زارني الموتُ فجأةً ثم رحل
الساعة تدنو من الثامنة مساءً، بهذا التوقيت انتهيت من كتابة مقالي هذا، الذي بدأت كتابته من تاريخ 16/7/2011م، أي قبل شهرين ويومين وبضع ساعات تمكنت أخيراً أن أضع النقطة الأخيرة منه، منتشياً بإنجازه صارخاً بكل قوتي "انتهى". أجل، انتهى المقال الذي جالدت بالكتابة فيه وكافحت طيلة 62 يوماً، ويا لهذا الرقم من دلالة، لربما يرمز إلى الهرم والكِبر، وأجدني في الستين يوماً عشت ما يزيد عن ستين عاماً. تجربة الستين هذه لم تضف إلى رصيدي في حياة الكفاح سوى أنني أناضل من أجل لا شيء، صدقاً لا شيء!.
المضحك في المقال أنه عبارة عن مقاطع كتابية كتبتها كل يومٍ في زاويةٍ وركنٍ مختلف، وفي الأيام الأخيرة قمت بترتيبه وتهيئته، حتى يبدو لمن يقرأه أنه مقال، ولكني حقاً عجزت عن جعله يظهر كذلك، هو مجرد خواطر مهلهلة ومشتته، تسيح في مجارٍ عدة، لكنها في الأخير تصب في مصبٍ واحد، هو الحديث عن المآل الذي وصلتُ إليه بعد الحادث. وبالمناسبة لا يوجد هدف من الكتابة سوى التنفيس وتدوين ما حدث لي، كي يبقى شيء من الذكرى أعود إليه لاحقاً إن كان في العمر بقية، رغم إيماني التام الذي تواءم مع شعوري الخانق بالموت القادم القريب بعد الحادث أنه لم يبقَ في العمر بقية، حيث سبق وأن أَبَنْتُ لعددٍ من الأصدقاء مسبقاً أنني أشعر بقدوم الأجل ريثما أدخل عتبات "الثلاثين" وأقطع منه بعض الشهور لا غير، وها أنا دخلت الثلاثين فعلاً، وتبقت لي أربعة أيام لأنهي شهري الأول منه.
في أحيانٍ كثيرة أعجز عن التعبير شفاهةً عما يجول في داخلي لمن حولي، وأجدني أفرُّ إلى القلم لأكتب كل ما أريد قوله، وحالما أنتهي من الكتابة أمزق الأوراق، ذلك أنني انتهيت من مأربي، ولا حاجة للاحتفاظ بفضفضاتٍ أزعجتني فبحت بها لقلمي وورقتي؛ وحديثاً تكفل الحاسب الآلي بموضوع الورقة والقلم، وأصبح لرنين "لوحة المفاتيح" صدىً أعمق وأبلغ بل وأمتع.
يوم الخميس في منتصف شهر يوليو، كنتُ أسير بأمانٍ واطمئنان في طريقي، ولأصدقكم القول لا أتذكر حقاً شيئاً من التفاصيل قبل الحادث أو أثناءه، كل ما أعرفه ووصل إليّ أنني كنتُ أقود "سوبارو" ليجاسي سوداء اللون، قادماً من نادي بهلاء ومتجهاً إلى الطريق المزدوج (خميلة- نزوى) الموصل إلى مسقط، وقرب قلعة بهلاء وبعد المقبرة على الميمنة في المنحنى المرتفع العالي، تفاجأت بأحد الأخوة متجاوزاً السيارة التي أمامه وبسرعةٍ عالية، وبما أن الطريق لم يكن مزدوجاً، لم يجد أمامه سوى سيارتي المشؤومة، ولم أكن أعلم من قبل أن بين "المكسيما البيضاء" و"الليجاسي السوداء" علاقة حبٍ وغرامٍ ووئام، حتى تعانقتا سريعاً، وبلمح البرق "قَبّلَتْ" كل واحدةٍ منهما الأخرى، ولسوء حظي أنني للمرة الأولى أغفل ارتداء حزام الأمان منذً مدةٍ طويلة، فما كان مني إلا أن قفزت إلى "الجامة" الأمامية، وكأني أود الخروج لمشاهدة لحظة الالتقاء الحميمة هذه.
