والمجردة من كل شيء في مشهد مختلف عمّا عهدته في جبال أوروبا المغطى بالغابات فكوّن لي معرفة مغايرة عن السائد لدي، ثم توجهت إلى الساحل وهناك ألتقي بالبحر وسطحه الأزرق بجماله الهادىء والخلاب فتغيرت نفسيتي لصورة أخرى عن تلك التي تكونت وأنا بداخل عمان ، وهاأناذا الآن في صحراء رمال وهيبة والصورة التي ذكرتها سابقا، تخيّل كم أني أصبحت أحمل بين طيّات نفسي من تحولات في رقعة واحدة ، لذا أقول لك أنني أمام تحدي آخر لدراسة هذا المكان، ومن المؤكد أنني سألتقي بإنسان هذا المكان والتحول الثقافي باختلاف جغرافيته.ثم أضفت لها بأن هناك الجنوب والمشهد الآخر أيضا الذي يمثل خصوصيته أيضا.
*حين وصلت عمان، توافقت زيارتك مع بدء الاعتصام، وكما لاحظت ذلك التجاوب السلمي بين المعتصمين والحكومة، والتجاوب السريع من السلطات للإصلاح على خلاف بعض الدول العربية. ما هو تعليقك؟
في الخامس من مارس ذهبت بنفسي إلى اعتصام ساحة الشعب، أمام مجلس الشورى وجلست مع النساء المعتصمات، وما لاحظته أنه اعتصام سلمي واضح للعيان وفهم الناس في مطالباتهم لما يريدون من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية للتحسين الأمثل والأفضل، وبالتالي فإن ذلك الرقي في طريقع الى التعامل مع الموضوع والوسيلة في التعبير عن المطالب دون أن يؤدي إلى إيذاء الآخر جعلني أفهم الشخصية العمانية، وسلوك الإنسان العماني المسالم والراغب نحو التغيير بطريقة المتفردة والمغايرة عمّا شاهدته لبعض الدول العربية، وهذه الخصوصية هي ما تميّز الإنسان العماني ، واكتشفت خلالها أن التجاوب من قبل السلطات للمطالب هي أنهما على وفاق تام، وهي تفهم وتدرك سلوك وثقافة أبناء جلدتها بطريقة محترمة بين الطرفين، وبالنسبة لي كمراقبة من الخارج أجد أن العمانيّين خلّاقون ويتمتعون بروح الحوار المسالم في الجدال والمناقشة، وهذا ما ينعكس على السياسة العمانية في احترام الآخر وفي السلام الذي تنشده دوما للعالم الخارجي.
أخيرا .. كيف تنظرين إلى الشخصية العمانية؟
ذكرت لك في جوابي للسؤال الماضي، ولكن لا يمنع فعندي إضافات أخرى يجب أن أذكرها فباختصار يلمس المرء أن لدى العمانيين ذلك الحس العالي بالكرامة، والحقيقة أنني ذهبت مع الفنانة نادرة محمود إلى مهرجان مسقط الأخير وتجولت بصحبتها في " القرية التراثية"، وتكونت لدي مشاهدات عدة من أهمها مثلا اللبس العماني عند النساء بألوانها الزاهية والمعبّرة عن نفسية المرأة العمانية، كذلك كنت أراقب الناس وهم يطوفون في ممشى الحديقة بتجمع يشكّل لوحة في منتهى الروعة وأيضا مشهد العائلات في تجمعها والذي نفتقده كثيرا عندنا في الغرب، يمثل ألفة مميزة أثارت لدي الكثير من العناوين في تلك المشاهد عن الإنسان العماني والمنتمي على العربي أيضا، وسوف أسجّل كل مشاهداتي وأحاول أن لا أترك جزئية صغيرة عن ذلك .
تعليق