يعرف علماء النفس وعلماء التربية "الذكاء"، بأنه القدرة على مواجهة الصعاب, ومهارة التكيف مع الظروف الطارئة، ومن ثم حل المشاكل التي تعترض طريق الفرد. أي أن ذكاء الانسان الحقيقي – حسب هذا التعريف - يوضع على المحك في زمن الأزمات، أكثر منه في زمن الدعة والراحة.إن هذا التعريف حديث نسبيا, بينما يرتبط المفهوم التقليدي للذكاء، بالقدرة على التفكير, والاستنتاج المنطقي, والتوهج العقلي، والألمعية، والقدرة على خزن المعلومات، والتوصل اليها، حتى أن كلمة "انتيليجينسي" (أي ذكاء) تعني في الولايات المتحدة الأمريكية، جهاز أو وكالة الاستخبارات العسكرية والسياسية الأمريكية, وهو الجهاز الذي يجمع المعلومات، ويخزنها لأجل استعمال لها وشيك.
مما تقدم نفهم أن الناس تعودوا أن يربطوا الذكاء، بالنشاط العقلي. وقد راجت في الغرب فكرة قياس الذكاء على أساس قياس قوة هذا النشاط. ولذلك كان ال "آي. كيو" عندهم، هو نسبة ذكاء الفرد الى متوسط الذكاء في المجتمع. أما بالنسبة للاطفال فيأخذون بالحسبان العمر الزمني للطفل, مقارنة بعمره العقلي. وقد أرست مدرسة "ستافورد – بينيه" قواعد نظام يعتبر أن معدل ذكاء الفرد في المجتمع هو 100، وان كل من يملك ذكاء فوق ال 100 يعتبر ذكيا. وآلية قياس الذكاء, هي امتحانات عادية بورقة وقلم، تقيس القدرة العقلية للفرد، اعتمادا على ثلاثة محاور أساسية هي القدرة على الحساب, المنطق, والبراعة اللفظية.
الذكاء المتعدد
Multiple Intelligence
وقد لاحظ بعض العلماء، أن هناك أنواعا من القدرات والمواهب الفردية لا تستطيع هذه الامتحانات قياسها. وحدث أن كثيرين من الموهوبين قد فشلوا في امتحانات الذكاء التقليدية – عند دخولهم للجامعة مثلا – ولكنهم برزوا بعد ذلك في كثير من مجالات الحياة، سواء في الجامعة التي عادت وقبلتهم، أو خارجها. وهذا ما دعا بعض العلماء توسيع مفهوم الذكاء, بحيث تشمل قدرات ومواهب للفرد غير القدرات الحسابية أو المنطقية. وفي كتابه "أطر العقل" الصادر سنة 1987، عدد عالم النفس المدعو "هاوارد جاردنر"، وهو استاذ في جامعة هارفارد، سبعة أنواع من الذكاء وعرّف الذكاء بأنه مجموعة من القدرات المستقلة الواحدة عن الأخرى, التي يمتلكها الأشخاص، في مجالات كثيرة.
اولا - الذكاء اللغوي
Linguistic inteligence
وهوالقدرة على التعبير اللغوي واستعمال الكلمات. قدرة يملكها أفراد أكثر من غيرهم. والخطباء المفوّهون، ورؤساء القوم، يملكون هذا النوع من الذكاء ويطورونه بالمران. وربما استغلوه في الوصول الى عقول الناس. وفي مسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير, يظهر لنا بوضوح كيف يكسب "بروتوس" الرأي العام لجانبه معتمدا على قوة خطابه.
وفي الآونة الاخيرة اكتشفت العلاقة الوثيقة بين اللغة والعقل. ذلك أنه لو أصاب منطقة في المخ تدعى منطقة "بروكا" أي ضرر مادي, فان هذا سيؤثر على قدرة الشخص على الكلام. وعلى الرغم من أن المصاب يظل يفهم معنى الكلمات التي يستعملها, الا أنه يصبح عاجزا عن التركيب القواعدي للجملة. وقد لاحظ جاردنر أن الاطفال الصغار والصم, يطوّرون لغتهم الخاصة بهم, عندما لا يملكون خيارا آخر للغة عامة يستعملونها. ان القدرة على فهم اللغة وبنائها قد تختلف من شخص الى آخر, ولكن اللغة كسمة معرفية هي ظاهرة عالمية.
