[align=center]يا بنيّ إنني أمك
عبدالملك القسام
الحمد لله فارج الهم، وكاشف الغم، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وبعد:
يا بني:
هذه رسالة مكلومة من أمك المسكينة.. كتبتها على استحياء بعد تردد وطول انتظار.. أمسكت بالقلم
مرات فحجزته الدمعة! وأوقفت الدمعة مرات، فجرى أنين القلب.
يا بني.. بعد هذا العمر الطويل أراك رجلا سويا مكتمل العقل، متزن العاطفة..
ومن حق عليك أن تقرأ هذه الورقة وإن شئت بعد فمزقها كما مزقت أطراف قلبي من قبل!
يا بني.. منذ خمسة وعشرين عاما كان يوما مشرقا في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل!
والأمهات يا بني يعرفن معنى هذه الكلمة جيدا! فهي مزيج من الفرح والسرور، وبداية معاناة مع
التغيرات النفسية والجسمية.. وبعد هذه البشرى حملتك تسعة أشهر في بطني فرحة جذلى، أقوم
بصعوبة، وأنام بصعوبة، وآكل بصعوبة، وأتنفس بصعوبة. لكن ذلك كله لم ينتقص من محبتي لك
وفرحي بك! بل نمت محبتك مع الأيام، وترعرع الشوق إليك!
حملتك يا بني وهنا على وهن، وألما على ألم.. أفرح بحركتك، وأسر بزيادة وزنك، وهي حمل علي ثقيل!
إنها معاناة طويلة أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم
والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه قلم، ولا يتحدث عنه لسان..
اشتد بي الألم حتى عجزت عن البكاء، ورأيت بأم عيني الموت مرات عديدة! حتى خرجت إلى الدنيا
فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي، وأزالت كل آلامي وجراحي، بل حنوت عليك مع شدة ألمي
وقبلتك قبل أن تنال منك قطرة ماء!
يا بني.. مرت سنوات من عمرك وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلت حجري لك فراشا، وصدري
لك غذاء.. سهرت ليلي لتنام.. وتعبت نهاري
لتسعد.. أمنيتي كل يوم: أن أرى ابتسامتك. وسروري في كل لحظة: أن تطلب شيئا أصنعه لك.. فتلك
هي منتهى سعادتي!
ومرت الليالي والأيام وأنا على تلك الحال خادمة لم تقصر، ومرضعة لم تتوقف، وعاملة لم تسكن،
وداعية لك بالخير والتوفيق لا تفتر، أرقبك يوما بعد يوم حتى اشتد عودك، واستقام شبابك، وبدت عليك
معالم الرجولة، فإذا بي أجري يمينا وشمالا لأبحث لك عن المرأة التي طلبت!
وأتى موعد زواجك، واقترب زمن زفافك، فتقطع قلبي، وجرت مدامعي، فرحة بحياتك الجديدة، وحزنا
على فراقك! ومرت الساعات ثقيلة، واللحظات بطيئة، فإذا بك لست إبني الذي أعرفك. اختفت ابتسامتك،
وغاب صوتك، وعبس محياك،، لقد أنكرتني وتناسيت حقي! تمر الأيام أراقب طلعتك، وأنتظر بلهف
سماع صوتك.
لكن الهجر طال والأيام تباعدت! أطلت النظر إلى الباب فلم تأت! وأرهفت السمع لرنين الهاتف حتى
ظننت بنفسي الوسواس! هاهي الليالي قد أظلمت، والأيام تطاولت، فلا أراك ولا أسمع صوتك، وتجاهلت
من قامت بك خير قيام!
يا بني: لا أطلب إلا أقل القليل.. اجعلني في منزلة أطرف أصدقائك عندك، وأبعدهم حظوة لديك! اجعلني
يا بني إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق..
يا بني.. احدودب ظهري.، وارتعشت أطرافي، وأنهكتني الأمراض، وزارتني الأسقام.. لا أقوم إلا
بصعوبة، ولا أجلس إلا بمشقة، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك!
لو أكرمك شخص يوما لأثنيت على حسن صنيعه، وجميل إحسانه.. وأمك أحسنت إليك إحسانا لا تراه
ومعروفا لا تجازيه.. لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات! فأين الجزاء والوفاء؟! ألهذا الحد بلغت
بك القسوة وأخذتك الأيام؟!
يا بني.. كلما علمت أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري.. وأتعجب وأنت صنيع يدي.. أي ذنب جنيته
حتى أصبحت عدوة لك لا تطيق رؤيتي، وتتثاقل زيارتي؟! هل أخطأت يوما في معاملتك، أو قصرت
لحظة في خدمتك؟! اجعلني من سائر خدمك الذين تعطيهم أجورهم.. وامنحني جزءا من رحمتك..
