مهما نأى النائي وغاب، وسئِم السَّائِم وساب، فلا بدَّ من الحنين والشوق للمُستقَرِّ والمَضْجَع ومسقِط الرأس؛ فالوطن كالأُمِّ التي يأوِي إليها الصغيرُ عند انحدارِ شمس الأصيل إذا مالت نحو الغروب؛ فيعود إليه البعيدُ بدُموعٍ تَذْرِف على خدِّه شوقًا لوطنه الذي تربَّى فيه، واستنشق هواءه، واستظلَّ تحت سمائه، إنه يشتاق إليه اشتياقَ الأرضِ الجَدْباءِ إلى قطرات المطر؛ بل شوق المسافر للماءِ الباردِ بعد أن ألْهبتْه حرارةُ الشمس السَّاطعة وذرَّاتُ الرِّمال الحارَّة.
إنه يحِنُّ لوطنه حنينَ الأم لطفلِها الرضيع إذا صرخ، والمريضِ إذا أنَّ، والبعيدِ إذا طال غيابُه؛ فالوطن حِضنٌ دافئٌ لا يمَلُّ، وذراع قويَّةٌ لا تكل، وحِصن متين لا ينهدُّ، به الأمنُ والأمان.
هو المسكن الواسع، لا يئِطُّ ولا يئِنُّ لجمِّهم الغفير، ولا يضِيق إذا كثُروا، ولا يتضجَّرُ إذا بقوا، ولا يسأمُ إذا ظلُّوا فيه مدى حياتهم, موضوع تعبير عن الوطن.
هو المَرْكَب الهَنِيُّ بخضرةِ أشجارِه، ونقاء هوائه، ودَماثَةِ أخلاق أهله، به تطمئنُّ النفس وتستقرُّ، ويرتاح البالُ ويفتخر، ويستكين الفؤادُ وينبهر بروعة جماله الخلَّاب، غنَّى له الشعراء فأبدعوا؛ قال أحدهم:
وطني وهبْتُك باقتناعٍ مُهْجَتي
ودمي فدًى ما عِشتُ لا أتردَّدُ
لك في الجوانح نبْعُ حبٍّ دافق
في كل ثانية تمرُّ يُجدَّدُ
وقال الآخر:
ولِي وطنٌ آليتُ ألَّا أبيعَه ??? وألَّا أرى غيري له الدَّهرَ مالكَا
وقال الزبيريُّ:
بحثتُ عن هِبةٍ أحْبُوك يا وطني ??? فلم أجدْ لك إلَّا قلبيَ الدَّامي
وتكلَّم عنه الأدباء وأطْنَبوا، حمايتُه واجبٌ، والذَّودُ عنه فريضة، والقيام بخدمته طاعة، والرجوع إليه شوق ومحبة.
يظنُّ بعضُ المُتقوِّلين أن حبَّ الوطنِ كلامٌ يُتَرَنَّمُ به، وشِعرٌ يُنْظَم فيه، ونثرٌ يُسجَع عنه، متناسيًا أن حبَّ الوطن قولٌ وعمل، حبٌّ وتفانٍ، جِدٌّ وإخلاصٌ، أثبتتْه الأيام، وشهِدت به اللَّيالي، وحكم به الواقع؛ فالناس صِنفان:
1- صِنفٌ: يقول ويعمل، يجدُّ ويجتهد، يأخذ ويعطي، يُفيد ويستفيد، إذا حكَمَ حكَم بعدلٍ وإنصاف، وإذا ذاد عن وطنه ذاد بحبٍّ وإخلاص، وإذا أُوكِلَ إليه مسؤوليةٌ تَحَمَّلَها بأمانة فلا يفرِّطُ بها؛ بل يؤدِّيها على أكمل وجه، ما إن يُمسِك منصبًا إلَّا وكان الأجدرَ والأنجح والأفضل في عمله، الجلوس معه راحة، والسير متعة، والكلام يُفيد؛ لهذا يكتبه التاريخ في أعلى صفحاته، تتبادل ذكره الألْسنُ، وتُحكى سيرتُه للأبناء، فيخلُد ذكرُه مدى العمر، ويُدعى له بالرحمة والمغفرة كلما مرَّ على طَرَف لسان؛ فمِن أُولئك الأعلامِ الأشاوس أمثالُ: سعد بن أبي وقاص، والمُثنَّى، وخالد بن الوليد...، فَهَا هو (رستم) يقول كلمته المشهورة: " يا ليتني تبادلت معك يا سعد...".