ثانيا - الذكاء المنطقي الرياضي
Logical-mathematical intelligence
وهو أكثرما نقر به جميعا على أنه ذكاء. أنه "الأب النموذجي""archetype"، للذكاء. وهو ما يمكّن الاشخاص من التفكير الصحيح، باستعمال ادوات التفكيرالمعروفة, كالاستنتاج والتعميم، وغيرها من العمليات المنطقية. وهذه القدرة الرياضية لا تحتاج الى التعبير اللفظي عادة, ذلك ان المرء يستطيع ان يعالج مسألة رياضية في عقله دون أن يعبر عما يفعل لغويا. ثم ان الأشخاص الذين يملكون قدرة حسابية عالية, يستطيعون معالجة جل المسائل التي يعتمد حلها على قوة المنطق.
ثالثا - الذكاء الفراغي (الفضائي)
Spatial intelligence
وهو القدرة على تصور الأشكال وصور الاشياء في الفراغ (الفضاء), أي المكان ذي الثلاثة أبعاد. ونحن نستعين بهذه المهارة كلما رغبنا في صنع تمثال أو استكشاف نجم في الفضاء. وترتبط هذه القدرة بما يسمى ادراك التواجد في المكان. وبعض الناس تختلط عليهم الامكنة (عند السفر مثلا), ولا يعرفون المكان الذي يتواجدون فيه. ويستطيع آخرون العودة الى المكان الذي كانوا فيه قبل سنوات, بينما لا يستطيع غيرهم أن يحدد الجهات حتى في مكان سكناه.
وقد دلت الكشوف المخبرية الأخيرة ارتباط هذا النوع من الذكاء بمنطقة تقع في النصف الأيمن من المخ. بحيث لو تضررت هذه المنطقة لسبب ما, لفقد الانسان القدرة على تمييز الأمكنة حتى المعروفة لديه سابقا, أو التعرف الى أقرب الأشخاص اليه.
ومن المهم أن نميز بين الذكاء الفراغي وبين ملكة الرؤية بالعين. وعادة ما يخلط الناس بين الاثنين، ما داموا يعتمدون في تمييزهم للأجسام وادراكها على حاسة النظر. فالأعمى يستطيع أن يدرك الأشياء بأن يتحسسها وبدون أن يراها. وهو ما يؤكد استقلال الذكاء الفراغي عن حاسة البصر, وتشكيله جزءا من الذكاء البشري عموما.
رابعا - الذكاء الجسدي
Bodily – kinesthetic intelligence
ما يسميه غاردنر بالذكاء الجسدي والحركي، هو أكثر أنواع الذكاء السبعة المختلف حولها. انه القدرة على التحكم بنشاط الجسم وحركاته بشكل بديع. وهو مهارة لا شك يملكها الرياضيون والراقصون وعارضو الأزياء، وغيرهم من المتأنقين بأجسامهم والمعتزين بها.
ولكل فرد نصيب من هذه المهارة. والشخص السليم يملك القدرة على التحكم بجسمه وبرشاقته وتوازنه وتناسقه. وان التمرين المتواصل قد يزيد من هذه القدرات. ولكن منها ما يظهر عند بعض الافراد, حتى قبل أن يبدأ بالتمرين، كلاعبي كرة القدم المتفوقين مثلا. تماما كما تظهر براعة بعض الأفراد في الحساب قبل ان يتعلموا الحساب.
كما أن علاقة هذه المهارة بالمخ واضحة أيضا. وبما أن كل نصف من المخ يسيطر على حركات نصف الجسم المضاد له, فان ضررا يصيب أحد نصفي المخ, قد يؤدي الى عجز تام للمرء عن القيام بحركات ارادية في النصف المضاد.
خامسا - الذكاء الايقاعي الموسيقي
Musical intelligence
بعض الناس موسيقيون أكثر من غيرهم. وحب الموسيقى والاحساس بالايقاع والتفاعل معه, تظهر عند هؤلاء "الموسيقيين", سواء تعلموا الموسيقى أو لا، والمرء قد يطور القدرة الموسيقية، ولكنه لا يوجدها من فراغ. وكان "موتسارت" مثلا, قد بدأ يعزف الموسيقى ويؤلف الالحان, وهو لا يزال طفلا صغيرا. بينما يبدو بعض الناس غير موسيقيين البتة، دون أن يؤثر ذلك على مجرى حياتهم الطبيعية. وكما في باقي أنواع الذكاء، فان المهارة الموسيقية ترتبط بمناطق محددة في المخ. وعلى الرغم من المهارة الموسيقية تبدو بعيدة الشبه بالمهارة الحسابية مثلا, الا أنها تملك الاستقلال الذي يجعلها جزءا منفصلا من الذكاء الانساني.