حقاً لا أتذكر شيئاً من ذلك اللقاء "البهلاوي" الغريب سوى أنني أفقت وبعض الدم متجمعٌ في فمي، فلم أدرك حينها من أين أتى، وفي الحقيقة لم أكترث به البتة، إذ كان همي هو الاطمئنان على صحة البقية. احتضننا مستشفى "بهلاء" القديم للعلاج، وهو تحفة معمارية طبية عظيمة، بلا ريب يفخر بها جميع سكان ولاية بهلاء والمناطق المجاورة، ولفخامة المستشفى وجماله وتطور آلياته وتعاظم بنيانه وتزاحم الأيدي الطبية العاملة فيه تجد نفسك راضخاً للاستجابة للعلاج "واقفاً"، فما حاجة "الأَسِرَّةِ" في مبنىً هكذا وصفه! ولله الحمد قررنا الخروج من هذا المكان "الفاره" فجر يوم الغد، ولم أكُن يومها أعاني من إصاباتٍ شديدة سوى تورم ضلع الصدر، وجروح بسيطة في اليد، ورضوض في الساقين وبقية أجزاء الرجلين، مع ألمٍ طفيف في الرأس.
كانت الرضوض تشعرني بالعجز والهرم سريعاً، فلم أقوَ على الصلاة سوى جالساً، ورَابَطَ الألمُ معي رباطاً مشهوداً له بالوفاء والإخلاص بل والافتداء، لكنما الأمر على ما يبدو يسيراً، فالأطباء يؤكدون أن الأمر يحتاج إلى راحةٍ واسترخاء لا أكثر، وخلال شهرين ستذهب آلام الرجلين واليد والصدر، وسأعود إلى الحياة طازجاً كسابق عهدي إن لم يكن أفضل. لكن المفاجأة أنني نسيت أمر الاصطدام العنيف بين رأسي و"الجامة" الأمامية للسيارة، فما كان من رأسي إلا أن وبخني على هذا النسيان، فقسا عليَّ كثيراً، وما زال يستمتع بتعذيبي، ولا أدري متى سيرضى عني، بالرغم من أنني أقسمت له الأيمان المغلظة أنني لن أنساه مجدداً، لكن هيهات هيهات، فهو يعاقب عقاباً عسيراً ولا يعرف للرحمة والشفقة طريقاً.
دائما ما كنت أردد في داخلي أنني غير مستفيدٍ من المنزل الذي استأجرته سوى بضع السويعات التي أقضيها فيه للنوم، وأتحسر على مبلغ الإيجار الذي يقصم الظهر شهرياً، فأنا طوال وقتي خارج المنزل، وهذا ما يقتضيه العمل الصحفي. وللمرة الأولى في حياتي أقضي كل وقتي بالمنزل، وأحفظُ كل تفاصيله الدقيقة، ولا أستطيع أن أبارح سريري إلا نادراً، حيث بدأ الرأس يقدم لي وجباته الدسمة، وكل يومٍ يجبرني على التقيؤ دماً، فانتصب رأسي أشواكاً، وفي كل مرةٍ أُخرج الدم فيها من فمي أشعر بطعم ورائحة الموت. ما كان يحيرني، أنني فعلاً كنت أشتم روائح أنواع الطيب المستخدمة في تغسيل الأموات، ولا أدري لماذا استمر ذلكم الشعور، وأصبحت أرى نفسي مسجىً على الأرض والأحبة من حولي يبكون. مسألة الموت لازمتني كثيراً في الأيام الماضية، إلى درجة أنني أيقنت بقدومه قريباً، وقد يكون الموضوع مجرد تهيأت نفسية لا أكثر، ولكنني أعترف أنني استسلمت لتلكم التهيؤات وأنا مكبل الإرادة مسلوب العزيمة.