2- صنف: يظلُّ يُثرْثِر أينما حلَّ أو ظلَّ، يُكثر الكلام ويُقلُّ العمل، تسمعُ منه جَعْجَعةً ولا ترى طِحْنًا، يدَّعي الوطنيةَ وهو عنها بعيدٌ بُعدَ الشمس في كبد السماء، فلقد خصَّص له التاريخ صفحةً سمَّاها: (أردأ صفحات التاريخ)، رماه في زاويةٍ مهجورة عفِنَةٍ، يُذكر بالخيانة والعمالة، لم يرَ الناس منه يومًا أبيضَ في حياته، إذا جلس على كُرسِيٍّ أهانه؛ غشَّ، وسلب، ونهب، تتداوله الألسن بأسوأ ما فيه، فلا خلُقَ له، سفيهٌ في قومه، حقيرٌ في عشيرته، بذيءٌ في مجتمعه، يسرق أملاكَ وطنه، وينهب خيراتِه، ويسفك دماء أبنائه، هتَّاكٌ لأعراض العامة، يعيث في وطنه فسادًا وإجرامًا، فهذا الصِّنف يمقتُه الوطنُ وأبناؤه؛ فلا يقبلُه جنديًّا في صفوف مقاتليه، ولا موظَّفًا في مكاتبه، ولا طبيبًا في مستشفياته، ولا فردًا يحِقُّ له البقاءُ فوق تُرابه، يرميه الوطن رميَ البحر بالميتة؛ بل يُفرِده المجتمع إفرادَ البعيرِ المُبعَد، حديثه غِيبة، موضوع تعبير عن العلم, وسِرُّه نميمة، إذا ولَغ في الماء عكَّره، وإذا جلس في مجلسٍ أفسده، وإذا دخل بين الناس أشْعل بينهم الفتنة؛ فحُقَّ للوطن أن ينفيَه، ويرميَه؛ قال تعالى: ? فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ? [الرعد: 17].
إنه يحِنُّ لوطنه حنينَ الأم لطفلِها الرضيع إذا صرخ، والمريضِ إذا أنَّ، والبعيدِ إذا طال غيابُه؛ فالوطن حِضنٌ دافئٌ لا يمَلُّ، وذراع قويَّةٌ لا تكل، وحِصن متين لا ينهدُّ، به الأمنُ والأمان.
هو المسكن الواسع، لا يئِطُّ ولا يئِنُّ لجمِّهم الغفير، ولا يضِيق إذا كثُروا، ولا يتضجَّرُ إذا بقوا، ولا يسأمُ إذا ظلُّوا فيه مدى حياتهم, موضوع تعبير عن الوطن.
هو المَرْكَب الهَنِيُّ بخضرةِ أشجارِه، ونقاء هوائه، ودَماثَةِ أخلاق أهله، به تطمئنُّ النفس وتستقرُّ، ويرتاح البالُ ويفتخر، ويستكين الفؤادُ وينبهر بروعة جماله الخلَّاب، غنَّى له الشعراء فأبدعوا؛ قال أحدهم:
وطني وهبْتُك باقتناعٍ مُهْجَتي
ودمي فدًى ما عِشتُ لا أتردَّدُ
لك في الجوانح نبْعُ حبٍّ دافق
في كل ثانية تمرُّ يُجدَّدُ
وقال الآخر:
ولِي وطنٌ آليتُ ألَّا أبيعَه ??? وألَّا أرى غيري له الدَّهرَ مالكَا
وقال الزبيريُّ:
بحثتُ عن هِبةٍ أحْبُوك يا وطني ??? فلم أجدْ لك إلَّا قلبيَ الدَّامي
وتكلَّم عنه الأدباء وأطْنَبوا، حمايتُه واجبٌ، والذَّودُ عنه فريضة، والقيام بخدمته طاعة، والرجوع إليه شوق ومحبة.