سادسا - الذكاء الاجتماعي
Interpersonal intelligence
وهو القدرة التي يملكها الفرد على التواصل مع الآخرين. والسياسيون ممن يحظون بشعبية واسعة, والاشخاص الذين يتميزون بجاذبية خاصة ، من القياديين, يمتلكون هذه القدرة.
وعلى الرغم من أن الناس يستطيعون الحياة فرادى, الا أن الانسان اجتماعي بطبعه، مثله مثل النمل أو النحل, لا يستسيغ الحياة معزولا عن أبناء جنسه. والحياة مع الناس والتواصل معهم ليست حاجة اقتصادية فقط, أو تعاونية, بل هي حاجة نفسية وجسدية أيضا. وقد توصل بعض العلماء الى أن اصابة بليغة في مقدمة الرأس تؤدي الى الاضرار بهذه المهارة, حيث يقع جزء المخ الذي يتحكم بها.
يقول جاردنر: "إن الذكاء في العلاقات المتبادلة بين الناس هو القدرة على فهم الآخرين، وما الذي يحركهم، وكيف يمارسون عملهم، وكيف نتعاون معهم". أما فيما يتعلق بذكاء الشخصية الاجتماعية وتميزها، فقد حدد أربع مواصفات: هي القيادة، والمقدرة على تنمية العلاقات، والمحافظة على الأصدقاء، والقدرة على حل الصراعات، والمهارة في التحليل الاجتماعي.
سابعا - الذكاء الروحي أو الخارجي
Intrapersonal intelligence
وهو أن يعي الانسان نفسه والعالم الذي يعيش فيه، ويدرك العلاقات التي تربط الامور والظواهر المحيطة به، مهما بدت بعيدة أو منفصلة الواحدة عن الاخرى. ووعي المرء لنفسه يعني ان يتعمق في نوعية مشاعره, وماهية وجوده. وهو وعي يقود عاجلا أو آجلا, الى الاعتزاز بالنفس وتقديرها, والى قوة الشخصية الذي يميز الانبياء والمفكرين والمصلحين الاجتماعيين.
أما ضعف هذا النوع من الذكاء, فيؤدي الى ضعف وعي الشخص بذاته، والى انقطاعه عن المحيط الذي يعيش به, كما يحدث للأطفال الفاقدي الصلة بما حولهم autistics"".
وكثيرا ما لا يبرز هذا النوع من الذكاء في الأشخاص الذين يملكونه من الخارج، الا اذا عبر عنه في صيغ مناسبة وملموسة، كالكتابة مثلا والرسم، فنرى تفجر الشخصية التي بدت لنا على السطح شخصية راكدة أولا. أو حين يعبر عنها بصيغ غير ملموسة كالفرح والغضب.
الممتع في نظرية جاردن أنه يبقي الباب مفتوحا على وجود أنواع اخرى من الذكاء, غير التي أشار اليها. وهو نفسه قال ان هناك حوالي عشرين مدخلا كالتي سجلها. ولذلك فقد اجتهد آخرون غيره, في ايجاد وتسمية أنواع أخرى من الذكاء. ومن هذا الانواع من اضيف مؤخرا الى القائمة كالذكاء الطبيعي (naturalist intelligence) وعنوا به قدرة المرء على أن يصنف ويحدد أنماطا في الطبيعة. مثلا كان الانسان القديم يستطيع أن يميز بين ما يمكن اكله وما لا يمكن من الاحياء والجوامد. أما في العصر الحديث, فان الذكاء الطبيعي يظهر في قدرة المرء على تمييز التغييرات الحاصلة في المجتمع, والظواهر الطارئة.
وقد أضيف أيضا الذكاء العاطفي emotional intelligence"". وهو حسب دانيل جولمان "أن تكون قادرا على حث نفسك باستمرار في مواجهة الإحباطات والتحكم في النزوات، وتأجيل إحساسك بإشباع النفس وإرضائها، والقدرة على تنظيم حالتك النفسية، ومنع الأسى أو الألم من شل قدرتك على التفكير، وأن تكون قادرا على التعاطف والشعور بالأمل".
Haward Garner- كتاب "Frames Of Mind" جامعة هارفارد 1987
تعليق