ومنّ عليّ ببعض أجري.. وأحسن فإن الله يحب المحسنين! يا بني أتمنى رؤيتك! لا أريد سوى ذلك!
دعني أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك.
يا بني.. تفطر قلبي، وسالت مدامعي، وأنت حي ترزق! ولا يزال الناس يتحدثون على حسن خلقك
وجودك وكرمك!
يا بني.. أما آن لقلبك أن يرق لامرأة ضعيفة أضناها الشوق، وألجمها الحزن! جعلت الكمد شعارها،
والغم دثارها! وأجريت لها دمعا، وأحزنت قلبا، وقطعت رحما..
يا بني: هاهو باب الجنة دونك فاسلكه، وأطرق بابه بايتسامة عذبة، وصفح جميل، ولقاء حسن.. لعلي
ألقاك هناك برحمة ربي كما في الحديث : « الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب، أو
احفظه » [رواه أحمد]
يا بني: أعرفك منذ شب عودك، واستقام شبابك، تبحث عن الأجر والمثوبة، لكنك اليوم نسيت حديث
النبي صلى الله عليه وسلم : « إن أحب الأعمال إلى الله الصلاة في وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد
في سبيل الله » [متفق عليه].
هاك هذا الأجر دون قطع الرقاب وضرب الأعناق، فأين أنت من أحب الأعمال؟!
يا بني: إنني أعيذك أن تكون ممن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقول : « رغم أنفه، ثم رغم أنفه،
ثم رغم أنفه! قيل: من يا رسول الله؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل
الجنة » [رواه مسلم]
يا بني.. لن أرفع الشكوى، ولن أبث الحزن، لأنهما إن ارتفعت فوق الغمام، واعتلت إلى باب السماء
أصابك شؤم العقوق، ونزلت بك العقوبة، وحلت بدارك المصيبة..لا، لن أفعل..لا تزال يا بني فلذة كبدي،
وريحانة فؤادي وبهجة دنياي!
أفق يا بني.. بدأ الشيب يعلو مفرقك، وتمر السنوات ثم تصبح أبا شيخا، والجزاء من جنس العمل،
وستكتب رسائل لابنك بالدموع مثلما كتبتها إليك.. وعند الله تجتمع الخصوم!
يا بني.. أتق الله في أمك.. « والزمها فإن الجنة عند رجليها » كفكف دمعها، وواس حزنها، وإن شئت
بعد ذلك فمزق رسالتها!
[move=right]
واعلم : أن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.. [/move]
دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442[/align]
عبدالملك القسام
الحمد لله فارج الهم، وكاشف الغم، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وبعد:
يا بني:
هذه رسالة مكلومة من أمك المسكينة.. كتبتها على استحياء بعد تردد وطول انتظار.. أمسكت بالقلم
مرات فحجزته الدمعة! وأوقفت الدمعة مرات، فجرى أنين القلب.
يا بني.. بعد هذا العمر الطويل أراك رجلا سويا مكتمل العقل، متزن العاطفة..
ومن حق عليك أن تقرأ هذه الورقة وإن شئت بعد فمزقها كما مزقت أطراف قلبي من قبل!
يا بني.. منذ خمسة وعشرين عاما كان يوما مشرقا في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل!
والأمهات يا بني يعرفن معنى هذه الكلمة جيدا! فهي مزيج من الفرح والسرور، وبداية معاناة مع
التغيرات النفسية والجسمية.. وبعد هذه البشرى حملتك تسعة أشهر في بطني فرحة جذلى، أقوم
بصعوبة، وأنام بصعوبة، وآكل بصعوبة، وأتنفس بصعوبة. لكن ذلك كله لم ينتقص من محبتي لك
وفرحي بك! بل نمت محبتك مع الأيام، وترعرع الشوق إليك!
حملتك يا بني وهنا على وهن، وألما على ألم.. أفرح بحركتك، وأسر بزيادة وزنك، وهي حمل علي ثقيل!
إنها معاناة طويلة أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم
والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه قلم، ولا يتحدث عنه لسان..
اشتد بي الألم حتى عجزت عن البكاء، ورأيت بأم عيني الموت مرات عديدة! حتى خرجت إلى الدنيا
فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي، وأزالت كل آلامي وجراحي، بل حنوت عليك مع شدة ألمي
وقبلتك قبل أن تنال منك قطرة ماء!
يا بني.. مرت سنوات من عمرك وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلت حجري لك فراشا، وصدري
لك غذاء.. سهرت ليلي لتنام.. وتعبت نهاري
لتسعد.. أمنيتي كل يوم: أن أرى ابتسامتك. وسروري في كل لحظة: أن تطلب شيئا أصنعه لك.. فتلك
هي منتهى سعادتي!