قبل العيد بأسبوع توقفت عن التقيؤ، ولله الحمد لم أرَ الدم يومها يخرج من فمي. هذا الدم حيرني كثيراً، مثلما حير الطبيب المختص بالأعصاب في المستشفى السلطاني، حتى أن الطبيب بدأ يشعر بأنني مختلٌ عقلياً أو مريضٌ نفسياً، وسألني سؤالاً غريباً، إلى اليوم لا أعرف الرابط بينه وبين حالتي، وهو: هل لديك أبناء؟ ولماذا ليس لديك؟ فعلاً سؤالٌ غريب، والأغرب أنه كان يسأله بكل اهتمامٍ وثقةٍ وفضول، قد يكون لذلك سبب، بل الأكيد أن له سبباً، لكنني إلى اليوم لم أعرف السبب، ولم أكلف نفسي عناء سؤال الطبيب عنه، ولكنه يطرق مخيلتي المرحومة كثيراً. الدوار رافقني في مسيرة حياتي بعد الحادث إلى الآن، والتركيز منعدمٌ لدي للغاية، والفحوصات تبين أنه لا يوجد خطرٌ في رأسي، فقد كان الأطباء قلقين من وجود تجمع الدم في الرأس، وبعد الأشعة تبين أنه لا يوجد داعٍ للقلق، وحالتي الصحية جيدة، ولا تعدو أن تكون كل هذه الآلام والأوجاع مجرد "ارتجاجٍ بالمخ" لا أكثر!!.
حينما كانت تأتيني بعض الاتصالات وأرى أسماء بعض المتصلين ولم أتمكن من تذكرهم أو معرفة أي شيءٍ يخصهم أيقنت أنني بدأت أفقد جزءاً من ذاكرتي، وما أحزنني أكثر أنني قمت بقراءة جميع الأسماء الموجودة بهاتفي فلم أتذكر عددا كبيرا منهم، والطريف أنهم حينما يتصلون بي أقوم بمجاراتهم والحديث معهم كأنني أعرفهم، والحقيقة أنني لا أعلم شيئاً عن أكثرهم، والمحرج أنهم يتحدثون عن أشياء تخصهم وتعني لهم الشيء الكثير، وأنا كالمعتوه أردد ("أوه"، "حلو"، "ممتاز"، "جيد"، "ما شاء الله"، و"إيش أخبارك بعد؟"، و"شو الجديد؟"... وهكذا دواليك مع أغلب المتصلين إلا من تلطفت بهم الذاكرة ولم تلقِ بهم إلى جزءها المفقود.
ما آلمني أيضاً، أنني فقدتُ جزءاً كبيراً من محفوظاتي، وهذا أيضاً أمرٌ غريبٌ للغاية بالنسبة لي على الأقل، فجميع الأشعار والقصائد المغرم بها والتي قضيت عمري كله أحفظها ذهبت أدراج الرياح، وحينما أقرأها من جديد لا أشعر أنني حفظتها يوماً وأنها بالنسبة لي كأنني أقرأها للمرة الأولى، حتى القرآن الكريم، فقدت كل محفوظاتي فيه، وبعض الأجزاء التي كنت أواظب مراجعتها بعد فتراتٍ طويلةٍ للأسف هي الأخرى جميعها التغت من ذاكرتي، والأدهى من ذلك والأمر أنني أخذت أكثر من يومٍ لأحفظ سورة الفاتحة، فهل يعقل أن أنسى هذه أيضاً وكنت أقرأها يومياً أكثر من عشرين مرةٍ من خلال الصلوات الخمس؟! فعلا الأمر أثار حفيظتي واستغرابي، بالرغم من أن الأطباء أكدوا لي عودة كل المحفوظات والمعلومات قريباً بمشيئة الله، وإن لم تعد سأقاضيهم على ذلك، فجرمهم أنهم أطلقوا وعوداً لأمرٍ عظيمٍ فقدته، وأشعر بالغصة لذهابه.