يظنُّ بعضُ المُتقوِّلين أن حبَّ الوطنِ كلامٌ يُتَرَنَّمُ به، وشِعرٌ يُنْظَم فيه، ونثرٌ يُسجَع عنه، متناسيًا أن حبَّ الوطن قولٌ وعمل، حبٌّ وتفانٍ، جِدٌّ وإخلاصٌ، أثبتتْه الأيام، وشهِدت به اللَّيالي، وحكم به الواقع؛ فالناس صِنفان:
1- صِنفٌ: يقول ويعمل، يجدُّ ويجتهد، يأخذ ويعطي، يُفيد ويستفيد، إذا حكَمَ حكَم بعدلٍ وإنصاف، وإذا ذاد عن وطنه ذاد بحبٍّ وإخلاص، وإذا أُوكِلَ إليه مسؤوليةٌ تَحَمَّلَها بأمانة فلا يفرِّطُ بها؛ بل يؤدِّيها على أكمل وجه، ما إن يُمسِك منصبًا إلَّا وكان الأجدرَ والأنجح والأفضل في عمله، الجلوس معه راحة، والسير متعة، والكلام يُفيد؛ لهذا يكتبه التاريخ في أعلى صفحاته، تتبادل ذكره الألْسنُ، وتُحكى سيرتُه للأبناء، فيخلُد ذكرُه مدى العمر، ويُدعى له بالرحمة والمغفرة كلما مرَّ على طَرَف لسان؛ فمِن أُولئك الأعلامِ الأشاوس أمثالُ: سعد بن أبي وقاص، والمُثنَّى، وخالد بن الوليد...، فَهَا هو (رستم) يقول كلمته المشهورة: " يا ليتني تبادلت معك يا سعد...".
2- صنف: يظلُّ يُثرْثِر أينما حلَّ أو ظلَّ، يُكثر الكلام ويُقلُّ العمل، تسمعُ منه جَعْجَعةً ولا ترى طِحْنًا، يدَّعي الوطنيةَ وهو عنها بعيدٌ بُعدَ الشمس في كبد السماء، فلقد خصَّص له التاريخ صفحةً سمَّاها: (أردأ صفحات التاريخ)، رماه في زاويةٍ مهجورة عفِنَةٍ، يُذكر بالخيانة والعمالة، لم يرَ الناس منه يومًا أبيضَ في حياته، إذا جلس على كُرسِيٍّ أهانه؛ غشَّ، وسلب، ونهب، تتداوله الألسن بأسوأ ما فيه، فلا خلُقَ له، سفيهٌ في قومه، حقيرٌ في عشيرته، بذيءٌ في مجتمعه، يسرق أملاكَ وطنه، وينهب خيراتِه، ويسفك دماء أبنائه، هتَّاكٌ لأعراض العامة، يعيث في وطنه فسادًا وإجرامًا، فهذا الصِّنف يمقتُه الوطنُ وأبناؤه؛ فلا يقبلُه جنديًّا في صفوف مقاتليه، ولا موظَّفًا في مكاتبه، ولا طبيبًا في مستشفياته، ولا فردًا يحِقُّ له البقاءُ فوق تُرابه، يرميه الوطن رميَ البحر بالميتة؛ بل يُفرِده المجتمع إفرادَ البعيرِ المُبعَد، حديثه غِيبة، موضوع تعبير عن العلم, وسِرُّه نميمة، إذا ولَغ في الماء عكَّره، وإذا جلس في مجلسٍ أفسده، وإذا دخل بين الناس أشْعل بينهم الفتنة؛ فحُقَّ للوطن أن ينفيَه، ويرميَه؛ قال تعالى: ? فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ? [الرعد: 17].