ومرت الليالي والأيام وأنا على تلك الحال خادمة لم تقصر، ومرضعة لم تتوقف، وعاملة لم تسكن،
وداعية لك بالخير والتوفيق لا تفتر، أرقبك يوما بعد يوم حتى اشتد عودك، واستقام شبابك، وبدت عليك
معالم الرجولة، فإذا بي أجري يمينا وشمالا لأبحث لك عن المرأة التي طلبت!
وأتى موعد زواجك، واقترب زمن زفافك، فتقطع قلبي، وجرت مدامعي، فرحة بحياتك الجديدة، وحزنا
على فراقك! ومرت الساعات ثقيلة، واللحظات بطيئة، فإذا بك لست إبني الذي أعرفك. اختفت ابتسامتك،
وغاب صوتك، وعبس محياك،، لقد أنكرتني وتناسيت حقي! تمر الأيام أراقب طلعتك، وأنتظر بلهف
سماع صوتك.
لكن الهجر طال والأيام تباعدت! أطلت النظر إلى الباب فلم تأت! وأرهفت السمع لرنين الهاتف حتى
ظننت بنفسي الوسواس! هاهي الليالي قد أظلمت، والأيام تطاولت، فلا أراك ولا أسمع صوتك، وتجاهلت
من قامت بك خير قيام!
يا بني: لا أطلب إلا أقل القليل.. اجعلني في منزلة أطرف أصدقائك عندك، وأبعدهم حظوة لديك! اجعلني
يا بني إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق..
يا بني.. احدودب ظهري.، وارتعشت أطرافي، وأنهكتني الأمراض، وزارتني الأسقام.. لا أقوم إلا
بصعوبة، ولا أجلس إلا بمشقة، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك!
لو أكرمك شخص يوما لأثنيت على حسن صنيعه، وجميل إحسانه.. وأمك أحسنت إليك إحسانا لا تراه
ومعروفا لا تجازيه.. لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات! فأين الجزاء والوفاء؟! ألهذا الحد بلغت
بك القسوة وأخذتك الأيام؟!
يا بني.. كلما علمت أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري.. وأتعجب وأنت صنيع يدي.. أي ذنب جنيته
حتى أصبحت عدوة لك لا تطيق رؤيتي، وتتثاقل زيارتي؟! هل أخطأت يوما في معاملتك، أو قصرت
لحظة في خدمتك؟! اجعلني من سائر خدمك الذين تعطيهم أجورهم.. وامنحني جزءا من رحمتك..
ومنّ عليّ ببعض أجري.. وأحسن فإن الله يحب المحسنين! يا بني أتمنى رؤيتك! لا أريد سوى ذلك!
دعني أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك.
يا بني.. تفطر قلبي، وسالت مدامعي، وأنت حي ترزق! ولا يزال الناس يتحدثون على حسن خلقك
وجودك وكرمك!
يا بني.. أما آن لقلبك أن يرق لامرأة ضعيفة أضناها الشوق، وألجمها الحزن! جعلت الكمد شعارها،
والغم دثارها! وأجريت لها دمعا، وأحزنت قلبا، وقطعت رحما..
يا بني: هاهو باب الجنة دونك فاسلكه، وأطرق بابه بايتسامة عذبة، وصفح جميل، ولقاء حسن.. لعلي
ألقاك هناك برحمة ربي كما في الحديث : « الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب، أو
احفظه » [رواه أحمد]
يا بني: أعرفك منذ شب عودك، واستقام شبابك، تبحث عن الأجر والمثوبة، لكنك اليوم نسيت حديث
النبي صلى الله عليه وسلم : « إن أحب الأعمال إلى الله الصلاة في وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد
في سبيل الله » [متفق عليه].
هاك هذا الأجر دون قطع الرقاب وضرب الأعناق، فأين أنت من أحب الأعمال؟!
يا بني: إنني أعيذك أن تكون ممن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقول : « رغم أنفه، ثم رغم أنفه،
ثم رغم أنفه! قيل: من يا رسول الله؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل
الجنة » [رواه مسلم]
يا بني.. لن أرفع الشكوى، ولن أبث الحزن، لأنهما إن ارتفعت فوق الغمام، واعتلت إلى باب السماء
أصابك شؤم العقوق، ونزلت بك العقوبة، وحلت بدارك المصيبة..لا، لن أفعل..لا تزال يا بني فلذة كبدي،
وريحانة فؤادي وبهجة دنياي!
أفق يا بني.. بدأ الشيب يعلو مفرقك، وتمر السنوات ثم تصبح أبا شيخا، والجزاء من جنس العمل،
وستكتب رسائل لابنك بالدموع مثلما كتبتها إليك.. وعند الله تجتمع الخصوم!
يا بني.. أتق الله في أمك.. « والزمها فإن الجنة عند رجليها » كفكف دمعها، وواس حزنها، وإن شئت
بعد ذلك فمزق رسالتها!
[move=right]
واعلم : أن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.. [/move]
دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442[/align]
تعليق