آلام الرأس العنيفة مستمرة، وضعف النظر مع اتساع العين اليسرى أقلقني كثيراً، بعض الأعراض لا أجد لها تفسيراً، وأشعر بأنها جوانب نفسية، لكنني أعايشها بشدة، كـ"زغللة العينان"، واتساع إحداهما عن الأخرى، والشعور بالإرهاق التام، مع الإعراض عن كل ملذات وملاهي الحياة، إضافة إلى الاكتئاب القاتم، فأجدني مكتئباً مختنقاً طوال وقتي، ولم أعد أرى بصيصاً "للسعادة" أو "الفرح" أو "الأمل"، على النقيض تماماً سيطر "الشؤم" و"القلق" و"التوتر" و"الخوف" و"الهذيان" و"توقع الأحداث السيئة كثيراً"، والعجيب أنني لم أعد أطمح لشيءٍ أبداً، فلغة الطموح مُسِحَت من قاموسي، ولم أجد ذلك الحافز والتحدي والصراع في أعماقي، استسلمت لكل شيء. كل الموازين اختلّت بداخلي، وإلى اليوم لا أستطيع قيادة السيارة إلا والإغماء يزورني والصداع يسيطر عليَّ والتركيز لا وجود له، بل أنني أكون أحياناً واقف بالسيارة وأشعر أنها تتحرك، فأضغط على المكابح بكل قوتي هلوعاً ضجراً قلقاً فزعا، وأكتشف بعد وهلة أن السيارة واقفة في مكانها لم تتحرك قيد أنملة.
الأرق هو الآخر سيطر عليَّ كثيراً، فلا أستطيع النوم في اليوم إلا ساعاتٍ قليلةٍ جداً، بل أحياناً لا أستطيع النوم ليومين متواصلين، فأنام لساعتين أو أقلٍ في اليوم الثالث، كما أنني أصبحتُ شخصاً لا يُطاق، ذلك أنني أنفعل بسرعة، ولا أتحمل سماع أية كلمةٍ وإن كانت غير جارحة، انفعالي الشديد هو الآخر بات يقلقني كثيراً، كما أنني أصبحت أُسيءُ الظن بالآخرين ولا أثق في نواياهم، ولا أدري ما علاقة هذا كله بالحادث. لربما كل ما سبق أقل ضرراً على نفسي من عدم مقدرتي على الكتابة، فأنا أقضي ساعاتٍ طويلة جداً لكي أكتب مقالاً صغيراً من 400 كلمة مثلاً، هذا الأمر أزعجني وآلمني "وحطمني"، ذلك أن مهنتي تقتضي الكتابة، ومن غيرها لا قيمة لي في مؤسستي، والمؤسف أن الكتابة اليوم تتمنع عليَّ كثيراً، وأجد الأمور تزداد سوءاً، ولا أعلم إلى أين تسير بي الأقدار، والأطباء ينصحونني بالراحة التامة، لكنني حقاً عاجزٌ عن الراحة، فإن ارتاح البدن، ففي داخل النفس وساوس وهواجس وهموم، ومنغصات الحياة كثيرة، ولا بد من الاقتتال حتى نضمن لقمة العيش، والله يعلم أنني لم أعد ضامناً لها، إنما الرزق بيد الله،
"وفي السماء رزقكم وما توعدون"، هذه الآية التي ما فتئ صديقي الحميم "زهران" يكررها لي .
وما أجد في حياتي أنني بفضلٍ من الله، سأدخل "ابن سينا" للعلاج، وما يدريكم أيها الأصدقاء قد تعلمون أنني بلغت الغاية وغدوت مجنوناً، لأتحرر من عبودية هذه الدنيا، فأصبح العاقل الحقيقي، فكلنا نعلم أن الأصحاء هم المجانين وأن المجانين هم العقلاء في هذه الدنيا المتحولة المتقلبة الغريبة. وهكذا زارني الموت فجأةً ثم رحل، لكنه حتماً سيعود فجميعنا سنغادر هذه الحياة.
تعليق